ثقافة

الدكتور محمد المهدي.. غواص في بحر العباقرة (1)

الدكتور محمد المهدي أستاذ ورئيس أقسام الطب النفسي بجامعة الأزهر ونائب رئيس الإتحاد الدولي لعلماء الطب النفسي،يعد ضمن أبرز رموز التيار التنويري بالأزهر الذي يمتد عبر سنوات طويلة ، منذ عام 1745م حيث برز العالم الأزهري المجدد الشيخ حسام الدين الهندي المتوفي عام 1776ثم كان الجيل الثاني وعلي قمته نابغة الطب وعلم التشريح ,أول طبيب أزهري ممارس وهو  العالم أحمد الدمنهوري شيخ الأزهرمن عام 1768ولمدة عشرة أعوام وهي الفترة التي شكلت نواة قضايا التحديث ،ويعد د/ المهدي واحد من أبرز أطباء علم النفس في مصر والوطن العربي وله مؤلفات عديدة حول العبقريات المصرية ،ومن ضمن ما كتب حوالي ثلاثين كتاباً من بينهم  دراسة متفردة  مهمة بعنوان (سيكولوجية الصهيونية ) وقدم العديد من البحوث داخل وخارج مصرومنذ سنوات صار يدرس بعمق في( علم نفس الأدب ) كواحد من أهم المساهمين في هذا المجال ، حيث درس نجيب محفوظ نفسياً وقدم عنه دراسة  نفسية ممتعة حول أحلام اليقظة ، كما قدم دراسة نفسية  تشرح وتفسر عبقرية عبد الرحمن الأبنودي ، وصلاح جاهين كان له نصيب مهم ( في الأدب النفسي للمهدي ) ودراسات متعددة عن فلتات الفكروالفن المصري ، فتراه يقدم بحثاً عن عمنا الشيخ إمام عيسي وكيف تحول هذا الشخص البسيط المهمش لعبقرية مصرية فذة، ثم أبو النجوم .

هذا هو السر الغامض لعبقرية كوكب الشرق قلت للدكتور محمد  المهدي لماذا تخصصت في التشريح النفسي للعبقريات المصرية ؟

