منوعات

من ريجان وتاتشر إلى ترامب.. قصة صعود وانهيار النيوليبرالية

بيت دولاك – كاتب مهتم  بقضايا حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، ومؤلف كتاب It’s Not Over: Learning from the Socialist Experiment «الأمر لم ينته بعد:التعلم من التجربة الاشتراكية» (2016).

عرض وترجمة: أحمد بركات

 عندما انتُخب رونالد ريجان رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية في عام 1980، لم نكن نعرف في ذلك الوقت أن الحقبة الرأسمالية قد بدأت، وأن صعود ريجان في الولايات المتحدة، ومارجريت تاتشر في بريطانيا قبله بعام واحد، قد أرخ لنهاية الحقبة الكينزية (نسبة إلى عالم الاقتصاد الإنجليزي «جون مينارد كينز» الذي دعا إلى تدخل الحكومات للمساعدة في التغلب على انخفاض الطلب الكلي، وذلك من أجل الحد من البطالة وزيادة النمو). قبل ذلك بأقل من عقد من الزمان، كان ريتشارد نيكسون يؤكد بملء فيه «إننا جميعا كينزيون الآن».

جون مينارد كينز

كان انتخاب ريجان صدمة مدوية، حتى أنني اعتقدت أن الأمريكيين سينكصون على أعقابهم في اللحظة الأخيرة أمام فكرة وصول متطرف لا ينطق إلا عن أكاذيب وهراء إلى البيت الأبيض. ربما بالغت كثيرا في تقدير دور الجماهير، لكن عقد السبعينات كان يحمل قدرا من عدم اليقين الاقتصادي يكفي لدفع الناس للتصويت لممثل سيء لمجرد أنه أسمعهم ما كانوا يريدون سماعه.

وهكذا ولدت النيوليبرالية، رغم أن المصطلح لم يكن قد ظهر بعد (في ذلك الوقت كنا عادة نشير إلى «الريجانية» و«التاتشرية»). ولم تغرب سياساتهما بانتهاء مدة ولايتهما. فقد اجتاحت العالم حقبة جديدة أكثر شراسة. ولا يسعني سوى التفكير في أوجه الشبه بين هذه الحقبة من جانب، والسنوات الأربع الماضية، التي حملت أيضا مقدم برامج سيء ومخادع في تليفزيون الواقع إلى البيت الأبيض لمجرد أنه أيضا أخبر الأمريكيين بما كانوا يريدون سماعه.

رونالد ريجان

ما كان قديما صار جديدا

يمكن تقسيم رأسمالية ما بعد الثورة الصناعية إلى ثلاث حقب متمايزة. أولا، حقبة «عدم التدخل» (Laissez faire) التي تعرضت لضغوط قاسية في قترة «الكساد الكبير»، وتبعتها كينزية منتصف القرن العشرين. ويمثل مبدأ «عدم التدخل» أيديولوجيا تعارض التدخل الحكومي في الشئون الاقتصادية بما يتجاوز الحد الأدنى الضروري للحفاظ على حقوق الملكية (لا تزال هذه الأيديولوجيا قائمة؛ إذ أصر عراب النيوليبرالية، «ميلتون فريدمان»، على أن الدور الوحيد المناسب للحكومات هو إنفاذ العقود، وتوفير الدفاع العسكري). ثم جاء «الكساد الكبير» الذي أسهم في انحسار مبدأ «عدم التدخل»، وفتح المجال أمام نظريات بديلة.

ميلتون فريدمان

وتمثل الكينزية ببساطة الاعتقاد بأن الرأسمالية غير مستقرة، وتطالب بتدخل الحكومة في الاقتصاد عندما تعجز، أو تحجم، الشركات الخاصة عن إنفاق ما يكفي لإخراجه من الركود. لقد اعتمدت كينزية منتصف القرن العشرين على القاعدة الصناعية وتمدد السوق. لكن تكرار التاريخ غير وارد لأن القاعدة الصناعية للدول الرأسمالية المتقدمة قد تم تفريغها، وتحولت هذه الدول إلى دول نامية ذات أجور متدنية، ولم يعد في الغالب ثَم مكان يمكن أن تتمدد فيه الرأسمالية. لقد تحمل الرأسماليون ارتفاع الأجور بعد الحرب العالمية الثانية بسبب ارتفاع مستوى الأرباح، وتوافر أسواق جديدة يمكن غزوها، إضافة إلى مخاوفهم من أن يؤدي الارتفاع الكبير في التنظيم الاجتماعي إلى تجريف نظامهم.

