صدرت عن دار “أوراق” للنشر في القاهرة رواية “شنكالنامه”، للروائي السوري، المقيم في الإمارات، إبراهيم اليوسف. الرواية ترصد واحدة من أصعب مآسي الإنسانية على أرض العراق، عندما شنت عناصر تنظيم داعش في عام 2014 حربا وحشية استهدفت إبادة المواطنين الإيزيدين، عبر قتل رجالهم وخطف النساء والأطفال وبيعهم في أسواق الرقيق.
الروائي إبراهيم اليوسف يروي في هذا الحوار مع “أصوات” معايشته لأجواء الجريمة التي عصفت بالإيزيديين على أيدي عناصر التنظيم الإرهابي.. فإلى نص الحوار.
لماذا اخترت هذا العنوان للرواية؟
حقيقة، ظل العنوان يشغلني إلى وقت غير قليل. في البداية لم أرد استعادة هذا العنوان الذي استخدمته- شخصياً- من قبل، وكان عنوان قصيدة لي كتبتها بعيد مأساة شنكال بساعات، وكانت ذات نفس ملحمي استعرضت فيها الكثير من الألم الشنكالي، إلا أنني أيقنت في ما بعد أن الألم أكبر، ولابد من سرد بعض التفاصيل، فكانت هذه الرواية “شنكالنامه”.
كيف رأيت الإبادة الإيزيدية الأخيرة في عام 2014؟
ما حصل من إبادة لأهلنا الكرد الإيزيديين في شنكال، يكاد ألا يصدق وكان ذلك مقدمة لإبادة الكرد عن بكرة أبيهم في كردستان كلها لو أن مشروع داعش أفلح. هذا المشروع الذي بدا الكرد العمود الفقري في مقاومته، ، ليس من كردستان وحدها، وإنما من العالم كله. لقد ظهرت عفونة وكارثية الإرهاب ولؤمه وبؤسه التاريخي من خلال مفردات غزو شنكال وسبي الأطفال والنساء، ناهيك عن المجازر المفتوحة للإيزيديين عامة، رجالاً وشباباً، ومحاولة محو آثارهم وحرق معابدهم وأماكنهم المقدسة. حرب الإبادة بحق أهلنا في شنكال هزت وجداني، وصرت أتابع ما يدور، وأقوم ببعض ما يمكن فعله.
أسراب الطيور السوداء التي تحمل السموم في الرواية، من أين أتت؟ ولماذا استهدفت الإيزيديين بسمومها؟
أسراب الطيور التي بدت مع بدايات غزو شنكال، ترجمة لنذير الميثولوجيا الإيزيدية لسلوك أعداء هؤلاء الكرد المختلفين. إنها كانت نذير شؤم وترجمة للحقد التاريخي على الإيزيديين، لأنهم حافظوا على الكثير من بقايا الديانة الكردية الأولى. ثمة أكثر من استخدام للطائر، فهناك الطائر المقدس مقابل الطائر المدنس أو طائر الشر، كما حال الأفعى التي تفرد لها ميثولوجيا الإيزيدية الكثير. وربما كانت تلك الطيور امتداداً لقبح وبشاعة تنظيم داعش نفسه.
هل عاشرت عائلتكم وقائع الإبادة؟
الرواية ليست واقعية صرفة، إذ فيها ثمة خيال أيضاً. لقد انتميت شخصياً إلى كل من يرفض هذا الغزو، هذا الظلم، واعتبرت كل حرة كردية إيزيدية وقعت في السبي هي من عائلتي، إنها كرامتي. تابعت الكثير من التفاصيل،. ثمة واقع مؤكد، وثمة خيال أيضاً، لكنه خيال ليس ببعيد عن الواقع، بل هو جزء منه.
