هل يتوجب علينا أن نصب الشاي أولا؟
عند ارتشاف مشروب الشاي بالحليب الساخن الذي يشربه العديد منا أحيانا ليتلذذ بمذاقه الجميل، هل فكر أحدنا يوما هل تم اعداده بصب الشاي أولا؟ أو كان الحليب هو السباق الى الإناء؟ بل هل يسمى المشروب حليبا بالشاي أم شايا بالحليب؟ قد تبدو هاته الأسئلة مجرد هرطقات خرجت مع عقل أحدهم، لكن الطبيعي هو ان من مثل هاته الاسئلة البديهية يتطور العلم، و تزدهر نظرياته، و بالركون الى البديهيات تتوالى الأيام تترى دون استثارة لقريحة حب الاستطلاع لدى الانسان التي بها لا بغيرها تتغذى العلوم و تنمو.
بعض هاته الاسئلة هي التي طرحتها سيدة انجليزية بجامعة كامبريدج بانجلترا أثناء حضورها اجتماع أساتذة الجامعة مصحوبون بزوجاتهم، و أثناء شربهم للشاي بالحليب، أصرت السيدة اصرارا على أن مذاق المشروب سيختلف عند تغييرنا لاحد متغيراته، فمذاق الشاي بالحليب ليس هو طعم الحليب بالشاي، فسخر الحضور من قولها، فما فاهت به هاته السيدة لا يخرج في نظرهم عن كونه تفاهة من التفاهات، فلا فرق وجدوه منطقيا في تركيبة المحلول ان سبق هذا المشروب أو ذاك.
قطع أحد الحضور هرج و مرج الحضور من الاساتذة و زوجاتهم بخصوص ما قالته السيدة، و اقترح بان يقطعوا شك السيدة بوضع القضية تحت محك التجربة، اقترح تحضير مجموعة من كؤوس الشاي بالطريقتين المختلفتين بحضور الجميع ما عدا السيدة المعنية ثم اختبارها ان كانت ستستطيع التعرف من مذاقه باي طريقة تم تحضيره هل بصب الشاي أولا أم العكس؟
بتقديم المشروب للسيدة و ان لم تحضر المجلس اثناء اعداده، فقد استطاعت التكهن من مذاق الكأس هل صب الحليب أولا أو العكس.
قرأت هاته القصة ضمن كتاب « the lady testing tea « لمؤلفه «David Salsburg « صدر بالانجليزية سنة 2001 و قامت بترجمته للعربية رنا النوري حيث أصدرت طبعته العربية دار مكتبة العبيكان سنة 2003 تحت عنوان “ذواقة الشاي”، أورد فيه دافيد زالسبورغ أنه بدوره سمع القصة من هيو فيرفيلد سميث أحد علماء الاحصاء بجامعة كونيكتيكوت بستورز بالولايات المتحدة الامريكية حيث كان يعمل مع استاذ آخر هو رونالد ايلمر فيشر، سيولي القصة اهتماما خاصا حيث سيطور كتابا عن تصميم التجارب، خصص فصله الثاني كله لذكر القصة مع الاحتمالات الممكنة، التي يمكن توقعها عند اختبارمذاق الكؤووس مع امكانيات الخطأ و الصواب، حيث فصل في كيفية تحديد عدد الفناجين، و كيفية تقديمها، و ترتيبها، و ما هو القدر الذي ينبغي اخبار السيدة به عن ترتيبه في التقديم، ثم يستنبط احتمالات النتائج المختلفة معتمدا على صحة او عدم صحة اختيار السيدة.
لقد كان كتاب تصميم التجارب لفيشر هذا ثورة علمية حقة في تاريخ تطور علم الاحصاء حيث استطاع تزويد العلماء الذين جاؤوا من بعده بنماذج جيدة من التجارب، و اشتق منها قوانين لتصميم التجارب كانت في غالب الأحيان مؤسسة على معادلات رياضية معقدة جعل العلماء دوما في حاجة الى نماذج فيشر لتصميم تجاربهم الخاصة.
و أخيرا، فلولا أسئلة السيدة البديهية، و لولا كسرها للحواجز الوهمية لتجهر باستفهاماتها المثيرة للسخرية، لما أثيرت قريحة العالم رونالد فيشر ليطور علوم الاحصاء في الاتجاه الايجابي الى ان وصلت الى المستوى المتطور الذي هي عليه الآن، فهل يا ترى يمكن ان نعيد النظر في بديهياتنا و نطرح تساؤلات جادة حول مسلماتنا و نشك في اكثر الأمور وضوحا عل و عسى يخرج من بين ظهرانينا رونالد فيشرعربي ليطور علما من العلوم، او تخرج من الامة العربية غرترود كوكس أخرى لتؤلف هي أيضا في تصميم التجارب كما فعلت أختها الغربية.