فقال د.المهدي ربما عشقي للفنون والشعر والأدب، لكن مصر المتفردة هي شخصية حية فعلاً تراها في هؤلاء العباقرة ؛من في مصر لايحب نجيب محفوظ أو الأبنودي أو صلاح جاهين ، عندما تشاهد أغنية للست تلاحظ  التناغم  العجيب في علاقة أم كلثوم بجسدها  يزيد الوهم الأسطوري والغرامي، وتصبح النجمة بين الذكورة(قوة الشخصية ) والأنوثة.  تسيطر علي جسدها وتعرف متي تكون حركة الغناء علي المسرح لتلتقط التصفيق ،ثم تعرف متي تبتسم ومتي تحرك يدها  وفؤادها وقلوب عشاقها، مع عظمة صوتها. الأمر الذي يحيّر في حياة (أم الهول)، كما يسميها الكاتب الأردني  شاكر النابلسي، أنظر كم كانت أم كلثوم تعرف مدى هيام احمد رامي بها ، ولكنها كانت شخصية قوية وذكية جدا ، وكانت تدرك أن هذا الحب هو ما يحرك رامي لكتابة روائعه وأنه لو تزوجها لانطفأت تلك الجذوة في قلبه ،ويحدث له ما يحدث لكثير من الأزواج من فتور عاطفي ، ولهذا فعلت مافعلت ،ولم تمكن رامي أبدا من زواجها رغم فضله الكبير عليها وتعلقه الهائل بها ، إذ كان حبها لفنها ووفائها له يفوق حبها ووفائها لرامي ، وفضلت رامي شاعراً متأجج المشاعر مبدعاً لروائع الأشعار والأغاني على رامي زوجاً راضياً خاملاً كسولاً صامتاً ، وهذا هو سر العبقرية وحسابات العبقرية معقدة جداً عند كوكب الشرق أم كلثوم ، كانت تدير مؤسسة كبري ضخمة ( هي ذاتها وعبقريتها) ،تأمل علاقتها الفنية مع الموسيقار محمد عبد الوهاب ، فقدم لها أعظم الروائع الفنية تكفي غنوتها الخالدة أنت عمري ( لقاء السحاب) ونفس عبد الوهاب الذي كان ينافسها علي عرش الموسيقي , وقد انتصرت عليه في معركة نقيب الموسقيين، مع ذلك كان صديقها الأعز، وتحتار أنت وغيرك في فهم تلك العبقرية هل عبد الوهاب خضع وصار كلثومياً ، أم العكس الذي حدث ، ثم كيف تجرأت وعدلت أشعار أمير الشعراء أحمد شوقي ؟ ، بل لو شاهدت طريقة حديث عبد الوهاب لها وهو يقول سوما وحرصه علي كل حرف في العمل وهو يقبل يدها لابد وأن تشك هل  كان ضمن المحبين وخاف أن يعلن ، هل حبيبها  هو أحمد باشا حسانين  سكرتير الملك فاروق،  عندما تسمع منها ياحبيبي ونبض قلبي ونور حياتي ، يكاد قلبك يطير من مكانه ، فما بالنا بمن تغني معه ،ويبقي لغز الحبيب المجهول للست هو  الموضوع الشائك في تلك العبقرية ،وسر كوكب الشرق هو علاقتها بالرجال وغرامياتها، فهي مغنية الحبّ وصوت الحبّ؟،  بالطبع يتصرف باحثون كثر مع الست كأنها مثل أبو الهول الجامد أبداً، لا أحاسيس لديها ولا مشاعر، لم يتطرقوا كثيراً إلى نزواتها الإنسانية، وما زالت جوانب حياتها الخاصة أو الشخصية يلفّها الغموض والكتمان ويحظّر الوصول إليها، كأنه لا يجوز الاقتراب من حياتها الخاصة إلا بورع واحترام ووقار، بسبب حضورها  الطاغي والمستمر كيف منعت بعبقرية فذه  عبد الوهاب من غناء أعمالها التي لحنها بنفسه ، لكن المؤكد بحق أن كل من دخل محراب عبقرية الكوكب  برضًى أو بحب أو حتي بغصب صار فخوراً بكونه ، لحن لأم كلثوم ، هي كانت تضع سياج ما مع الجميع يدخل محراب فنها الشخص المحدد بتوقيت محدد ثم يخرج ،وهذا هو السر الغامض في حياة كوكب الشرق ، تأمل تجربة القصبجي مدهشة فهو قامة فنية كبرى وأستاذ لها، بل ولمحمد عبد الوهاب نفسه مع ذلك لم يصل القصبجي في المجد كما تلميذته،

بحق سيدة مصر الأولى هي كوكب الشرق ، بعبقرية نادرة ، حتي تركت الوجد يشعل رامي و بل فعلته مع القصبجي الذي كان هائما بها ولكنها تركته يخرج هذا الهيام ألحانا عذبة ولا تشبع شغفه الشخصي بها ، وحين تزوجت اختارت طبيباً بعيدا عن دائرة الإبداع العبقرية المحيطة بها والتي كانت أحد أهم أسرار، أم كلثوم ليست صوتأً جميلا فقط ولا موهبة فذة ، هي عبقرية في إدارة عبقريتها ، وهذا هو الفرق ، ثم تأمل كيف قدمت أم كلثوم  عباقرة من صنع يدها ، كيف صار الشاب الصغير بليغ حمدي يدخل  عالم أم كلثوم بطريقة مدهشة ، هي التي اكتشفت فيه مساحات موسيقية بخبرتها الكبيرة ، وهي كيف حولت بيرم التونسي من شاعر صعلوك لنجم كبير يجالس الرؤساء بعد أن كان مطارداً ،بل ويحصل علي وسام رئاسي من جمال عبدالناصر، والعملاق رياض السنباطي الذي خاصمته خمس سنوات كاملة بسبب قفلة غنوة الأطلال حتي عاد للكوكب الكلثومي  ،  كيف غنت مع كورال الأطفال بدار الأوبرا  بكل تواضع ،وهي التي كان يهابها الحكام ، و كما قال عبد الوهاب ذات مرة،لقد ورثت منها الوسوسة الفنية ، فسومه لاتقبل سوي بالقمة فقط  لتكتمل عندي سلسة الوساوس القهرية ، هي بحر من المعرفة ،بل فيضان  تكمله موهبة تطغى على عثراتها لو وجدت تختفي خلف ذكاء وأداء مدهش  ، وقصة عبقرية بليغ حمدي مع كوكب الشرق مدهشة  فقد ساهمت ألحان بليغ حمدي في تجديد دم وحياة أم كلثوم المطربة دون شك، وحولتها إلى مطربة أخرى غير التي عرفها الناس من قبل، وكانت الست تدرك حجم وأهمية ذاك الشاب المعجزة حينها، والذي أتى ومعه شعراؤه مثل عبد الوهاب محمد ومأمون الشناوي، والذين جددوا دم أم كلثوم بعيدا عن ألحان السنباطي والشيخ زكريا وكلمات بيرم، فكانت فترة الستينيات  هي فترة بليغ حمدي والملحنين والشعراء الجدد والنجوم التي لمعت تحت ظلال عبقرية أم كلثوم .