في الرواية تبدو أطراف عدة مقصرة في أداء واجبها تجاه الإيزيدية؟
نعم، أوافقك. لو أن القوى التي ارتأت محاربة الإرهاب قد أرادت لهذه لمأساة ألا تقع، لما وقعت. مواكب آليات داعش كانت تسير تحت مرأى أجهزة الرصد الأمريكي الدولي. السبايا تم نقلهن من شنكال/ سنجار إلى الموصل، فالبوكمال، فالرقة، ومنبج إلخ، دون أن يتحرك هذا الضمير الموقوت، إلا بعد وقوع الجريمة على أتم أدواتها. على أتم أشكال انتهاكاتها، باعتبار أن المعتصم العالمي، الإسلامي والعربي، كلهم كانوا صماً، لم يتحرك إلا الدم الكردي ليواجه كل ذلك القيح والقبح الآدمي، ما بعد الوحشي، بالرغم من أن صاحب هذا الدم بات في مواجهة طرف آخر، بزمرة شبيهة، أراد تصفيته معنوياً وجسدياً ليكون وراث المكان وأهله.
داعش روج مسبقا أنه لن يؤذي إيزيديي سنجار، كيف ترى تأثير هذه الأكذوبة على الضحايا؟
أجل. كان لها دور حاسم، وبشيء من الجرأة، أستطيع القول: لقد تم اختراق المجتمع الكردي الإيزيدي من قبل بعض بقايا البعث، ومنهم إيزيديون روجوا عشية الغزو أن داعش، بمثابة ثورة البعث الثانية، وأنه لا يستهدف الإيزيديين، وإنما البيشمركة وحدهم، وهذا ما طمأن الإيزيديين، وإلا فإنهم شديدو البأس، وكان بمقدورهم منع غزو شنكال.
“عماه، بم تنصحنا؟ ألا ترى أنه علينا أن نقاومهم؟ ألم نتأخر؟ فأجاب: لم نتأخر، ولم يتقدموا، أمريكا هي التي تكتب التأخر والتقدم”.. هل فعلاً أمريكا هي التي كتبت كل ذلك؟
ناقشني أكثر من صديق بعد تصريحات لي بهذا الصدد، مؤكداً أن من تنطعوا لقيادة العالم لو أرادوا كبح جماح داعش ومنعه من غزو شنكال لاستطاعوا.أمريكا تأتي في الطليعة، بل تتفرد بهذا القرار، وهذا ما يجعلها مسؤولة عما تم، عربات الدفع، سيارات الهمر المسطى عليها من الموصل قطعت مئات الكيلومترات إلى الرقة، عبر الأراضي السورية والعكس، وبدت كرحلات سياحية استعراضية عسكرية. كان في إمكان هؤلاء- أي القادة- ردع القتلة الأفاكين. هذا الكلام قلته عن سوريا، قادة العالم من آزروا النظام السوري ومنعوا إسقاطه، وهم شركاء في كل هذا الدم السوري، وفي كل دماء المنطقة.
ذكرت في الرواية “لو أنهم منحوا البيشمركة الأسلحة الثقيلة لصمدنا، الأسلحة الخفيفة التي قاوم بها شبابنا والبيشمركة لم تقصر، برأيك لماذا حجبت أمريكا تلك الأسلحة عن الكرد قبل غزو الدواعش شنكال؟
نعم. البيشمركة في لحظة الغزو، وفي الأيام الأولى من مقاومتهم ضد داعش، كانوا يعتمدون أسلحة بسيطة قديمة، بعد أن خططت بغداد لإضعافهم ومنع تزويدهم بالأسلحة المتطورة التي حصل عليها داعش، في صفقة معروفة، كما تقول ذلك رسائل أثيل النجيفي محافظ الموصل.
ألم نر كيف انقلبت الآية رأساً على عقب، بعد مد الدول ذات الشأن السيادي على العالم البيشمركة بالأسلحة الكافية، وبدا داعش يوماً بعد يوم ليس إلا أكذوبة، وما لجوئه إلى عمليات الحرق وإكساء الضحايا الملابس البرتقالية، ونشر ذلك، ضمن حربهم الإعلامية إلا نتيجة ضعف وجبن.