ومع انهيار الكينزية على مدى سبعينات القرن الماضي، أو – على وجه أكثر دقة – عندما لم يتحمل  الرأسماليون دفع رواتب أفضل، وتقديم ظروف عمل أفضل في مواجهة تراجع الأرباح في عالم أكثرتنافسية على الصعيد العالمي، دشن كبار رجال الصناعة والمال  عصر النيوليبرالية «الحقبة الثالثة» في محاولة لتعزيز الربحية. لم يكن هناك قوى مضادة فعالة بعد تلاشي الحركات التي كانت قد انتشرت في الستينات. وكان ريجان وتاتشر نتيجة – وليس سببا – لمعطيات العهد الجديد. واستغرق فهم ذلك بعض الوقت. ومع إعلان «نهاية التاريخ» إبان انفراط عقد الاتحاد السوفيتي، تسارعت وتيرة سحق قدرة العمال على الدفاع عن أنفسهم.

وها هنا نحن اليوم. ففي ظل فرص عمل أقل إلى درجة غير مسبوقة، وارتفاع تكاليف السكن والتعليم بمعدلات أسرع بكثير من التضخم والأجور، وانهيار قدرة رأس المال على نقل الإنتاج دون جهد إلى الأماكن التي تصل فيها الأجور والرقابة على العمل إلى معدلاتها الدنيا، وخضوع  الأنظمة السياسية بشكل كامل لسلطة كبار الصناعيين والممولين، ليس مستغربا أن تتصاعد موجات الغضب في جميع أنحاء العالم. لقد وصلت النيوليبرالية إلى نهايتها المنطقية.

سيناريوهات المستقبل

ماذا سيخلف النيوليبرالية إذن؟ وكم من الوقت يمكن أن تعيش الرأسمالية؟

لن تكون هناك عودة إلى الكينزية، حتى لو كان من الممكن أن يكون ذلك هو العلاج للآلام التي يتكبدها العالم. إن أوضاع منتصف القرن العشرين لم تعد موجودة. وليس علينا إلى أن نجمح بخيالنا لنعرف ما الذي سيكون كبار الرأسماليين في العالم على استعداد للقيام به للاحتفاظ لأنفسهم بالسلطة والمال. ربما يكون تعليق الدساتير وتطبيق الفاشية الصارخة ممكنا إذا لم يجد أصحاب المصانع والأموال بديلا مناسبا لبقاء أحزابهم على عرش العالم إذا تدهورت الأوضاع إلى حد شروع أعداد كبيرة من الناس في سحب موافقتهم على النسخة الديمقراطية الرسمية لحكم الشركات.

لكن، حتى هذا لن يكون سوى إصلاحا مؤقتا، إذ لا يمكن أن يكون لدينا نمو غير محدود على كوكب محدود، كما لا يمكن تدمير البيئة إلى ما لا نهاية. ومن غير المحتمل أن يحدث انهيار مفاجئ للحضارة بفعل الرأسمالية غير المقيدة؛ وبدون تدخل حركة جماهيرية عالمية، فمن المرجح أن تتداعى الحضارة الصناعية الحديثة ببطء على مدى عقود، وبالتالي فإن الرأسمالية – وفقا لهذا السيناريو – ستبقى أيضا لعقود. وأيا كان التالي فيما تبقى من أنقاض فلن يكون على الأرجح مُرضيا، وسيعتمد شكل المستقبل بدرجة كبيرة على قدرة الأجيال القادمة على تنظيم اقتصاد تعاوني في عصر الندرة، وهزيمة المحاولات الحتمية لفرض أنظمة ديكتاتورية من شأنها أن تقدم حلولا مبسطة  لمشكلات معقدة.