أم كلثوم وأحمد رامي
أم كلثوم وأحمد رامي

كيف فتش العقاد عن سر أم كلثوم

في ليلة سأل أحد الحاضرين صالون العقاد عن معني أسمها ، فظل أسابيع والعقاد يفتش في لغات العرب ومصر القديمة ليعرف معني اسم أم كلثوم ، التي عشق صوتها وكتب عنها ثم قال لها في جلسة  صالون العقاد ،اسمك يا ست يعني الراية الحريرية  التي يرفعها المنتصر في الحرب، عبقرية  أم كلثوم  من فتاة ريفية  بسيطة لسيدة أولى  في الوطن صارت صاحبة كلمة ، إذا صدرت صحيفة تكون هي في صدر صفحتها الأولى، بل ويسعى حكام مصرلتثيبت حكمهم وفرض هيمنتهم الثقافية علي مكانة محبوبة الجماهير ؟ كل الدنيا شاهدت ثوار ثورة يوليو وهم في حضرة الكوكب يلتمسون منها أن تحمل رؤى يوليو علي صوتها، وقد كانت صديقة شخصية للبيت الناصري ، تحضر دون موعد ، صحفيون وكتاب كبار بشهادة مصطفي أمين سمعوا الست وهي التي تخاطب الرؤساء بالأسم  المجرد تقول( جيمي) للزعيم جمال عبد الناصر وتقول( أبو الأنوار) للرئيس السادات وتلك كلمة أبو الأنوار كادت تعصف بالكوكب بسبب غيرة جيهان السادات ؟ وقد نشب صراع علي لقب سيدة مصر الأولي حسمته أم كلثوم ، هذه هي مواصفات العبقرية مجسدة في شخصية أم كلثوم

عبقرية عبد الحليم عبدالله لم تحتمل كلمة هابطة فمات في لحظة هل هناك فعلا حساسية غير منظورة في العباقرة المصريين أو غيرهم ؟

يتميز العباقرة بإدراك مختلف ،وإحساس مميز عن بقية الناس، فهم يدركون التفاصيل التي لا يدركها بقية الناس ،ويرون علاقات بين المتفرقات لا يراها حتي كبار النقاد، و ربما يلمحها طبيب مثلي بعد بحث  طويل عبر سنوات من التأمل ، ودرجة حساسيتهم هائلة لذلك يرون في الأحداث التي تمر بعموم الناس مر الكرام شيئا بالغ الأهمية فينقلوه لنا قصصاً أوشعراً أو فناً رائعاً ، ولهذا لا نستغرب أن يموت الروائي الرومانسي العظيم محمد عبد الحليم عبد الله صاحب شجرة اللبلاب وبعد الغروب ولقيطة ، علي إثر مشادة مع سائق عربة أجرة كان يستقلها وهو ذاهب إلى قريته بالبحيرة كلمة واحدة سب السائق بها الأديب الكبير فمات فقال (أنت مبتفهمش ) وهو  حادث مأساوي نادر لايتكر ، وقد ميّز في مجمل أعماله بين الحب العفيف النقي البريء ، وقدم بصدق وعفوية كل ما كان يراه في مصر ومجتمعه ، وعمل خبيرا لسنوات طويلة في مجمع اللغة العربية في القاهرة ، و رئيسًا لتحرير مجلة مجمع الخالدين .والغريب أن العبقريات المصرية ليست متشابهة بل كل واحد منهم له تكوينه النفسي  الخاص ،سيد مكاوي تحول من كفيف لمبصر مدهش متميز ، وهذا تحدي تكرر مرة واحدة مع عمار الشريعي.

