شخص ما أو جهة ما قالت في يوم ما هذه المقولة: “لقد أصبح العالم قرية صغيرة”، ثم من كثرة ترديدها أصبحت كأنها حقيقة بديهية لا تقبل نقاشًا.
على أرض الواقع المعاش لم يصبح العالم قرية صغيرة، بل لن يصبح، دليلي على ذلك هي تلك الأيام التي أنفقتها في متابعة ثلاث حوادث كبرى وقعت في الفترة الأخيرة ثم لم أظفر بحقيقة، بل كنت أجدني أحيانًا كأنني المتابع الوحيد. ولو كان العالم قد أصبح قرية صغيرة لهب كثيرون لمعرفة حقيقة ما جرى.
الحادثة الأولى: وقعت على أرض وطننا، ففي مساء أحد الأيام أعلنت الجهات المسئولة عن نشوب حريق في نخيل محافظة الوادي الجديد. عندما تعلم أن معيشة سكان الوادي تعتمد بشكل يكاد يكون أساسيًا على صناعة التمور، وأن تمر الوادي مصنف عالميًا من حيث الجودة ووفرة الإنتاج، ستعلم أي مصيبة ضربت بيوت هؤلاء. في البدء قال المسئولون إن الحريق دمر عشرين فدانًا من النخيل وأحرق خمسة آلاف نخلة. بعد ذلك البيان المقتضب، غرق الجميع في الصمت.
بدأت البحث بجهد فردي فوجدت تضاربًا عجيبًا في الأرقام يكاد ينسف أي حقيقة. العشرون فدانًا أصبحت مائة وخمسين فدانًا، والخمسة آلاف نخلة أصبحت عشرين ألف نخلة، ثم لا شيء عن وجع المصيبة وحرارة المأساة.
فأين هي وحدة العالم وقرويته؟ اصبر معي، وسيأتيك بيان بوحدة العالم، ولكن على غير الوجه الذي يروجون له.
الحادثة الثانية وقعت في إندونيسيا، وقالت وكالات الأنباء إن أمواج تسونامي ضربت جزيرة سولا ويسي الإندونيسية إثر تعرضها لزلزال عنيف بقوة 7.5 على مقياس رختر، ما أدى إلى تدمير مبان كثيرة، ودفع الكثير من السكان إلى مغادرة منازلهم مذعورين نحو الشوارع. وقال المتحدث باسم إدارة مكافحة الكوارث إن عدد الضحايا يصل إلى أكثر من 1400 قتيل، مع توقعات بزيادة العدد.
ما زاد الطين بلة أن بركان سبوتا جبل بجزيرة سولا ويسي قد بدأ ثورته، ملقيا كميات ضخمة من السحب الرمادية في السماء يمكن رؤيتها من على بعد مئات الكيلومترات. وذكر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة أن حوالى 200 ألف شخص يحتاجون إلى مساعدة إنسانية عاجلة، وقدر عدد المساكن المُدمرة بـنحو 66 ألف منزل.
فجأة خفتت المتابعة الإخبارية التي كانت ضئيلة أساسًا، ولم يذكر أحد أن العدد المبدئي للضحايا يفوق العشرة آلاف إنسان ماتوا تحت الأنقاض، ثم لم يذكر أحد أن دولة مثل إندونيسيا يبلغ عدد سكانها أكثر من 225 مليون نسمة، وهي رابع أكبر دولة في العالم من حيث الكثافة السكانية، ستكون عمليات الإنقاذ بها من أصعب العمليات. نحن الآن لا نعرف شيئًا عن مصير سكان الستة والستين ألف منزل التي هدمت.
إذا كان العالم قد أصبح فعلًا قرية صغيرة فلماذا لم يهتم أحد بكارثة وقعت في أحد شوارع تلك القرية المزعومة؟
الحادثة الثالثة هي الإعصار الذي ضرب الولايات المتحدة الأمريكية، وعنه قالت وكالات الأنباء: ضرب إعصار «فلورنس»، ولاية كارولينا الشمالية الأمريكية، وبلغت سرعة الرياح فى مركزه نحو 150 كيلومترا في الساعة، وسرعان ما وصلت إلى 280 كيلو مترًا في الساعة، وتسبب الإعصار في حدوث فيضانات وانهيارات أرضية خلّفت أضرارًا كبيرة فى البنية التحتية بالمنطقة التى ضربها. وقدر محللون في وكالة موديز الأضرار الناجمة عن إعصار فلورنس بما يتراوح بين 38 و50 مليار دولار، حسب صحيفة «وول ستريت جورنال»، استنادًا إلى تقرير الوكالة المالية.
هذا كلام عن الحجر، فأين البشر صناع الحضارة؟ أين الذين قذف بهم الإعصار إلى خارج الحياة؟ أين المدارس والحدائق والمصانع والجامعات؟ أين أنين الخوف ورعشة الوحدة وبكاء الأطفال؟.
ابحث ما وسعك البحث لن تظفر بإجابة، لأن المراد لك هو أن تعرف شيئًا تافهًا عن كارثة كبرى. مَنْ الذي بيده المعرفة ويمنحها لمن يشاء ويمنعها عمن يشاء؟
مَنْ الذي بيده توحيد العالم وجعله قرية صغيرة، وبيده أيضًا جعله جزرًا معزولة غارقة في ذاتها وصمتها؟.
الروائي الإنجليزي الفذ جورج أورويل لديه الإجابة. في 4 ديسمبر 1948، أرسل أورويل المخطوطة النهائية لروايته التي حملت عنوان “الرجل الأخير في أوربا” إلى دار نشر، اقترح الناشر تغيير العنوان ليصبح “1984”، وبالفعل صدرت الرواية تحت العنوان الجديد في 8 يونيو 1949.
الملخص المختصر للرواية أن أورويل توقع أن يصبح العالم كله في العام 1984، أي بعد أربعين عامًا من نشر روايته مقسمًا إلى ثلاث دول رئيسية.
يهمنا هنا الوقوف عند دولة “أوقيانيا”، تلك الدولة المتخلية ستصبح بعد قليل النقطة المركزية التي ستنطلق منها مقولة “العالم قرية صغيرة”. دولة أوقيانيا يحكمها حزب واحد، والحزب يقوده رجل واحد غامض جدًا يدعى “الأخ الأكبر”. شعارات الحزب هي السياسات العامة التي تنفذها الدولة، وهذه الشعارات هي: الأخ الكبير يراقبك، الحرب هي السلام، الحريّة هي العبودية، الجهل هو القوة، من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي.
يقوم الأخ الأكبر بمراقبة جميع الشعب من خلال شاشة تسمي شاشة الرصد، توجد في كل مكان فى البلاد، حتى في منازل المواطنين وفي غرف نومهم. يسيطر الأخ الأكبر على جميع تفاصيل حياة سكان أوقيانيا، الذين يعيشون تحت المراقبة المستمرة طيلة حياتهم، ويتحكّم بمشاعرهم ويلغي أغلبها مع إبقاء الغضب والكراهية والشك بالذات وبالآخرين.
وزارت الدولة أربع وزارات فقط، هي: وزارة الحقيقة، التي تزوّر الحقائق وتبتدع الأكاذيب، فتقوم بتزوير الماضي أو تخفيه، وتحريف ما جاء بالصحف الأجنبية، أو ما جاء بكتب التاريخ، فتغير وتعدل به، وتمزق ما لا تريده أن يصل.
الوزارة الثانية هي وزارة الحب، التي تسوم النّاس العذاب، وتمنع الأزواج، بل كل الشعب من ممارسة حياتهم الجنسية.
الوزارة الثالثة هي وزارة السلام، وهي المختصة بإعلان الحروب وتكديس الأسلحة.
أما الوزارة الرابعة، فهي وزارة الوفرة، التي تعني بتجويع النّاس.
تمضي أحداث الرواية في رسم الحياة الكابوسية التي سيعيشها العالم بداية من العام 1984، فالأخ الأكبر سيراقب كل شيء ويسمح بما يريد ويمنع ما يريد، والعجيب أن كابوس أورويل قد أصبح حقيقة على يد الانترنت، وقبل سنوات من التاريخ الذي حدده.
ذكر موقع البي بي سي أن نشأة الانترنت تعود إلى الستينيات في وحدات الجيش الأميركي، وكانت البداية عبارة عن شبكة تسمى “أربانت” (ARPA)، وهي شبكة بدائية لنقل البيانات بين أجهزة الحاسوب في ذلك الوقت، ما لبثت أن تطورت في السبعينيات إلى شبكة “إن إس إف” (NSF)، التي شهدت تطورات كبيرة في عالم الاتصالات.
وبحلول العام 1984 أصبح هناك الآلاف من أجهزة الكومبيوتر التي تستطيع بيسر وسهولة تبادل المعلومات ونقل البيانات فيما بينها لتدشن مركزية الأخ الأكبر الذي أصبحت جغرافية العالم بين يديه يتلاعب بها كما يشاء.