رغم خسارته قرابة 98% من المناطق الواقعة تحت سيطرته، لا يزال تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) مؤهلا بقوة لاستعادة سيطرته الكاملة على المناطق ذات الأغلبية السنية في كل من العراق وسوريا، وذلك بفضل ميزانيته الضخمة القادرة على تمويل حرب طويلة الأمد، إضافة إلى مهاراته الفائقة في تطوير مصادر إيرادات وتدفقات مالية جديدة.
هذا هو ما يخلص إليه كولين كلارك، الخبير السياسي في “مؤسسة راند”، والزميل المشارك في “المركز الدولي لمكافحة الإرهاب” في لاهاي، في تحليله الذي نشرته مجلة Foreign Policy الأمريكية في 10 أكتوبر 2018، تحت عنوان ISIS’s New Plans to Get Rich and Wreak Havoc.
يؤكد كلارك أن التنظيم اعتاد الاعتماد بقوة على العديد من المدن والمعاقل الحضرية الواقعة تحت سيطرته في كل من سوريا والعراق لتكديس مليارات الدولارات من خلال عمليات الابتزاز وفرض الضرائب والسرقات وبيع النفط المسروق. وفي أوج هيمنته على العديد من المدن العراقية والسورية في عام 2015، تمكن تنظيم الدولة من جمع ما يقرب من 6 مليارات دولار، ما جعله التنظيم الإرهابي الأكثر ثراء في التاريخ، ولا تزال الجماعة تثبت قدرات فائقة على كسب أموال طائلة حتى بدون السيطرة على مناطق شاسعة أو آهلة بالسكان.
وفي معرض إجابته على السؤال المركزي لمقالته التحليلية: “كيف استطاع تنظيم مسلح أن يجمع ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي لدولة؟” يحدد كلارك ثلاثة مصادر رئيسة اعتمد عليها التنظيم، وهي قطاع النفط والغاز، الذي بلغ دخله حوالي 500 مليون دولار في عام 2015، معظمها من المبيعات الداخلية. ودخول الضرائب والابتزاز، التي بلغت حوالي 360 مليون دولار في عام 2015. وعمليات نهب الموصل العراقية، حيث قام تنظيم الدولة في عام 2014 بسرقة حوالي 500 مليون دولار من خزائن مصرفية.
تقلص النفوذ على الأرض
فقد تنظيم الدولة الآن أغلب أراضيه، وتراجع من السيطرة على مساحة تعادل تقريبا مساحة بريطانيا العظمى إلى مجرد محاولة البقاء على قيد الحياة تحت الحصار في معاقله التي تنتشر في وادي نهر الفرات. لقد دمر التحالف الدولي لهزيمة داعش كيان الدولة الإرهابية في الشرق الأوسط وأفسد على زعيمها أبو بكر البغدادي أحلامه في إقامة خلافة إسلامية في قلب المنطقة، ولم يعد لدى التنظيم إقليم يخضع لسيطرته، وفقد بذلك عائداته من الضرائب والابتزاز وبيع النفط وتراجعت إلى درجة كبيرة قدرته على التمويل.
لكن بقاء التنظيم إقتصاديا – كما يؤكد كلارك – لم يعد يعتمد بالأساس على وجود إقليم يخضع لسيطرته. يرجع ذلك – من بين أسباب أخرى- إلى أن قيادته الباقية على قيد الحياة ربما تمكنت من تهريب 400 مليون دولار خارج العراق وسوريا. وستسعى الشبكة الممتدة التابعة للتنظيم إلى غسل هذه الأموال عبر شركات صورية تنتشر في المنطقة، كما يمكن تحويل بعض هذه الأموال إلى ذهب وتخزينها ليتم بيعها مستقبلا.
وإذا كان دخل التنظيم قد تراجع بصورة كبيرة، فإن نفقاته أيضا قد تراجعت إلى حدودها الدنيا مقارنة بما كانت عليه قبل عام واحد؛ إذ لم يعد هناك شبه حكومة مسئولة عن الرعاية الصحية أو التعليم أو دفع رواتب أو تقديم خدمات عامة، مثل خدمات النظافة والصرف الصحي. وفي ظل ميزانية تشغيل مخفضة إلى أدنى معدلاتها، يؤكد كلارك أن الأموال التي يمتلكها التنظيم حاليا ستفي تماما باحتياجاته للبقاء كجماعة إرهابية سرية مع القدرة على شن حرب عصابات طويلة الأمد في جميع أنحاء العراق وسوريا.
أنشطة إجرامية
ويلفت كلارك إلى نجاح التنظيم في تعزيز أرصدته المالية بمحفظة تمويل متنوعة؛ “فقد طور التنظيم قدرات فائقة وأساليب مبتكرة على جمع الأموال من خلال سلسلة من الأنشطة الإجرامية الجديدة، التي تتضمن انتزاع الأموال تحت التهديد، والخطف طلبا للفدية، والسرقة، وتهريب المخدرات، والإتجار في الآثار”.
كما يلفت أيضا إلى أن فرص إلقاء القبض على منفذي هذه العلمليات الإجرامية – بكل ما تنطوي عليه من مخاطرة – ضعيفة للغاية؛ حيث لا تتوافر حتى الآن قوات شرطية في العراق أو سوريا قادرة على ردع هذا النوع من النشاط الإجرامي على نطاق واسع. ويتوقع أن تكون الجماعة قادرة في المستقبل على إعادة تنشيط مصادر دخلها الخاملة، وذلك عن طريق ابتزاز سكان المناطق النائية، خاصة أن أعضاء التنظيم قد تمكنوا إبان إقامة دولتهم من جمع معلومات وبيانات مفصلة عن أصول وممتلكات ودخول وعناوين الأفراد. “لا شك أن هذه المعلومات ستساعد أعضاء التنظيم على ممارسة عمليات تخويف وابتزاز واسعة النطاق ضد المدنيين، وستسمح لهم باستعادة تدفقاتهم المالية”.
