رؤى

الجدل حول تعدد الزوجات وحقوق الجنسين من منظور نسوي إسلامي

قبل نحو اسبوعين وفي حديث تليفزيوني  حول التعدد في الزواج، أكد الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر بشدة على شرطه الأساسى قبل الإقدام عليه وهو العدل. إذ أن رخصة التعدد وردت فى سياق دفع الظلم عن اليتيمات، فعدم العدل إذن يعد نوعا من ظلم وقهر للزوجة الأولى وخرقا للشرط الالهي، ولا يجوز ممارسة التعدد بهذه الطريقة. وحذر شيخ الأزهر من الفوضى الناشئة بسبب عدم فهم هذا التضييق الوارد بالآية القرآنية، وأن التعدد ليس هو الأصل.

ورغم أن الامام الأكبر لم يقل رأيا أو يقدم تفسيرا جديدا أو راديكاليا لمعنى النص، أو حتى تطرّق الى تغيير تشريعات أو أحكام (فالإمام محمد عبده منذ قرن مضى أسهب فى الأضرار الإجتماعية والتربوية والنفسية لظاهرة التعدد من هذا المنطلق ايضا)،  ورغم أن الخطاب الديني العام في السنوات الأخيرة استخدم هذا الطرح كثيرا، إلا أن حديثه أثار جدلا وغضبا، مما اضطر الموقع الرسمي للأزهر الشريف إلى رفع مقطع سابق يعود إلى عام 2016 تحدث فيه الإمام عن التعدد، كما تم نشر بيان مباشر فيه  توضيح بأنه لم يحرّم تشريعا إلهيا أو يعطّل حكما قرآنيا ،ولا يدعو إلى حظر أو إلغاء التعدد.

 والملفت للنظر أن الكثير من الاعتراضات التي وردت في تعليقات المتابعين على حديث الإمام، لم تقف عند حدود مناقشة ما قاله، بل تجاوزت ذلك إلى حالة من عدم الارتياح لمجرد اهتمامه وتعاطفه – غير المبرر من وجهة نظرهم – بالأمر، وكأن التركيز على مشكلات المرأة لا ينبغي أن يكون ضمن أولويات الأزهر واهتماماته الدينية الجادة. كما يلاحظ أيضا أن التعليقات استثارها خلو خطاب شيخ الأزهر فكرة/كلمة أن التعدد «حق أساسي وثابت للرجال»، وأن الإمام – بديلا عن ذلك – اتجه إلى استنباط  أن وجود نية سيئة لقهر الزوجة الأولى وعدم التزام العدل يعرض الرجال الى عقوبة إلهية كبيرة.

المنظور النسوي الإسلامي

مثل هذه الآراء والثقافة هى من أسباب نشأة تيار فكرى ومنظور نسوى إسلامى يحلل ويواجه الدوافع والإنحيازات – سواء فى التراث التفسيرى ماضيا أو فى مجتمعاتنا حاضرا – التى أدّت الى سوء فهم رسالة القرآن فيما يخص النساء والعلاقات بين نوعى الانسانية.

أولا: لماذا يعترض البعض عند الحديث عن «منظور» أو «وجهة نظر» نسوية في النقاش الديني (تحديدا بمعنى استخدام منهجيات النظرية النقدية النسوية لتحليل إنتاج الخطابات والتأويلات الدينية التمييزية) مع أننا نعرف أن هناك على الأقل ثلاث آيات كريمة (آل عمران: 195، الأحزاب: 35، النساء: 32) وسورة المجادلة، قد نزلت استجابة لشكوى وتساؤلات وقلق الصحابيات بشأن حقوقهن ،وأنهن أردن التأكد من مكانة مساوية لهن فى الأمة؟

ثانيا: لماذا افتراض أن أي مطالبات لإنصاف النساء ورفع الظلم عنهن فى الممارسات المجتمعية (والذى يبرر خطأ بفهم منقوص وتطبيق خاطئ لنص ديني) هي ضد الشريعة، مع أن التأمل فى المقصد العام لآيات الزواج والطلاق مثلا، يُظهر أهمية هذه القضايا فى القرآن الكريم من حيث التأكيد على الإلتزام بمبادىء أخلاقية محددة فى هذه التعاملات وترشيد سلوكيات الرجال كجزء هام من رسالة الشريعة؟ والرأي الذى ورد في كلام الشيخ الطيب واعتبره المعترضون ’تحريما‘ رسميا، كان في الحقيقة تطبيقا لمنهج فى الاستنباط والتفسير يضع فى المركز هذه المعايير والمحددات الأخلاقية القرآنية وضمير الفرد أو حسه الأخلاقى عندما ’يستحرم‘ ممارسة الرخصة المباحة إذا كانت بنية الأذى أو نتيجتها الضرر والقهر، بحيث يخرج التشريع النصى عن مقصده الأصلى.