وأن يموت صلاح عبدالصبور حين يذكر له أحد محدثيه كلمة “مات” كفنان وأديب ، فأجهزة الاستقبال لدى هؤلاء العظماء تجسد الكلمة إلى صورة، ثم إلى واقع حقيقي يتفاعلون معه ويتأثرون به، ويؤثر بالضرورة على قلوبهم الرقيقة وأجسادهم الحساسة ، وقد يكون العكس بمعني  تجليات العبقرية قد تعبر الزمن فلا موت فعلي سوي بالجسد ويبقي صاحب الفكر ، هل تصدق أن عبد السلام النابلسي في فيلم (يوم من عمري )  كان عمره في الثانية والستين في حين كان عبد الحليم حافظ في الرابعة والعشرين لكن عبقرية الفنان  قدمته فعلا في ما اختار من زمن  وهو الشيخ الأزهري المتخرج من كلية اللغة العربية والصحفي المميز في الأهرام ، لكنه علي الشاشة شخص آخر،  وإذا كانت العبقرية تحتمل المحن تحوله لإبداع ، فقد تعني العكس فهي  تعني المشاعر المرهفة ، العباقرة ربما يمرضون أو يموتون بسبب كلمة لا يلقي لها عوام الناس بالاً ، وقد تتحول العبقرية لمأساة في حالة نجيب سرور لم يحتمل جرح مشاعرة في قصة خيانة معروفة ، وقد انفجر طوفان الوجع شعرًا.

وقد تتحول العبقرية لتحدي مدهش يصل بك للقمة ، في تجربة الشيخ سيد مكاوي عظة لمن يرجو المغامرة والوصول للقمة ، سيد مكاوي لو مثل في السينما لصار أكبر كوميديان في مصر ، ساخر ، مرح ابن نكتة ، حاضر بقفشات مدهشة وذات يوم دخل التاريخ بخفة الظل ، فبعد أن وصل لكوكب الشرق  أم كلثوم وتحقق له حلم يحياته  بالتلحين لها ، فقد ارتكب جريمة عظمى في قانون الكوكب فقد تأخر عن الموعد عشر دقائق كاملة ، وتلك كارثة وصل الفيلا فلم تسمح له أم كلثوم بالدخول ، بكي فعلاً حتي كاد يموت من شدة الموقف ، ثم صرخ من الشارع ، (ياست عندي عذر قهري اسمعي مني وإذا لم يكن مقبولاً افعلي ما ترين ، فردت أم كلثوم ، طيب تعالي ياسيد ، دخل أم السيدة وهو يتصبب عرقًا باكيًا.

حضرتك ساكن في الزمالك ، وأنا جاي من السيدة زينب مشوار بعيد ، وكل السيارات تمر من الشارع وتقف أمام قصرك  حباً لكي وبالتالي حركة السيارات بطيئة جداً ، ردت أم كلثوم لماذا لم تتحرك من بدري ؟ فقال فعلاً تحركت من الصبح ،بس أنا اللي كنت سايق السيارة ، وقبل أن يكمل العبارة كانت أم كلثوم تنفجر من الضحك وقد سامحته وقد لها لحن يا مسهرني ، هنا فعلا مشهد عبقري في حياة سيد مكاوي ، كيف أنقذ مستقبله بتصرف غريب ومفاجئ ، ليبقي في محراب القمة مع سيدة الغناء العربي ، وقد جاءت في كتب التاريخ قصصًا  كثيرة عن مواقف فارقة في حياة العباقرة.

