جدل كبير يدور في أوساطنا الثقافية حول سبل الخروج من أزمة الخطاب الثقافي العربي في السنوات الأخيرة، ومعالجة مواطن الخلل التي أفرزت هذا الكم الهائل من أفكار مغلوطة، خاصة ما يتعلق منها بالدين الإسلامي، ينسبها أصحابها تعسفا على ديننا الحنيف، ولم تجد نفعا حتى الآن محاولات عدة سعت للتصدي لهذه الأفكار وتفنيدها.
القضية ليست حكرا على علماء الدين وفقهائه، وإنما هي في أمس الحاجة إلى إسهامات مفكرينا ومثقفينا التنويريين، وربما كانت أحدث هذه الإسهامات ما طرحه المفكر والناقد الأدبي صلاح فضل، خلال مشاركته في صالون ابن رشد، الذي يشرف عليه الدكتور مراد وهبة أستاذ الفلسفة المرموق.
جانب من الصالون
بمبضع المحلل والجراح الماهر، حاول صلاح فضل الكشف عن مواطن الخلل في ثقافتنا العربية المعاصرة، لافتا إلى ما يربطه من علاقة خاصة بمدرسة وأفكار الفيلسوف العربي ابن رشد منذ أن كان يدرس الأدب العربي بجامعة مدريد بإسبانيا. بدأ فضل بمحاولة تدقيق مصطلح “الخطاب الثقافي”، موضحا أنه مكون من شقين هما: الخطاب، والثقافة. وقال إنه سبق أن قدم تعريفا قديما لمفهوم الثقافة تضمنه كتابه “تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي”، إلا أنه الآن أكثر ميلا إلى ذلك المفهوم الذي قدمه ستراوس في تعريف الثقافة، ومفاده ببساطة أن كل ما يجده الإنسان على الأرض يمثل الطبيعة، وأن الثقافة هي كل ما يستحدثه ويصنعه بيديه من إبداعات وتغييرات، فالغابة –على سبيل المثال- هي تعبير عن الطبيعة، أما صناعة البساتين والحدائق فهي الثقافة.
معضلة ثقافية
أما الخطاب، فهو تعريف أكثر حساسية ودقة، ويمكن أن نعتبره التجسيد الفني للثقافة، وهذا التعبير يتخذ أشكالا عدة متمثلة في النحت أو الكتابة أو أي شكل من أشكال الفنون. واعتبر أن أبرز تجليات الخطاب الثقافي تتمثل في الكتب، بدءا من الكتب العلمية والدراسية، وهذه هي الأخطر كونها مسئولة عن صياغة وبلورة أفكار عقول غضة ساذجة، وهي هنا بمثابة الخامة الأولى للعقل، ويأتي بعدها الكتب عموما ومحتوى الإعلام بأنواعه: المقروء والمسموع والمرئي، وأخيرا الرقمي، ثم الفنون كالسينما، فنحن في أوج عصر الصورة، أما النوع الرابع الأخطر والأكثر انتشارا وتأثيرا فهو الخطاب الديني الذي يملأ ساحاتنا الدينية والثقافية، وترسم هذه العناصر مجتمعة ومتفرقة ملامح الخطاب الثقافي في حياتنا.
واعتبر فضل أن هيمنة حجم الحضور الديني المكثف أحد أبرز أسباب محنة خطابنا الثقافي الراهن، لافتا إلى الانتشار غير المسبوق للمعاهد الدينية في مستويات التعليم المختلفة. وقال إنه حين كان منتسبا إلى أحد هذه المعاهد في الستينيات من القرن الماضي لم يكن عددها الإجمالي يتجاوز خمس معاهد، في حين يقارب عددها الآن نحو 15 ألف معهد ديني، مشددا على أن هذا التوسع المبالغ فيه غير مبرر ولا يمثل احتياجا ملحا للمجتمع، فلسنا في حاجة لكل هذا الكم من الدعاة الذي تهدف هذه المعاهد إلى تخريجه، والأوقع والأجدى أن يتحول هؤلاء إلى مفكرين وباحثين وعلماء وفلاسفة.