وردت في الرواية “جريمة إعدام ثلاثة وعشرين من أبناء بحزاني وبعشيقة، ممن كانوا يعملون في أحد مصانع الموصل ، بطريقة مروعة””.. ما علاقة هذه الحادثة بالغبادة التي وقعت في أغسطس 2014 ؟
ربما كان هناك اختلاف على العدد، هل كان ثلاثة وعشرون ضحية، أم أربعة وعشرون ضحية. لا بأس، إن من أقدموا على إعدام هؤلاء الإيزيديين، ومن أقدموا على تفجيرات بعض أماكن الإيزيديين قبل سنوات عبر عمليات إرهابية، هم أنفسهم خلايا داعش النائمة، أو المنومة، والتي لم تنته بعد بالرغم من هزيمتها على أيدي أبطالنا، سواء في كردستان العراق، أو في سوريا، حيث كان للكردي حضوره الكبير في صناعة البطولة والانتصار ضد داعش.
“ها هم البيشمركة أتوا. سمعت عبر الراديو كلمة الرئيس مسعود بارزاني. لقد أقسم أن يثأر لكرامة الإيزيديات، ولن يهدأ له بال، مادامت إحداهن في الأسر”
أجل، وهو ما تم، وجدنا هذا الرئيس البيشمركة وأبناءه وبعض أقربائه على خطوط النار، لم يهدأ لهم بال بانتظار تحرير أسرى وسبايا شنكال وأرضها، بل كل أرض كردستان التي اغتصبت تحت وطأة هؤلاء الغادرين.
“لا يعنى كاتب المحكمة بمعلومات تدين أبا بكر البغدادي، وإنما يركز أكثر على الشذوذ الجنسي لديه”.. هل فعلاً كان مصاباً بهذا الداء؟
ما تناولته الرواية من إشارات جنسية، لم آت بها من بنات خيالي، فقد قرأتها في وسائل الإعلام على إنها شهادات واعترافات من كانوا مقربين إليه في السجن. كاتب المحكمة لا أستطيع أن أشرح لما تصرف على هذا الشكل أو ذاك، ولكن يبدو لي هنا أننا إزاء مشكلة انهيارأخلاقي، على ضوء اعترافات الضحايا، لذلك فهو يتحدث في هذا المجال أكثر.
“أنت ابن بلدي. كان عليك ألا تعتدي علي، عليك أن تنقذني. لم يكترث بي”.. ألم يكن الدواعش عراقيين وأكثرهم ممن عاشروا الإيزيدية في المنطقة؟
هذه المسألة- تحديداً- تناولتها بعد أن استقصيت أبعادها تفصيلا. أجل بطانة داعش كانت محلية، أكثر أدوات داعش كانت محلية، داعش كان انفجاراً لثقافة اللاتعايش التي اجتمع فيها بارود الأمس وفتيله بألسنة لهيب اللحظة. إن الاستماع إلى الإيزيديات والإيزيديين الناجين يضعنا أمام أهوال كبيرة. إذ ثمة من عاشوا مع الإيزيديين على مدى قرون، بيد أنهم تحولوا إلى غزاة سبوا نساءهم وسطوا على أموالهم ونالوا من كراماتهم. بعضنا قد يتورع عن هذه النقطة، إلا أنني أرى ضرورة التركيز عليها، لئلا تتكرر فلا بد لنا من أن نعرف: من داعش؟ ومن كانوا حاضنتهم؟
“وما كان البغدادي ليعيش لولا أنه يعيش في جحر تحت الأرض، كما خلد مذعور”.. هل تعتقد أنه فعلاً في جحر تحت الأرض؟
عناوين إقامة البغدادي في ما سميت بـ”دولة العراق والشام” غدت جحيماً حقيقياً. كل شيء كان ضمن هذا الجحيم. كان عدد الضحايا بعشرات الآلاف، وظهر السؤال: هل البغدادي حقيقة أم خرافة؟ لقد ظهر هذا الكائن في صلاة إحدى الجمع في أحد جوامع الموصل وألقى خطبته اليتيمة ليختفي ويغدو مادة إخبارية: لقد قتل، إنه جريح، لاذ بالفرار. كلنا يعرف أن لا أحد يصمد وينجو أمام غضب الشعوب، ويغدو ذلك مستحيلاً إذا كانت القوى الكبرى في العالم تدعم ذلك. كلنا رأى كيف كان مصير صدام حسين، ومن ثم معمر القذافي. كلنا رأى كيف كان مصير ابن لادن. كل هؤلاء معلمو البغدادي، الذي لا يمكن أن يتناول وجبة طعام في مخبئه، من دون علم أجهزة المراقبة الدولية.
“إنهم لن يتركوا من نفطنا شيئاً. هؤلاء جاؤوا ليتحولوا إلى مجرد أنابيب لبيعه، كما بيعنا”.. هل كانت غاية الدواعش بيع النفط لإدامة دولة الخلافة؟
لم يأت تنظيم داعش من فراغ، لم يتم تشكيله على حين غرة، كان الكثير لديهم معداً، بقايا البعث الدموي، بقايا الإسلام السياسي المندحر، بقايا الفكر القومجي الشوفيني. من هنا، فقد كان لديهم مخططهم الاقتصادي، النفط كان ضمن هذا المخطط. فجأة، بدت لهم أسواق خارجية تنتظر نفطهم، فجأة بدا من يتقاتلون ميدانياً متفقين على الشراكة في الإتجار بالنفط. النفط كان أحد مصادر ديمومتهم، بالإضافة إلى المصادر الأخرى التي لابد من معرفتها، لإدانة كل ممول ومحاكمته حاضراً أو مستقبلاً، أنى توافرت شروط ذلك.
هناك إشارة إلى أن الرواية جزء من ثلاثية؟
هو ما خططت له، بين يدي الكثير من المخطوطات، يدخل مشروعي هذا ضمن هذا الإطار. صحيح أن الغزو أشرف على السقوط، لكن له آثاراً كبيرة ستبقى، ولابد من تناولها، هو ما أحاوله، لا أريد أن أقول أكثر.
روايتك تبدو مكتوبة بأكثر من لغة؟
صحيح. طقوس الديانة الإيزيدية، وأصداء نصوصها، وأساطيرها، كلها مكتوبة بلغة مختلفة، إلا أن الكثير من المشاهد، كتبت بإيقاع مغاير. في السرد الفني، أجدني أتبع هذه الطريقة. الأمر ليس استراتيجية ما، إنها عفوية اللغة التي تكتب ذاتها، وتشيد عمارتها.
أنت معني بالإيزيديين منذ وقت طويل، وفي الرواية معلومات حديثة إلى جانب سواها مما هو تاريخي غير مدون، كيف ولم ذلك؟
خالطت الإيزيديين، عشت معهم، كتبت عن”باتزمي” في نص ملحمي نشرته في التسعينيات، أعددت مخطوطين عن الديانة الإيزيدية، أحدهما” أبناء الجرة” وثانيهما”الطوق المقدس” قراءات في ميثولوجيا الديانة الإيزيدية، بالإضافة إلى الصياغة اللغوية لترجمة الصديق دخيل شمو لكتاب”اليزيدية والديانة اليزيدية”، وكتابتي مقدمة كتاب الباحث هوشنك بروكا، وكل هذه التواريخ تحيل إلى أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، ولي أكثر من بحث منشور في الديانة الإيزيدية منها: “الديانة اليزيدية أقدم ديانة توحيدية في التاريخ”، وتم نشر فصل منه في دراسات اشتراكية.
هل ستترجم الرواية الى لغات أخرى؟
حلم أي كاتب أن يترجم ما يكتبه إلى أكبر عدد من اللغات. الرواية ترجمت إلى الكردية عن طريق صديقي الروائي جميل إبراهيم.