أهل قريته “أبشاي” بمحافظ كفر الشيخ أطلقوا عليه وصف “صانع الأصنام” لطبيعة عمله في نحت التماثيل، إلا أنه نجح باقترابه منهم ومعايشتهم لعمله عن قرب أن يغير مفهومهم عن النحت وأن يتعرفوا بأنفسهم على ماهية وجمال هذا الفن الذي طالما برع فيه المصريون وبقى شاهدا على حضارتهم العريقة على مدى الزمان، بل أن شباب القرية أقبل على العمل معه في المسبك الخاص به الذي أنشأه في قلب قريته التي فضل أن يقيم بها وتحتضن ميلاد أعماله منذ تخرجه من كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية في نهاية السبعينيات، وهنا يكمن رهان المبدع على بيئته المحلية وما يمكن أن تحققه المعايشة الحية من تغيير زاوية الرؤية من الجانب السلبي إلى الإيجابي.
التقينا الدكتور سيد عبده سليم على هامش معرضه الأخير “المكان” الذي يعرض فيه نماذج من أحدث أعماله إلى جانب أعمال عدد من تلاميذه الذين عايشوا تجربته الثرية وشاركوه العمل في مسبك صهر البرونز في قريته، الذي يعد الأول من نوعه في مصر، بعد أن كان يتم إرسال الأعمال لصهرها في إيطاليا في السابق..
وهنا نص حواره مع “أصوات” الذي سعينا فيه لاستجلاء بعض ملامح تجربته الفنية.
حدثنا عن بداياتك الأولى، وإصرارك على مواصلة العمل في نفس البيئة التي شهدت مولدك؟
عندما تخرجت من كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية في نهاية السبعينيات، عاودني الحنين إلى قريتي “أبشاي” بمحافظة كفر الشيخ وسط الدلتا التي شهدت نشأتي، وفضلت البقاء بها حتى الآن، لحبي لهذا المكان وإيماني بأهمية معايشة الفنان للبيئة التي ينتمي إليها، وما ينتجه ذلك من تواصل حي مع الناس يثري التجربة كثيرا.
ونظرا لعملي في النحت، بادرت إلى إنشاء أول مسبك لصهر خامة البرونز في مصر داخل قريتي، خاصة بعدما شعرت بمعاناتنا كنحاتين من اضطرارنا لإرسال أعمالنا ليتم سباكتها بإيطاليا. ومع إنشاء المسبك بدأت أستقطب عددا من أهالى القرية للعمل به وتعليمهم فنيات هذه المهنة التي تستغرق 18 مرحلة لإنجاز العمل.
انخراط أبناء القرية في هذا العمل ساعد على تغيير نظرة الناس إلى طبيعة عملي، بعد أن كانوا ينظرون لي في السابق باعتباري “صانع أصنام”، حسب وصفهم. أصبح هناك احترام وتقدير لقيمة ما يمثله هذا الفن عبر معايشتهم الحية لتجربتي الفنية وانخراط أبنائهم فيها ورؤية ما تحظى به أعمالي من تقدير داخل مصر وخارجها من خلال متابعة الأخبار والأفلام التسجيلية التي توثق هذه التجربة. وقام عدد من الفنانين الشباب من القرية وخارجها بسباكة أعمالهم بأنفسهم بعد تعلمهم تقنيات السبك، وتم عرض نماذج من أعمالهم إلى جانب أعمالي في معرض “المكان”.
تلعب الأسطورة دوراً كبيراً فى أعمالك.. ما الذي يغريك بهذا الجانب؟
نحن نحيا في عالم الشرق الملئ بالحكايات والأساطير، وهنا أذكر قصة لوحة النحاس “يا صاحبي السجن” التي استوحيت فكرتها من قصة سيدنا يوسف عليه السلام، التي صورها لنا القرآن وتحكي حوار الحلم وتفسير الرؤيا بين سيدنا يوسف ورفيقيه في السجن، الذين رأى كل منهما حلماً خاصاً به؛ الساقى يرى فى المنام أنه يعصر خمراً ، والخباز يرى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). أعجبت بالقصة فقررت تصويرها في عمل يجسد حال السجن ومشهد الطيور وهي تأكل من رأس أحد أصحاب الحلم، وكذلك الشخص الذى يعصر خمراً والأقدام التي ترمز إلى العلاقة الموجودة في التاريخ المصري القديم، وترمز إلى الزمن الممتد إلى الآن وما بعد الآن، في إسقاط فلسفي على الحياة و الكون.
