سأظل أترحم على الشيخ الإمام عبد الرحمن بن خلدون ما دمت حيًا، فعندما تهاجمني غرائب الأمور أتذكر كلامه عن “ولع المغلوب بتقليد الغالب”.
ونحن وإن اعترفنا بأننا الآن الطرف الملغوب، فإننا لا نثّبتُ اللحظة كأنها الدهر أو القدر المكتوب الذي لا فكاك منه ولا مهرب فالهزائم السرمدية ليست من أقدار بني آدم.
أقول هذا وعيناي على صرعة جديدة تغزو بيوتنا ألا وهي الاحتفال بيوم الطلاق!
الطلاق هذا الحادث الاجتماعي القاسي غاية القسوة الذي لا يلجأ إليه الإنسان إلا في أحرج الحالات وتحت بند الضرورة القصوى، بدأت بيوت مصرية لا يستهان بعددها الاحتفال به، كأنه إنجاز يجب أن يوضع في متحف الذكريات الطيبة السعيدة. هذا الاحتفال الغريب هو ضرب من ضروب ولع المغلوب بتقليد الغالب، فالغرب الغالب يحتفل بأي شيء وبكل شيء، فلماذا لا نقلده؟
المغلوب المقلد لم يلفت نظره تقرير أشبه بالكارثة صدر قبل عام عن مركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء المصري، وجاء فيه أن مصر تحتل المرتبة الأولى عالميًا في نسب الطلاق. ثم حدث ـ بحمد الله ـ تراجع في معدلات الطلاق وثّقه الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في تقرير جاء فيه أن حالات الطلاق تراجعت في آخر رصد لها في العام 2017 إلى 190 ألف حالة، مقابل 192 ألف حالة فى العام 2016. وبقسمة عدد الحالات المائة والتسعون ألف على عدد أيام السنة سنجد أننا أمام ما يزيد على خمسمائة وعشرين حادث طلاق يوميًا. فأين هو الإنجاز الذي تحتفل به البيوت المصرية؟
إذا غادرنا كارثة الاحتفال بالطلاق سنجد قطاعات واسعة من النخبة المصرية ومن الطبقة الوسطى تحتفل بعيد “الوحدة”. ليست الوحدة العربية على كل حال، إنها الوحدة التي تعني الفردية أو العزوبية أو بمعنى أدق الانعزالية الجالبة للاكتئاب، أو فقدان الرغبة في إقامة أسرة.
في هذا السياق شاهدت فيديوهات لنماذج من الاحتفالات تجعل العاقل يجن، في فيديو بثه أحدهم نرى شابًا يجلس منفردًا على طاولة في قاعة خافتة الإضاءة وأمامه قطع من الحلويات، ثم يخلع عنه سترته ويعانقها كأنه يعانق جسدًا غير جسده!
يرحم الله أجدادنا الذين قالوا في مثلهم الشعبي “جنة من غير ناس ما تنداس”، ثم جاء أحفاد هؤلاء الأجداد العظماء وراحوا يسرفون في تقليد الغالب فأقموا الاحتفالات بفرديتهم الكاشفة عن عجزهم عن التواصل مع الآخر وإقامة بناء مشترك.
عيد الوحدة المقيتة التي هى مرض اجتماعي وثقافي بدأ من الصين، التي احتفلت بيوم “الوحيد” لأول مرة في العام 1993، في جامعة نانجينغ، وبعد ذلك انتشرت الاحتفالات لتعم العالم. ويعود اختيار يوم الوحيد إلى تاريخ 11 نوفمبر لأنه رقم يتكون من الرقم واحد مكرر 4 مرات (11/11).
ما لنا نحن وهؤلاء الذين انتهوا من تأسيس حضارتهم وضمان الاستقرار والحقوق الإنسانية ثم راحوا يخترعون احتفالا لكل مناسبة تطرأ على حياتهم؟ لقد ذكرت المواقع الإخبارية المهتمة بهذا الحدث أن مجموعة “علي بابا” عملاق التجارة الإلكترونية الصيني باعت هدايا بمناسبة “عيد الوحيد” بنحو 24.15 مليار دولار في أقل من 16 ساعة.
أهل الغرب المتقدم وأهل الشرق الذين يتذوقون الآن ثمار كدهم قد تكون أنماط حياتهم تفرض عليهم تلك الوحدة، أما نحن فلابد وأن نتشارك لأن رصيدنا من الأزمات يفرض علينا فرض عين المشاركة.