إشكاليات التقدم
وتطرق فضل إلى ما اعتبره أبرز التحديات التي تعاني منها الثقافة المصرية المعاصرة، ولخصها في ثلاث إشكاليات أساسية، تناولها بالتفصيل في طرحه، وهي:
الأولى، وهي إشكالية بالغة الطرافة ولا يتطرق لها العقل ببساطة، تتعلق بأننا مجتمع بالغ الثراء ثقافيا، فعند الحفر الأركيولوجي في طبقات ثقافتنا التاريخية، نجد أن مصر لها أربع مراحل ثقافية: الحضارة والثقافة الفرعونية، والثقافة البيزنطية والرومانية المتمثلة في مدرسة الاسكندرية في الفكر والفلسفة والأفلاطونية المحدثة، وفترة الثقافة المسيحية، وأخيرا الثقافة العربية الإسلامية في مرحلة ما بعد الفتح الإسلامي. وحسب فضل، فإن الأزمة تكمن في أن هذه الثقافات جميعا لا تزال حاضرة متجاورة ومتزامنة في ثقافتنا المعاصرة ولكل منها سطوته وحضوره، فإذا كان جسم الإنسان يتكون من خلايا، وهذه الخلايا يموت بعضها وتنشأ أخرى مع مراحل تطوره العمري، فإن ثقافتنا المصرية حافظت على جميع خلاياها، ولم تتخلص من أي منها، وربما حان الوقت للتخلص من بعض هذه الخلايا.
الإشكالية الثانية، أن نظرتنا لتاريخ البشرية لا تزال تسير وفق الرؤية القديمة، بمعنى تقسيم التاريخ إلى ما قبل ميلاد السيد المسيح، وما بعد الميلاد، بينما تعتمد الأمم المتقدمة تقويما آخر، وهو ما قبل عصر العلم، وما بعد عصر العلم. وأوضح أن استمرارنا في التصور القديم يجعل العصور لدينا مختلطة وممتزجة، حتى لدى النخبة التي تبدو غير قادرة على التمييز ما بين العصور، وبالتالي لا نملك القدرة على التوزيع العادل لثروتنا الثقافية، فإذا كانت الثقافة الإنسانية تنقسم إلى: ثقافة دينية، وآداب، وفنون، وثقافة علمية، فالوقع لدينا أن نوعا واحدا يشغل حيزا لا يقل عن ثمانين بالمائة من بؤرة اهتمامنا، وهي الثقافة الدينية.
الإشكالية الثالثة متعلقة بالنخبة المصرية، وقد انساقت من ورائها النخبة العربية، وهي أن رواد النهضة العربية وقعوا في مأزق اجترار الماضي في مواجهة مشكلات واقعنا المتمثلة في الاستعمار الخارجي والتخلف الذي صنعه الاحتلال العثماني، وهو أمر سقط فيه كثيرون بدءا من أحمد شوقي وطه حسين وعباس العقاد، فجميعهم لجأوا إلى استراتيجية واحدة ظنوها ناجحة، وتتمثل في استدعاء التراث وصناعة هالة من التاريخ الإسلامي الأول منذ عهد الخلفاء الراشدين، ما بدا واضحا في كتابات العبقريات، ومرآة الإسلام، وعلي وبنوه،.. وغيرها من المؤلفات، وبذلك أداروا وجهة العالم الإسلامي إلى الماضي بدلا من المستقبل، وبعدها استغلت الحركات الإسلامية الرجعية هذا النهج، وعملت على تضخيمه.
رهان الديمقراطية
رغم ذلك، اعتبر فضل أن ثمة بارقة أمل للتغيير والنهوض اذا تخلينا عن نهج اعتبار كل مورورثنا ثروة يجب الحفاظ عليها، و تخلينا عن فكرة أن أصولنا الفرعونية تدفعنا إلى اعتناق الديكتاتورية، وسعينا إلى الديمقراطية كمنجز إنساني من حقنا التمتع به. وأضاف: يمكننا أن نستدعي الأصول، لكن دون أن تفرض نفسها علينا، وشريطة أن ننسبها إلى عصورها، وعلى أن يتواكب ذلك مع الانتباه إلى ضرورة تقليص حجم الحضور الديني المهيمن على حياتنا.
في تعليقه على طرح الدكتور صلاح فضل، اختتم الدكتور مراد وهبة الندوة بالتأكيد أن الأزمة لدينا تكمن في “أننا لدينا أفراد تنويريين لكننا لا نمتلك تيارا تنويريا ينهض بالمجتمع، ويوجه التيارات الرجعية كالإخوان والسلف ومن على شاكلتهم”. وأضاف: الماضي لا ينبغي أن يستدعى في حاضرنا بأي شكل من الأشكال، وإذا كنا نرفع شعار التنوير تحت راية ابن رشد، فذلك مبعثه كون ابن رشد جزءا من الماضي أو التراث، وإنما باعتباره صاحب رؤية مستقبلية استشرافية لم يستطع الواقع في زمانه استيعابها، ومن ثم ناله مع فكره ومؤلفاته ما نالهم من اضطهاد، وتوارى في تاريخنا بينما استوعبه الغربيون.
مراد وهبة