ويضيف كلارك أن هناك طريقة أخرى يمكن أن تساعد تنظيم الدولة على مواصلة جمع المال دون أن تكون له دولة على الأرض. تتمثل هذه الطريقة في نهب مخصصات إعادة إعمار الموصل، وغيرها من المدن المدمرة. “لقد أجادت التنظيمات السابقة على تنظيم الدولة الإسلامية (القاعدة في العراق والدولة الإسلامية في العراق) فن ابتزاز شركات الإعمار وسائر الكيانات المشاركة في إعادة بناء المدن والقرى التي كانت تحاول أن تتعافى من سنوات الصراع الطائفي الضروس في العراق”. لم يسيطر هذان التنظيمان في أي وقت من الأوقات على أي بقعة تناطح في مساحتها المنطقة التي كان يسيطر عليه تنظيم الدولة، لكنهما كانا قادرين في الفترة بين عامي 2006 و2009 على جمع أموال طائلة عن طريق نهب شبكات توزيع النفط المحلية والإقليمية.
يمكن أن تكرر هذه العملية نفسها مجددا على مدى السنوات القادمة في الوقت الذي يسعى فيه المجتمع الدولي إلى مساعدة العراق وسوريا على التخلص من الآثار الكارثية التي خلفها عقد كامل من الحرب الأهلية. فالمساعدات المخصصة لإعادة إعمار المناطق المنكوبة في العراق وسوريا – رغم أنها تنطوي على نوايا طيبة – يمكن أن تمثل هدفا جاذبا للدولة الإسلامية، وموردا مهما لتمويل عودته، وهو ما يمكن أن ينجزه التنظيم حتى بدون أن يمتلك مساحات شاسعة تحت سيطرته. سيكون من السهل على التنظيم أن يطلع على العقود، وأن تتواصل عناصره ببساطة مع المسئولين المحليين عن المشروعات، وأن يدرج عملاءه في سلسلة التوريدات، وأن يجني المال الوفير في كل مراحلة من مراحل العمل. ويشدد كلارك على أن عناصر التنظيم يعملون بقوة من أجل ضمان اكتمال المشروع، ولكن بسعر مبالغ فيه ليبرروا الأموال التي تنهال على خزائنهم.
إلى جانب ذلك، يؤكد كلارك أن تنظيم الدولة يسعى بقوة في الوقت الراهن إلى استعادة سيطرته على حقول النفط في المنطقة المحيطة بدير الزور قبيل الهجوم المرتقب من قبل القوات السورية الديمقراطية. ووفقا لتقرير صادر عن مجلس الأمن في يوليو الماضي، فقد تمكنت الجماعة بالفعل من استعادة سيطرتها على حقول النفط في الشمال الشرقي من سوريا، وتواصل استخراج النفط سواء لاستخدامه من قبل مقاتليها، أو لبيعه في الأسواق المحلية. ولكن، حتى بعد أن يتم استعادة هذه الحقول بمساعدة القوات الأمريكية (وهو ما سيحدث لا محالة، وفقا لكلارك)، فإن تنظيم الدولة سيعود ببساطة إلى ممارسة أنشطته الإجرامية التي لا تستلزم بالضرورة السيطرة على مساحة من الأرض.
إعادة هيكلة
ويحذر كلارك من أن الأصول الحالية التي تمتلكها الجماعة إضافة إلى قدراتها المستقبلية على جمع مزيد من المال سيمكنها لا محالة من إعادة هيكلة وتنظيم صفوفها، وهو ما بدأ فعليا في أجزاء متعددة من العراق وسوريا. ففي جميع أنحاء كركوك، في شمال العراق، أقام عناصر تنظيم الدولة نقاط تفتيش زائفة لنصب كمائن لقوات الأمن العراقية التي تعمل في المنطقة في وقت مبكر من هذا العام. وفي أجزاء أخرى من العراق، مثل محافظتي ديالى وصلاح الدين، تقوم خلايا التنظيم النائمة بمراقبة واستطلاع هذه المناطق لتحديد الطرق المثلى لشن عمليات من قبل تشكيلات مصغرة من المقاتلين يشرع التنظيم فعليا في بنائها. وعلى الرغم من الغارات الجوية الأمريكية، لا تزال جيوب عناصر تنظيم الدولة تتحصن في مدينة هجين، وشمال أبوكمال، والدشيشة في سوريا.
يميل الغرب إلى رؤية الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية على أنها مراحل منفصلة تتعاقب عليها إدارات رئاسية، وتتخللها تغيرات سياسية طفيفة. أما الجهاديون فينظرون إليها على أنها معركة واحدة طويلة الأمد، منذ بدايتها الأولى على عهد “أبو مصعب الزرقاوي”، وإلى أن يتحقق لهم مشروعهم . وحتى تدرك الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها هذه الحقيقة، فمن المرجح أن يكرر تنظيم الدولة استراتيجيته القائمة على العمل تحت الأرض قبل أن يعاود الظهور مجددا، حتى تسحب الولايات المتحدة قواتها بالكامل، أو حتى تتمكن الجماعة من استعادة سيطرتها على مساحة من الأرض لإعادة هندسة المرحلة القادمة من مشروع بناء دولة الخلافة.