https://www.youtube.com/watch?v=VifIS8r9ANQ

الموت بالقطعة مع الفيلسوف

العبقري صلاح جاهين مات قبل أن يموت بسنوات فعلاً ، ربما مات قطعة قطعة ، مرة مع نكسة عام 67ومرة أخرى مع وفاة سيد مكاوي الموسيقار الفذ صديق عمره ، وماتت منه قطعة عندما ذهب للولايات المتحدة وعمل رجيم قاسي ، فلم يمت من السمنة ومات  ( بعد أن صار رفيعًا) ، عندما درست أعمال صلاح جاهين وجدت فيلسوفاً عظيماً متخفيا خلف الشعر والرسم ،وثنائيةالوجدان عنده مدهشة ، كنت في مؤتمر الدمعية الأمريكية للطب النفسي في نيويورك 2014وحضرت مشاركاً في جلسة المبدعيين العباقرة من كل بلاد العالم الذين تركوا بصمة واضحة في التاريخ الإنساني ، مثل نيوتن وفان جوخ ، فقدمت شاعر مصر العظيم صلاح جاهين كنموذج (عبقري متفرد ) قدم الشعر عميقاً وبسيطاً ولطيفاً في آن واحد،فقد عاش في تجوال مستمر  بين مرتفعات المرح ومنخفضات الاكتئاب خرجت لنا في كل ألوان الطيف ،( شعر، رسم، مسرح، ممثل ، منتج ،صحفي ورئيس تحرير) ولهذه الشخصية سحر خاص.

 سر عبقرية عابر الزمن  النجيب محفوظ

وعندما تناول الدكتور محمد المهدي فتح كنز أسرار نجيب محفوظ ، كما كتب في كتابه دراسة نفسية لأحلام نجيب محفوظ، يقرر أنه قدم معظم قوانين النفس البشرية بصورة ممتعة ،تلك القوانين التي تحكم الحارة ( رمزية الوطن أوالبلد ) ويعتمد نجيب علي السرد الفلسفي الرمزي طوال الوقت بطريقة فيها حرص شديد وفي مرة واحدة سقطت منه الرمزية فكاد يضيع بسبب وشاية ، لكنه نجح ومن يتابع سيرة ومسيرة نجيب يرى ، عبقرية مختلفة ، شخص منضبط جداً ، يستحضر وقت الكتابة والأبداع ، كأنه يتحكم في ذاته المبدعة ،ومن حسن حظي أنني عشت عصر نجيب محفوظ ، هو عندي منهج لفهم بعض مكونات بلادي .

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

المذيع  الفلته وعبقرية مجهولة لايعرفها الناس

لا يتوقف بحث الدكتور  محمد المهدي عند النجوم بل صار يهتم حتي بالعباقرة المهمشين  الذين لايعرفهم أحد ولك قصة جميلة تتعلق بمذيع مصر في شبكة إذاعة القرآن الكريم في مصر ، تخيل شخص بلا يدين ولا ذراعين ، وينقش علي الحجر ومذيع فذ واسمه رضا عبد السلام يحفظه كل محبي  الإذاعة هو كروان جميل ، ونحات مصري أصيل وهذه بعض سطور كتبها د/ المهدي يشرح فيها ، عبقرية رضا عبد السلام .

يقول د/مهدي جاءني صوته عبر التليفون طيبا نديا وقويا في آن , صوت مدرب على ألا يزيد ولا ينقص , صوت مؤكد ولكن في مرونة , صوت يحمل مشاعر ودودة وكأنني أعرفه من سنين , قال بعد أن ألقى التحية : ” أنا رضا عبدالسلام من إذاعة القرآن الكريم أريد أن أجري معك حوارا في برنامج سيرة ومسيرة ” , واتفقنا على التفاصيل في وقت قصير , وقد لفت نظري أنه يعرضها بتحديد وإيجاز يلفت النظر وفي وقت قصير جدا , وكأنه يقدر وقته ووقت من يحدثه . …

وحان وقت اللقاء فكانت المفاجأة , إنه هو نفسه المذيع الأسطورة الذي سمعت عنه كثيرا , أنه بلا ذراعين , وأنه يكتب بأصابع قدميه , وأن لديه ثلاث أصابع في كتفه الأيمن وإصبعين في كتفه الأيسر , ومع ذلك يمارس حياته بشكل سلس وعجيب , وهنا استيقظ الطبيب النفسي بداخلي ونسيت ما أنا ذاهب إليه , وشعرت برغبة قوية في أن أقلب الأدوار وأن أجري أنا معه الحوار , فقد علمتني مهنتي أن أقرأ النص البشري لأرى ما فيه من جوانب ضعف وجوانب قوة وعظمة وعبقرية , وهاأنذا أمام كنز إنساني , أرى أمامي شخصا يحمل جوانب عظمة عرفتها مما سمعت عنه من قبل ورأيتها بعيني وهو يستقبلني بحفاوة وكأننا أصدقاء من سنين , ويستطيع فتح أبواب استوديوهات مبنى الإذاعة التي سنجري فيها الحوار بسرعة وبراعة بأصابعه الملتصقة بكتفيه عبر ذراعان لا يتجاوزان سنتيمترات قليلة , وتوقعت أن يكون هذا التركيب الجسدي قد سبب له مشكلات هائلة في حياته تركت أثرا من المرارة والحقد على الناس والحياة , ولكنني وجدت العكس تماما فهو يتكيف بمرونة هائلة مع تفاصيل حياته , ويتعامل بطيبة وود ومحبة مع كل من لقيناه أثناء حركتنا في ردهات مبنى الإذاعة والتليفزيون فكأن كل من لقيناهم يحيطونه بالحب والتقدير والاحترام , فهو فوق كونه كبير مذيعين بإذاعة القرآن الكريم إنسانا بكل معنى الكلمة لا يضيع دقيقة واحدة في غير فائدة , فهو يتحرك بسرعة ولكنها حركة رشيقة ومنظمة ومدروسة جيدا , ويتحدث في حسم طيب , وابتسامته توحي بالرضا والسلام , ولديه من اسمه نصيب كبير .

كان هو يحاورني على مدى خمس حلقات عن كتبي وعن النفس البشرية وأسرارها بينما أحاوره أنا في صمت حوارا موازيا عن عبقريته في الصمود والإصرار والتكيف والنجاح والتميز والصبر والرضى وقهر كل الصعاب التي واجهته مع احتفاظه –رغم كل هذا – بنفس راضية سمحة لم تختزن إهانات أو مضايقات أو تعليقات أو عقبات , بل حملت كل الحب والمودة للناس , وهذا على غير عادة كثير ممن أصيبوا بإعاقات جسدية . كنت أشعر وأنا أتعامل معه أنني أمام كنز إنساني هائل , وأمام آية من آيات الله , فآيات الله تتبدى في السماوات والأرض والبحار والأفلاك , كما تتبدى جلية في بعض البشر الذين يمتحنهم الله بشئ يعتبره الناس نقصا أو اختلافا في الخلق عن المعهود وخروجا عن القاعدة ليثبت الله من خلالهم طلاقة قدرته وحكمته وسعة رحمته , وعظمة خلقه حتى فيما يظنه الناس نقصا أو عيبا خلقيا.

وعبقرية رضا عبدالسلام ليست عبقرية فردية تتجلى فقط في شخصه , ولكنها عبقرية أسرة مصرية بسيطة , تعيش حياة بسيطة , ولكنها تمارس عبقرية الصبر والرضا والأمل والصمود والصعود في مواجهة أزمة تقصم الظهر وتدمي القلب , وتتحرك مع طفلها الذي جاء إلى الحياة مختلفا عن بقية الناس , إذ جاء بلا ذراعين وبلا يدين , تلك الأعضاء التي يكابد بها الإنسان في حياته ويكسب بهما عيشه ويقضي بهما كل احتياجاته ويمارس بهما كل أعماله . ولا يتوقف الأمر على التكيف مع ظروف الحياة بلا ذراعين في الحد الأدنى للتكيف وممارسة الحياة البسيطة , ولكن يتخطاها إلى نجاحات لم ينجح في تحقيقها ملايين ممن تمتعوا بنعمة سلامة الجسد واكتماله.

في الحلقة القادمة كيف بكي الأبنودي عندما دخل معمل د.المهدي النفسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock