رؤى

الإنسان أولا.. وصفة الإقلاع الحضاري

في البدء كان الإنسان، هكذا يجب أن نقول بدلا من اعتيادنا القول في البدء كانت الدولة، فالإنسان خلقه الله قبل التنظيمات والجماعات والتكوينات المختلفة، والإنسان هو صانع تلك التكوينات وبانيها ومبديها لتجعل حياته أيسر وأسهل، وتجعل مهمته في تحقيق الاستخلاف وعمران الأرض قابلة للتحقق.

في الغرب استطاع الإنسان أن يتخلص مما اعتبره قيدا علي حريته وتفكيره وانطلاقه وإبداعه، أسقط سطوة الكهنوت الكنسي، وفتح الباب على مصراعيه لتجاوز ما أطلق عليه هوبز “اللوثيان” أي وحش الفوضى. من هنا ظهرت نظرية العقد الاجتماعي التي تقول إن الإنسان يتنازل عن بعض حريته حتى يتشارك الناس جميعا في فضاء آمن مشترك بعيدا عن احتمالات الحرب والمواجهة بينهم، ومن هنا كانت الأفكار حول التسامح وقبول الآخر والاعتراف للمختلفين في الأفكار والمذاهب الدينية والفكرية بحرية الوجود والتعبير عن أفكارهم.

أوجدت الدولة في النظم الحديثة طرائقها في الحكم على الإنسان عبر القانون والقيود، ما جعل كاتبا مثل ماكس فيبر يتحدث عن القفص الحديدي الذي يرى الإنسان محبوسا بداخله. كما أن التخصص وتقسيم العمل جعل الإنسان أكثر اغترابا وعزلة، وهربرت ماركوز تحدث عن الإنسان ذي البعد الواحد، وكيف تؤثر التكنولوجيا باعتبارها أداة سياسة على تنميط البشر والسيطرة على أفكارهم وعقولهم  لخدمة القوى المسيطرة.

وتحدث “آلان تورين” في كتابه “نقد الحداثة” عن الإنسان كفاعل اجتماعي وسياسي، لا تطغى الدولة على حريته ولا تطغى القوي المهيمنة عبر رأس المال على قراراته واختياراته وحريته.

 في الخبرة الإسلامية الحضارية تم تهميش الإنسان لصالح مشاريع الدول والإمبراطوريات الكبرى، ففي الإمبراطورية العثمانية على سبيل المثال ورغم أن التسامح كان أحد مميزاتها في علاقتها مع مواطنيها، إلا أن الإنسان لم يكن في قلب مشروعها، وحين أنشئ أول دستور للدولة العثمانية عام 1876 لم يطبق سوى عدة أشهر ثم تم تعطيله لثلاثين عاما كاملة.

في عالم الشرق السلطان هو ظل الله في الأرض، والسلطة وصلت إليه لأنه قدر الله الذي لا يمكن مدافعته، وتأسست نظريات كاملة حول القبول بالإمام المتغلب باعتباره مانعا للفوضى ومحققا لوحدة الأمة، وأن حكم المجتمع بحاكم ظالم خير من ترك أمر الناس فوضى بلا حاكم.

مؤسس مصر الحديثة محمد علي رغم أهمية مشروعه الحداثي ونقله الإدارة من عالم القرون الوسطى إلى عالم الإدارة الحديثة، إلا أن مشروعه لم يكن قائما على أنه تعبير عن المجتمع وإنما تعبير عن أفكاره هو وتقديراته هو، والشعب لا دخل له في مسألة الحكم والسلطة، إنما هو موضوع له وأداة لتحقيق ما تريد.

التنظيمات الإسلامية المعاصرة أخذت صورة الدولة المشرقية في التحكم والاستبداد واعتبرت المنتسبين إليها أدوات لتحقيق مشروعها وهو دولة الخلافة أو الدولة الإسلامية، وظل أعضاء تلك التنظيمات مجرد متلقين لأوامر قادتهم، يعتبرونها إلهية وينفذونها حرفيا بما في ذلك التضحية بالنفس وقتلها بدعوى الانغماس في صفوف الأعداء، كما يحدث في عمليات التطرف العنيف الذي تنفذها داعش.

تنظر التنظيمات الإسلامية لمنتسبيها باعتبارهم الإنسان ذا البعد الواحد، المحقق لأسطورة المجاهد والمهاجر أبدا دون النظر إليه باعتباره زوجا أو رب أسرة أو صاحب مهنة، بل إن الكثيرين تركوا مهنهم وانخرطوا في أعمال القتال والجبهات الساخنة في كل أرجاء الأرض ظنا أن ذلك سيعيد الخلافة المسلوبة والكرامة المنتهكة، ما أفقد المجتمعات الإسلامية طاقة هائلة من شبابها المتخصصين في كافة العلوم والمعارف التي لو بقيت لأمتها ومجتمعها لكانت إضافة له في تحدي التخلف والجهل والتراجع الحضاري.

“إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم” .. هذه سنة من سنن الاجتماع البشري، التغيير يبدأ من النفس ويبدأ من الإنسان، فالدولة محتاجة لأن تجعل الإنسان هو أساس مشروعها، لا تستلبه ولا تهينه ولا تخذله، وهي مطالبة بأن تدرك أن الإنسان هو بنيان الله، وأن هدمه هو تضييع للعمران والحضارة وإشاعة روح الإحباط وفقدان الأمل.

والتنظيمات المختلفة عليها أن تدرك أن الإنسان هو ابن مجتمعه، وأنه صانع مستقبله وباني مقدراته، وأن مجتمعه  أحق به من تلك التنظيمات، وأن سطوها على الإنسان الشاب في مقتبل عمره جريمة تحرمه من حقه في التفكير وتحمل المسئولية واتخاذ قراراته بما يحقق له ولأهله ولمجتمعه سبل تحقيق نهوضه وتحرره.

الإنسان هو مشروع أمتنا نحو مستقبل جديد، وتحريره من شباك استبداد الدولة وسطوة التنظيمات هو إعادة الاعتبار لإنسانيته باعتباره فاعلا مسئولا في مجتمع يسير نحو التقدم والإقلاع الحضاري.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock