“ليس في حاجة إلى تعريف أو تقديم، فهو ظاهرة تتميز بالحدة والأمانة والإصرار على صياغة موقف متكامل للمثقف من السلطة ومن المجتمع”.. هكذا لخص الأديب والروائي الكبير علاء الديب ظاهرة الكاتب الصحفي الكبير صلاح عيسى التي امتدت نحو 50 عاما في بلاط صاحبة الجلالة.
عاش صلاح عيسى (1939-2017) حياته على يسار السلطة، يناكف ويناضل وينتقد ويراجع دون حساب للنتائج حتى لو كان ذلك على حساب حريته أو أكل عيشه، فذاق مرارة السجن أكثر من مرة وعانى من شظف العيش معظم سنوات حياته.
وعندما اتهموه في سنواته الأخيرة بأنه دخل حظيرة السلطة لمجرد تعيينه رئيسا لتحرير جريدة “القاهرة” التي تصدر عن وزارة الثقافة، أثبت عيسى لمنتقديه أنه غير قابل للإخضاع أو التطويع وأن الصحفي والمثقف يجوز له أن يعمل لدى الحكومة وينتقدها أيضا. ظل الرجل يدافع وهو في موقعه بالجريدة الحكومية عن حرية الصحافة واستقلالها، وخاض عام 2006 معركة شرسة بمشاركة عدد من رموز المهنة ضد ما تم وصفه بأنه “قانون حماية الفساد”، الذي قدمه الحزب الحاكم حينها ردا على حملات صحفية طالت فساد رموز الحزب.
دعم عيسى احتجاب الصحف عن الصدور، واقترح في اجتماع نقابي وضع لافتة كبيرة في مدخل نقابة الصحفيين تضم صور وأسماء النواب الذين نالوا من سمعة وكرامة الصحفيين، ومعهم كل من يناصب حرية الصحافة العداء كي تقوم الصحف بمقاطعتهم، إعمالا لنص قانوني يمنح نقيب الصحفيين الحق في مقاضاة كل من أهان الصحفيين أو مهنتهم.
فارس القلم
بتعبير الروائي علاء الديب “لم يباه عيسى بالكفاح الذي قدمه عبر عقود، لكنه كان يباهي بدفاعه عن أحلامه وبتمسكه برأيه ومواقفه”.. ظل منحازا لما يعتقد أنه صحيح حتى وافته المنية في ديسمبر من عام 2017.
قبل وفاته بأسابيع نشر عم صلاح سلسلة مقالات في “المصري اليوم” ينتقد فيها تسويف مجلس النواب في إصدار قوانين تنظيم الصحافة والإعلام، كان آخرها بعنوان: أين اختفت مشروعات قوانين تحرير الصحافة والإعلام؟ تساءل فيه عن إخفاء مشروع قانون إلغاء العقوبات السالبة للحرية فى جرائم النشر، وهو القانون الذى انتهت منه اللجنة الوطنية لإعداد التشريعات الصحفية والإعلامية بعد القانون الموحد، تنفيذاً للنص الدستورى الذى يقضى بعدم جواز فرض عقوبات سالبة للحرية فى جرائم النشر.
في ليلة من ليالي مايو عام 1995، مرر مجلس الشعب فى جلسة مسائية استمرت لنحو خمس ساعات القانون 93 لسنة 1995 الذى عرف حينها بـ”قانون اغتيال الصحافة”، الذي غلظت مواده عقوبات الحبس فى قضايا النشر لتصل إلى الأشغال الشاقة لمدة ١٥ عاما، كما ضاعفت الغرامات ٢٠ ضعفا. في ذات الليلة صدق مبارك على القانون، وفى الصباح نشر فى الجريدة الرسمية. في اليوم التالى اجتمع مجلس النقابة في غياب النقيب إبراهيم نافع الذي كان خارج مصر، وترأس الاجتماع جلال عيسى وكيل النقابة، وأصدر المجلس قرارا بالدعوة لعقد جمعية عمومية طارئة فى 10 يونيو يسبقها مؤتمر عام للصحفيين.
اجتماع الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين عام 1995
انعقد المؤتمر العام للصحفيين في أول يونيو بحضور أكثر من 1500 صحفى، وأعقبه اعتصام احتجاجى يوم 6 يونيو بمقر النقابة شارك فيه صحفيون من كل الأجيال والاتجاهات الفكرية فى أكبر حركة احتجاجية شهدتها النقابة على مدى تاريخها. اكتست جدران النقابة بالرايات السوداء، وقررت عدد من الصحف الحزبية الاحتجاب، ثم انعقدت الجمعية العمومية بحضور النقيب وقررت أن تظل فى حالة انعقاد دائم لحين اسقاط القانون.
معركة القانون 93 في نقابة الصحفيين عام 1995
فى تلك الأثناء ألقى وكيل النقابة جلال عيسى خلال الاحتفال بعيد الإعلاميين الذي حضره مبارك كلمة طالبه فيها بسحب القانون، فرد عليه الرئيس الأسبق قائلا: «هو احنا بنبيع ترمس؟»، وهو ما صعد من غضبة الصحفيين. حاول رجال مبارك تفادى الأزمة المتصاعدة وتواصل أسامة الباز مستشار الرئيس وصفوت الشريف وزير إعلامه بعدد من كبار الصحفيين والنقابيين للبحث عن صيغة للخروج المشرف من تلك الورطة، كما عقد الرئيس اجتماعا مع النقيب وأعضاء مجلس النقابة، وطرح مجموعة من التصورات للحل منها تجميد إحالة الصحفيين للحبس مؤقتا، وتشكيل لجنة من المجلس الأعلى للصحافة وبعض شيوخ المهنة للبحث عن مخرج.
بعد شهور توصلت اللجنة التى غلب على تشكيلها الطابع الحكومي إلى تصور تم عرضه على اجتماع للجمعية العمومية وتسويقه باعتباره حلا وسطا، هنا وقف رجل التشريعات الصحفية المخضرم صلاح عيسى طالبا الكلمة، وأخرج من جيبه ورقة أمسكها في يده ليستعين بها لكنه كان يحفظها عن ظهر قلب، وقال: “الحكومة عايزة تضحك علينا وتتحايل على مطالبنا بهذا الطرح وإليكم الدليل بوجود عشر من الحابسات الباقيات”.
ووفقا لنقيب الصحفيين السابق يحيى قلاش، عضو مجلس النقابة آنذاك، فإن عيسى أخذ يسرد النقاط ويوضح الحيل والألغام ويكشف سوء النية والالتفاف، فانقلبت الجمعية العمومية، وأعادت كلمته التوازن لموقف مجلس النقابة. تشدد موقف المجلس مرة أخرى، وأعلن استقالته الجماعية ليضع الحكومة فى مواجهة الجمعية العمومية، وطلب النقيب إبراهيم نافع إرجاء استقالته لحين عقد اجتماع آخر للجمعية، وإذا فشل فى تغيير الموقف على ضوء النقاط الكاشفة التى وضعها عيسى فسيعلن استقالته.
لم يصل نافع إلى حل وأعلن استقالته أمام جموع الصحفيين، هنا فقط انقلب الوضع وتأكدت الدولة أن الصحفيين لن يتراجعوا، والتقى مبارك للمرة الثانية بمجلس النقابة بحضور النقباء والنقابيين السابقين، وعلى رأسهم شيخ الصحفيين حافظ محمود والنقيب الأسبق كامل زهيرى، وأعلن فى هذا اللقاء حل الأزمة، وطلب من رئيس وزرائه كمال الجنزورى إعداد مشروع تعديل جديد وعرضه على مجلس الشعب. سقط القانون، وخرج الصحفيون من تلك الأزمة مرفوعى الرأس، وظل اسم صلاح عيسى محفورا في أرشيف النقابة باعتباره حجر الزاوية الذي قلب الموازين، ما أجبر الدولة على التراجع.
عاشق الصحافة
عشق عيسى الصحافة منذ طفولته، ففي عام 1953 وكان عمره حينها نحو 14 عاما ترأس تحرير مجلة الحائط في مدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية، “كان عمري آنذاك 14 عاماً، بعدما تبناني أستاذ اللغة العربية وقتها، كان أستاذاً عظيماً مثقفاً وكاتباً وشاعراً، وكان يعمل بالصحافة بعد انتهاء دوامه بالمدرسة”، يقول عيسى في حوار مع صديقنا الكاتب الصحفي إيهاب الملاح.
عمل عيسى بعد تخرجه من كلية الخدمة الاجتماعية مطلع ستينيات القرن الماضي إخصائيا اجتماعيا بعدد من الوحدات الريفية، عشق القصة القصيرة قبل أن يحترف الصحافة، وراسل عددا من الدوريات الأدبية إلى جانب عمله الحكومي، فكتب لمجلة “الحرية” اللبنانية وبعض الصحف الكويتية ومجلة “الآداب” البيروتية.
معتقل تحت الطلب
تعرض عيسى لتجربة الاعتقال خمس مرات، الأولى عام 1966 وتعرَّض فيها لأبشع أنواع التعذيب، يقول عنه رفيقه في السجن آنذاك الأديب الراحل جمال الغيطاني:”لقد سحلوا صلاح عيسى وعلَّقوه ولم يعترف علينا”. رغم مرارة تجربة الاعتقال الأ أن عيسى أيد في وقت لاحق الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ودعم مشروعه لـ”العدل الاجتماعي”.. كان السبب في اعتقاله نشره سلسلة من المقالات في مجلة “الحرية” اللبنانية حول الانزلاق الطبقي بعنوان “تجربة ثورة يوليو بين المسار والمصير”، ينتقد فيها بعض سياسات دولة 23 يوليو.
لعب الحظ دوره في خروج عيسى من السجن، ففي الزيارة الوحيدة لجان بول سارتر إلى القاهرة في مارس 1967، طلب الفيلسوف الفرنسي من عبد الناصر الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وقدم له قائمة أسماء على رأسها عيسى وصبري حافظ. فوعده عبدالناصر بالإفراج عنهم قبل مغادرته القاهرة.
تم اعتقال عيسى مرة أخرى عام 1968 أثناء مشاركته في مظاهرات الطلبة التي طالبت بإعادة محاكمة ضباط الطيران والمسؤولين عن هزيمة 1967.. وفي السجن كتب عيسى كتابه “مثقفون وعسكر”، وضم فيه مجموعة مقالاته السابقة، كم كتب مجموعة قصصية بعنوان “جنرالات بلا جنود”.
وسُجن عيسى مرة ثالثة عام 1977 بتهمة المشاركة في مظاهرات 18و19 يناير “انتفاضة الخبز”، وفي عام 1981 تم اعتقاله مرتين: الأولى في سجن القلعة بعد تظاهره مع صديقه حلمي شعراوي خبير الشئون الأفريقية في معرض القاهرة الدولي الكتاب وأمام الجناح الإسرائيلي الذي شارك للمرة الأولى في المعرض، وضبط معهما الأمن منشورات تدعو إلى مقاطعة الجناح الإسرائيلي، فكانا أول مواطنين عربيين توجه لهما تهمة معاداة إسرائيل.
كما اعتقل عيسى بعدها بشهور في سجن ليمان طرة ضمن اعتقالات سبتمبر 1981 التي شملت أكثر من 1500 معارض لاتفاقية كامب ديفيد مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. وكتب صلاح عيسى على جدران زنزانته: “في هذا المكان سجنت لأنني أحببت الوطن وناديت بالعدالة وأهنت إسرائيل.. إمضاء/ صلاح عيسى”.
جبرتي الصحافة
عمل عيسى محررا بقسم الأبحاث بجريدة الجمهورية، وفي عام 1972 نشر كتابه المفضل “الثورة العرابية”، الذي اعتبر من أهم الكتب التي وثقت أحداث ثورة عرابي واحتلال الإنجليز مصر، كشف الكتاب عن قدرة عيسى الفذة على تتبع الوثائق والمخطوطات، ونقله من خانة الكاتب الصحفي والقاص إلى عالم التأريخ والتوثيق.
فصل عيسى من جريدة الجمهورية بسبب معارضته الشديدة للسادات، ومواقفه الحادة من “كامب ديفيد. وبعد حادث المنصة الذي انتهى باغتيال السادات، تسلم عيسى رئاسة تحرير “الأهالي” اليسارية، ووصل بتوزيعها إلى 150 ألف نسخة، وكان عموده الصحفي”الإهبارية” أشبه بطلقات رصاص ساخرة موجهة للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرت بها مصر في تلك الفترة. مزج عيسى في عنوان مقاله “الإهبارية” بين أسماء الصحف الرسمية الثلاثة: “الأهرام” و”الأخبار” و”الجمهورية”، بما يحمله التعبير من اسقاط واضح على أوضاع مصر البائسة في تلك الفترة.
خلال حياته المهنية أصدر عيسى مجموعة من الكتب والدراسات التي تمثل مرجعا مهما سواء في التاريخ أو الصحافة، أبرزها سلسلة “حكايات من دفتر الوطن”، “رجال ريا وسكينة”، “مثقفون وعسكر”، “رجال مرج دابق”، “البرنسيسة والأفندي”، “تباريح جريح”، و”شخصيات لها العجب”، وكلها كتابات تاريخية ذات بعد اجتماعي كتبت بصياغة صحفية قصصية.
صورة الغلاف بريشة الفنان سعد الدين شحاتة