الأسطورة موجودة دائماً، والشكل الأسطوري مكون من أشياء واقعية موجودة. على سبيل المثال، أبو الهول جسد أسد ورأس خفرع، الملك خفرع موجود وكذلك الأسد ولكن الفنان صنع ربطاً بين الحالتين، فلماذا لا أخرج بالتفكير من الواقع إلى تفكير خاص بي. محمود مختار أعاد صياغة النحت المصري القديم بأسلوب حديث، نستطيع أن نقول إنه رائد الكلاسيكية الحديثة في مصر، مثل جاك لويس دافيد في فرنسا أيام الثورة الفرنسية. ثم جاءت بعده تيارات وافدة من أوروبا تأثر بها فنانون آخرون بدأوا يقلدون الفن الأوروبي.
اليوم لدينا الفيس بوك ووسائل تواصل عديدة يأخذ منها فنانون دون تقديم إضافة حقيقية. أردت أن يكون لتجربتي خصوصية على عكس ما نرى في معارض عديدة، شغلي لا تخطئه العين لأني لم أرتبط بالفن المصري أو الأوروبي فحسب، بل أخذت من كل جانب التفكير والسلوك والبحث في الأسباب وإضافة ما يعبر عن شخصيتي.
ثلاثون عاماً على فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، كيف رأيته في تمثالك له؟
كُلفت بعمل تمثال الكاتب الكبير نجيب محفوظ بمناسبة بلوغه عامه التسعين في عام2002. قدمت عدة تصميمات مقترحة من خامة البرونز، ووقع الاختيار على نموذج لتمثال يجسد “محفوظ” يحمل الجرائد ويسير في الشارع. كان من المقرر أن يوضع التمثال على كورنيش النيل أمام بيته، وتقرر لاحقا إقامته في ميدان “الكيت كات” إلا أن الفكرة استبعدت لاعتراض بعض الإسلاميين على وجود التمثال إلى جانب مسجد وجمعية شرعية في الميدان، في النهاية استقر الأمر على وضع التمثال في ميدان سفنكس بالمهندسين، أحد الميادين الهامة بمحافظة الجيزة. كنت قد صممت قاعدة للتمثال لا يزيد ارتفاعها على 2 متر حتى يكون قريباً من المارة الذين يسيرون بالشارع، بما يعكس شخصية نجيب محفوظ كرجل يسير بين الناس ويجلس معهم في المقاهي، إلا أن الأمر انتهى إلى أن يوضع التمثال على قاعدة طولها 9 أمتار، بدعوى أن يراه كل من يسير أعلى الكوبرى أو أسفله بشارع جامعة الدول العربية، وأرى أن وضع التمثال على قاعدة مرتفعة ساهم في تحجيمه واختلاف واختلال مسار الرؤية له.
نجيب محفوظ ومصصم تمثاله د- السيد عبده سليم
سبق قيامك بنحت التمثال لقاء نجيب محفوظ شخصيا، كيف كانت رؤيتك له؟
عاصرت نجيب محفوظ في سنواته الأخيرة قبل وفاته في عام 2006، وعندما التقيته عام 2001 كان قد تقدم فى العمر، كان سعيدا بالطبع بفكرة عمل تمثال له، رأيته متواضعاً وبشوشاً، عرضت عليه جميع التصميمات الموجود هو وزوجته واقتنع بالتصميم الذي اختارته اللجنة المشرفة على التمثال، لم يتدخل في الاختيار أو التفاصيل، وللأسف لم يحضر حفل إزاحة الستار عن التمثال نظراً لمرضه.