ولن تحل التكنولوجيا جميع مشكلاتنا المستقبلية. فعالم «ستار تريك»، الذي تحل فيه، بعد عقود من الحرب النووية، فترة وفرة ورخاء للجميع غير واقعي.؛ إذ أن شهورا -ناهيك عن عقود- من الحرب النووية ستكون كافية لتحويل البشرية إلى دولة بدائية، إذا افترضنا أن بشرا سيبقون على قيد الحياة بعد هذا النوع من الحروب. كما أن استخدامات التكنولوجيا تقوم بالأساس على علاقات القوة. فالتكنولوجيا اليوم يمكن استخدامها لتقليص عدد ساعات العمل وتقليل الجهد، لكنها، بدلا من ذلك، تستخدم لتكثيف العمل وفرض رقابة على العاملين. ولأننا نعيش في مجتمع متفاوت وغير متكافئ بدرجة كبيرة، فإن التكنولوجيا تمثل أداة في يد من يمتلكون القوة ورأس المال، بدلا من أن تكون وسيلة لتحرير الإنسان وخلق عالم أفضل.

وبرغم أننا لا نستطيع أن نعرف توقيت انتهاء صلاحية الرأسمالية، إلا أنه سيكون على الأرجح في وقت ما خلال هذا القرن. وإذا كنا في المراحل الأولى من نهاية النيوليبرالية، فإن هذا لا يعني أننا في المراحل الأولى من نهاية الرأسمالية. وبالنظر إلى قدرة الرأسمالية على استيعاب المعارضة ومرونتها، فمن المتصور أن يحل شكل جديد من الرأسمالية محل النيوليبرالية. وإذا أخذنا في الاعتبار أن حركة قوية يجري تنسيقها على أساس عالمي، فإن النسخة الجديدة من الرأسمالية يمكن أن تكون أفضل، ولو بصورة مؤقتة. لكن هذه الحركة التي تهدف إلى إحداث إصلاحات داخل الرأسمالية ستصاب في نهاية المطاف بخيبة أمل؛ لأنه بمجرد أن تخمد هذه الحركات، تتبدد الإصلاحات التي تحققت بشق الأنفس. ومن ثم، فإن الحركة العالمية التي تسعى إلى خلق عالم أفضل لا تملك خيارات حقيقية سوى العمل من أجل إلغاء الرأسمالية، واستبدالها بنظام ’ديمقراطية اقتصادية.

إن صعود سلطويين يمينين تراودهم طموحات بأن يصبحوا ديكتاتوريين فاشيين، من شاكلة دونالد ترمب، وجايير بولسونارو، ورجب طيب أردوغان، وفيكتور أوربان، وغيرهم، لا يجب أن يكون نذيرا للمستقبل، مثلما كان صعود ريجان وتاتشر في ثمانينات القرن الماضي. ومع وجود حركة منظمة من عدد كاف من الأفراد حول العالم لن يكون الأمر كذلك.

يوما ما كان العالم يحكمه ملوك يجلسون على عروشهم بمشيئة إلهية (أي بدعوى أن الله اختار عائلة ما لتحكم إلى الأبد). واعتقد معظم سكان ذاك العالم بهذه الخرافة. واليوم، سيكون الترويج لفكرة كهذه من دواعي السخرية. ليس من زمن بعيد في تاريخ البشرية، كان ملايين الناس يرزحون تحت نير العبودية، حيث تؤول ملكية إنسان إلى آخر فيصبح الأول بلا حقوق على الإطلاق. ولم يكتف الناس بالاعتقاد بأن بعضهم أدنى درجة، وأنهم ’مؤهلون‘ لهذه العبودية، بل آمنوا أيضا بأن العبودية ضرورة حتى لا ينهار الاقتصاد. أما اليوم، فإن أعتى العنصريين لا يستطيع أن يجاهر بشيء من ذاك.

إن الرأسمالية ليست «نهاية التاريخ»، وإنما مجرد نظام قمعي كغيره من الأنظمة التي احتلت حقبا من هذا التاريخ. كما أنها ليست أكثر ديمومة من العبودية والإقطاع والملكية المطلقة، وغيرها من أنظمة الماضي. وإذا لم تكن كذلك، لما كان هناك الكثير من النشاط المحموم لإقناعنا بأنه لا يوجد بديل». سنقرر النظام المقبل في السنوات القادمة. وإذا لم نفعل، فسيقرره لنا آخرون.

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock