هل تواجه الديمقراطية في زمننا الحالي أزمة على مستوى العالم؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما طبيعة هذه الأزمة؟ وما هي جذورها ومآلاتها؟ وهل تتعلق هذه الأزمة بالكم فقط، أم أنها تمس الكيف أيضا؟
يواصل أستاذا العلوم السياسية، مايكل ألبرتوس وفيكتور مينالدو، بجامعتي شيكاغو وواشنطن، الاشتباك مع تساؤلات مشكلات الديمقراطية الشائكة، في الجزء الثاني من الدراسة التي حملت عنوان How Flawed constitutions Undermine Democracy، (كيف تقوض الدساتير المعيبة الديمقراطية؟)، ونشرتها صحيفة The Washington Post.
نزعة استبدادية
نظرا لصعوبة تغيير الدساتير التي سبق وضعها من قبل أنظمة سلطوية لا يزال أعضاؤها يحتلون مراكز قوى في المنظومة الديمقراطية الجديدة، فإن الأمور عادة ما تسوء عندما يسعى القادة المنتخبون ديمقراطيا إلى التخلص من انحيازات النخبة.
تضرب الدراسة مثلا بالحالة التركية، ففي عام 1982، وضع النظام الاستبدادي المنتهية ولايته دستورا تمت من خلاله عملية التحول الديمقراطي التي شهدتها البلاد في عام 1983، وشملت بعض الفخاخ التي تضمنها هذا الدستور منح المحكمة الدستورية صلاحية حظر الأحزاب “المتطرفة” وتحصين القيادات العسكرية من الملاحقة القضائية على خلفية انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها إبان تقلدها السلطة، فيما ظلت المؤسسة العسكرية والأقلية الحاكمة المتحالفة معها تتحكم في الصناعات الرئيسة التي تمثل عصب اقتصاد البلاد.
وعلى مدى العقدين التاليين أعلن كثير من المواطنين ورموز العمل السياسي استياءهم ورفضهم لهذه الأوضاع. وفي العقد الأول من الألفية الثانية، استغل رجب طيب أردوغان، رئيس حزب العدالة والتنمية آنذاك، هذه الحالة من الغضب الجماهيري لتحقيق الفوز في الانتخابات العامة وتشكيل الحكومة، ثم نجح بعد ذلك في توظيف التهديد الشعبوي وحالة الطوارئ التي كانت تمر بها البلاد للتخلص من الكثير من القيود المفروضة على حكومته.
رجب طيب أردوغان
لم تتوقف مساعي أردوغان عند هذا الحد، فقد دشن حملة موسعة لتوطيد أركان السلطة التنفيذية وتمكين الإسلاميين من أنصاره، وفي المقابل سجن خصومه من العسكريين وتطهير الجامعات وتقويض الحريات الفردية وإضعاف النظام القضائي. وفي عام 2017، تمكن من تحقيق انتصار آخر في استفتاء شعبي أيد ثمانية عشر تعديلا دستوريا، وأفضى إلى تحول تركيا إلى نظام رئاسي يطلق يد السلطة التنفيذية ويمنحها صلاحيات موسعة.
مثال آخر تورده الدراسة هو الحالة المجرية، فقد شهدت البلاد تحولها الديمقراطي في ظل دستور عام 1949 الذي وضعه النظام الشيوعي الاستبدادي (برغم أن هذا الدستور شهد تعديلات موسعة عشية التحول إلى النظام الديمقراطي في عام 1989). منحت هذه التعديلات رئيس الدولة مركزا قانونيا مهما، وأنشأت محكمة دستورية جديدة، وأسبغت الحماية على حقوق الإنسان وخلقت انتخابات حقيقية قائمة على التنافس، لكن بقي التحول السياسي في إطار الحدود القانونية التي فرضها الدستور القديم؛ مما سهل على رموز النظام السلطوي المنتهية ولايته حماية أنفسهم من المثول أمام القضاء والمحاسبة على جرائمهم السابقة.
في المرحلة التالية، لم يختلف المشهد في المجر كثيرا عن نظيره في تركيا؛ فقد اجتاحت مشاعر الغضب الجماهير المجرية جراء الوضعية الخاصة التي يحظى بها رموز النظام الاستبدادي السابق. وعلى مدى أكثر من 20 عاما بذلت الحكومات المنتخبة المتعاقبة جهودا مضنية لتعديل هذا الدستور، أو الإطاحة به كلية. وقد دفع هذا الغضب بالجماهير إلى التصويت لحزب فيدس اليميني المتطرف، وزعيمه فيكتور أوربان، الذي أصبح رئيسا للحكومة في أعقاب الانتخابات العامة التي شهدتها البلاد في عام 2010.
فيكتور أوربان
منحت هذه الانتخابات حزب فيدس فوزا كاسحا بعد أن حصل على ثلثي أصوات الناخبين، وهو ما مكنه من تشكيل أول حكومة غير إئتلافية بعد عام 1989. إضافة إلى ذلك، أصبح لدى الحزب من النواب البرلمانين والسلطات التنفيذية ما أهله لإعادة كتابة الدستور؛ إلا أنه فعل ذلك بطريقة غير ليبرالية. والآن تنخر التوجهات الاستبدادية لأوربان في عظام الديمقراطية المجرية.
الحالة الأمريكية
يساور القلق الكثير من المراقبين بشأن تراجع الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار، ليس فقط خطاب ترامب التحريضي وانتهاكاته المستمرة للمعايير غير الرسمية، ولكن أيضا رفض أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين عقد جلسات استماع بشأن ميريك جارلاند، مرشح الرئيس السابق، باراك أوباما، لشغل مقعد القاضي التاسع في المحكمة العليا، واستخدام كلا الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، القواعد الخاصة بالميزانية لتمرير تشريعات رئيسة في مجلس الشيوخ.
لكن الدراسة تؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك بنية مؤسسية قوية تدعم نظامها الديمقراطي، تجعل من الصعب محاولة المساس بالدستور الأمريكي لمنح الرئيس سلطات موسعة تجمع في يديه خيوط اللعبة السياسية وتؤهله للقيام بدور الرجل الأوحد. إضافة إلى ذلك يتمتع المجتمع المدني والمؤسسة الإعلامية الأمريكية بالقوة واليقظة التي تحول دون انزلاق البلاد إلى مستنقع الديكتاتورية.
وصفة النجاح
تكشف الدراسة أيضا أن الديمقراطيات التي تنحاز إلى نخبة الحقبة الاستبدادية يمكن أن تصبح أكثر تمثيلا ومساواة، وذلك من خلال إظهار قياداتها مزيدا من الحنكة في الممارسة السياسية وإدارة شئون الحكم، والتغيير التدريجي الوئيد. وتشير الدراسة إلى دولة السويد باعتبارها نموذجا يحتذى في هذا السياق. ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى عدم تمسكها بالنموذج الشعبوي، وهو ما يمثل أفضل منهجية يمكن أن تتبعها الديمقراطيات التي لا تزال ترزح تحت نير دساتير الحقبة الاستبدادية، وتبذل جهودا دؤوبة من أجل التخلص من معوقات ترسيخ جذور الديمقراطية، ومخاطر النكوص إلى النظم الديكتاتورية الغابرة.