ثالثا: لماذا هذه الحساسية والغضب لعدم إستخدام كلمة الحق الرجالى وعدم التأكيد على مفهوم أن هذا امتياز في شرح الآية الكريمة، إلا إذا كان هناك قلق على الإخلال بمنظومة علاقة القوة/السلطة المفترضة بين الجنسين؟ وحتى تبقى لغة الخطاب حول هذه الآية (وربما أخريات) محتفظة بدلالات الأفضلية، وتظل تمثل تهديدا غير مقيّد مسلطا على رؤوس النساء فى أى وقت؟ مع أن من الرسائل الأساسية للوحى الإلهي العظيم، تقويض فرضية علاقات القوة والاستقواء فى المجتمع الجاهلى ونصرة المستضعفين لإعادة ميزان القسطاس المستقيم. فلماذا هذا التمسك العنيف بالتميّز وحرية التصرف غير المشروطة بقواعد أو توجيهات فى مقابل الغضب الرافض لأى تقييد أو محاسبة؟  ألم يأت الاسلام ليصلح من شأن الانسانية ويحارب غطرسة القوة والأنانية والبغى؟

الإسلام والقيمة الإنسانية للبشر

كان المنطق السائد عن قيمة البشر زمن نزول الوحى فى القرن السابع فى الجزيرة العربية ،هو المنطق المستمد من ثقافة مجتمع التجارة، فكل المعاملات تأخذ شكل مقايضة واضحة فى تبادل المنفعة الربحية، وأن أي فرد في هذا المجتمع لا يصنع أو يجلب ربحا ماديا ملموسا أو عاجزا عن هذا (مثلا اليتامى والأطفال والنساء والعبيد والعجائز الذين لا يشتركون فى حروب لجلب غنائم أو تجارة كبيرة نشطة) لا قيمة إنسانية له، لأن هذه القيمة تُقاس فقط  بالمال الذى يكسبه. فجاء القرآن الكريم بمنطق مختلف: أن المال ليس هو ما يحدد قيمة الفرد الانسانية، وأن عدم القدرة على الربح والإنفاق لا ينتقص من إنسانية أى مجموعة، ولذلك رَفَع من قدر المستضعفين والمهمشين وغير القادرين على الكسب، وأكد حقهم على الأمة فى إعالتهم وكفالتهم ورعايتهم كفريضة («فى أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم»)، وليس بالضرورة بمُقابل أو بثمن، فهذا من المتطلبات الواجبة لتنظيم المجتمع وتكافل اجتماعي مطلوب. لكن معظم الفقهاء القدامى لم يفهموا هذا المنطق أو يطبقوه، خاصة بالنسبة لأحكام وتشريعات النساء. فعبّروا عن علاقة الطرفين فى الزواج  وكأنها مقايضة تجارية (المهر والنفقة مقابل التمكين من ’البُضع‘ والطاعة)، وليست علاقة إنسانية تتسم بقيم عدل ومعروف ومبادئ أخلاقية (توجيهات موجودة بالفعل فى النص القرآنى)، وهذا خطأ كبير وقصور فى الفهم وفى تطبيق منظومة القرآن الأخلاقية والاجتماعية. كما أن التكليف بالرعاية المالية (والعاطفية) المُقسِطة (فى آية 34 من سورة النساء) لا يتضمن معانى القيادة أو الرئاسة أو الإدارة، لكن هناك تبيين لموارد ومصادر هذه المسئولية المادية.

النظرة الرأسمالية للعلاقة بين الجنسين

ومع ذلك فإن بعض المحاولات الحديثة والمعاصرة لحل هذه الإشكالية تتبع نفس المنطق في ربط كسب وإنفاق المال بالقيمة الانسانية (مَن يدفع أكثر هو من يملك – تقريبا مبدأ رأسمالى)، وتطالب بالتخلص من فريضة إعالة النساء تماما (مثلا إلغاء المهر ونفقة الزواج والمسئولية المالية تجاه الأقرباء/إيتاء ذي القربى، في حين يمكن اعتبار ذلك تمييزا إيجابيا لتعويض النساء عن المسئولية البيولوجية (فى الحمل والانجاب والرضاع)، بسبب نفس الافتراض عن أن من يصرف المال يحصل في المقابل على سلطة ما أو إمتياز معين أو حق زائد، وليس لأن ذلك التزام وواجب أخلاقي.

ليست هذه دعوة إلى إستمرار إعتماد المرأة على الغير وضعف حالها أو ضد استقلالها  الاقتصادي، لكنه  تساؤل حول صحة  الحديث عن التخلص من منطق ومنظومة التكافل الاجتماعى ومسئولية الأفراد داخل الأسر، ومسئولية النُظم فى تحقيق العدل، بدون التخلص أولا من الأنانية والسلطوية والسيطرة والاستئثار وربط المال بقيمة الانسان، وبالتالى التقليل من أهمية وفاعلية مبادئ العدل والإحسان والمعروف والتراحم.

إن المنظور النسوي الإصلاحي في تدبر معانى القرآن الكريم ورصد انحراف الفهم والتأويل عن مقصد عدل الشريعة فيما يخص النساء وقضايا علاقات النوع، هو تذكير بأن يظل الاسلام دين العدل والقسط والمساواة الانسانية للنفس الواحدة ومكارم الأخلاق. هذا المنظور  يحاول  التركيز  على تطبيق وتفعيل المبادئ القرآنية الأصيلة، وأن ينفض عنها التأويلات الثقافية التي تُبقى على امتيازات علاقة القوة غير المتساوية، ليس فقط بهدف إنصاف النساء ،ولكن أيضا بدافع حب هذا الدين الذى نربأ به من الافتئات عليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock