كان طارق البشري أول من نبه مبكرا لخطر تنظيم “الإخوان” مطلع السبعينيات، عبر فقرة مدهشة تقول: “الإخوان تنظيم سياسي أو أنه آل إلى ذلك، واتشح بغموض الهدف بحيث صار ذا حركة طليقة شاردة عن الخضوع لمعايير الاحتكام السياسية السائدة، وتنظيمهم بذلك يثير القلق فيما عسى أن يسعى إليه أو تؤول إليه الأمور إن قويت شوكته أو أمسك بمقاليد الأمور”.
فشلت سياسات الإخوان على مستويين: مستوى القضية الوطنية العامة، ومستوى صالح الجماعة، وأهم جوانب هذا الفشل فى تقديري أن هذين الموقفين عزلا الإخوان عن غيرهم من القوى الوطنية، ومن هذه القوى ما أدرك سوء إدارة الإخوان للصراعات الوطنية ومنها من ظن بهم الظنون.
“لا يبدو سبب معقول يبرر مساندة الإخوان للسعديين فى 1947 وعدائهم للوفد”.. “يبقى تأييد الإخوان لإسماعيل صدقي عصيا على التبرير من وجهة نظر الحركة الوطنية وصالح الإخوان معا، وصدقي بأى معيار من المعايير هو رجل المصالح الأجنبية فى مصر من الناحية الوطنية، لم يؤثر عنه إلا العداء لكل فصائلها، ومن الناحية الديمقراطية هو من هو عداء لها، ومن الناحية الاقتصادية هو ذو العلاقة العضوية الوثيقة برؤوس الأموال الأجنبية وبالجاليات الأجنبية واليهودية المهيمنة على الاقتصاد وقتها، ولم تكن تنقصه شجاعة الجهر بكل ذلك ولا نقصته شجاعة الجهر وحيدا بمعارضته لحرب فلسطين فى 1948، ومن ناحية الإسلام والتغريب لم يؤثر عنه أنه تحلى أو تجمل بأي من آثار الإسلام فى أى المجالات”.
رغم كل ما ذكره البشري فى الفقرات السابقة إلا أنه لازال يعتقد أنه لايمكن فهم حركة الإخوان بعيدا عن جوانب الصراع الدائر فى بلادنا، والذي يساهم مع غيره فى رسم حركة التاريخ وهو الصراع العقائدي والحضاري بين الوافد والموروث، وبالتالي يلتمس لهم العذر في قضية الغموض.
كما لم يبد البشري التفاتا إلى جهد الجماعة لصرف طاقة فريق من الأمة عن القضية الوطنية، الأمر الذي تورط فيه الإخوان بنشأتهم كجماعة دينية تعيد تقسيم الحالة الوطنية على أسس دينية، واعتبر أن حديث البنا عن شغل الناس بالفكرة الصحيحة عن الفكرة الباطلة لا يعني المرواغة أو نوعا من صرف الانتباه، ولكنه كان يعني الطرح المضاد، وهذا بالدقة ما اتبعه الفكر الوافد فى انتشاره، فلم يعتمد على المجادلة والمقارعة مع الفكر القائم، إنما اعتمد على إنشاء المؤسسات التعليمية والفكرية بالطرح المقابل أساسا، والدعوة الإسلامية فى مثل هذه المواجهة رأت الجدوى فى وضع البناء العقائدي والحضاري الإسلامي فى مواجهة مثيله الوافد الغربي.
يتماهى البشري مع الحدية التي حكمت تصور الإخوان وغيرهم للصراع الذى تحول من صراع المصالح إلى صراع دينى وحضاري على أساس حدي بين معسكرى الحق والباطل. والبشري هنا يستبطن معنى الصراع الدائم إلى يوم القيامة بين الحق الذي تجسده جماعات الإصلاح الديني التي يمثل الإخوان آخر طبعاتها يقول:
“لقد أرسى الأفغاني فكرة الإسلام المجاهد، وأضاف محمد عبده فكرة التجديد في الفقه والتفسير، وأضاف محمد رشيد رضا الربط بين التجديد والسلفية والتفاعل مع السياسات الوطنية، وأضاف حسن البنا شمولية الإسلام والترابط الوثيق بين العقيدة والشريعة والسياسة وبين الفكر والتتنظيم الحركي ومزج بين فكريات فقه الأزهر ووجدانيات الصوفية ووطنيات الحزب الوطني”.
الإمام محمد عبده محمد رشيد رضا جمال الدين الأفغاني
البشري هنا يسبغ على الإخوان وصف الوريث الشرعي للحركة الوطنية المصرية المتصالحة مع الدين والتي تستخدمه وقودا للنهوض وأداة للتعبئة، وهو وصف يعكس تشيع واضح للجماعة وأفكارها، ويصدق عليه وصف البنا لأعضاء جماعته “كم منا وليسوا فينا وكم فينا وليسوا منا”، يقصد هنا الولاء الفكري مقابل الولاء التنظيمي وهو ما تظهره مواقف وأفكار البشري التى نحلق معها عبر تلك السطور.
تأمل ما قاله البشري عن سيد قطب، أول من نظر للجاهلية وتكفير المجتمعات والمفاصلة معها ومع الأنظمة:
“لقد قيل إن سيد قطب فى “معالم فى الطريق” بلغ قمة الرجعية لأنه حكم على مجتمعنا كله بالجاهلية، ولكن فهم “معالم فى الطريق” فى إطار منطق الدعوة الإسلامية يكشف أن سيد قطب لم يغل فى الرجعية، بل غلا فى المقاومة، لأنه بذل مجهوده فى إيضاح كيفية إعداد كتيبة الصدام للعودة إلى الإسلام وأبان في “لا إله إلا الله” معنى الانخلاع عن المجتمع الحاضر بكل قيمه ومؤسساته ورموزه، وإذا كانت الجاهلية هي نظام ما قبل الإسلام فإن سيد قطب عندما وصم المجتمع الحاضر بالجاهلية يكون في تصوره قد نقل الدعوة ونظام الإسلام المدعو له من الوراء إلى الأمام، من الماضي إلى المستقبل، أي جعل الإسلام مستقبليا دعوة ونظاما، ليكن الموقف من عموم الدعوة الإسلامية أو تفصيلاتها ما يكون، ولكن علينا أن نفهم منطقها الداخلي وسياقها وكيفية بنائها لعقلية الداعي إليها وكيفية تحريكها لبواعثه، فسلفية الداعي للإسلام سلفية راجعية مقاومة وهي ذات منظور مستقبلي”.
بمثل تلك الفقرات الملتبسة يؤكد البشري أن الغموض والتشوش الذي وصف به الجماعة لم ينج هو الآخر منه، لذا تجده ينتقد الجماعة فى مسائل جوهرية ثم يعود ليؤكد من جديد أنها رأس الحربة للحركة الوطنية والامتداد الطبيعي لمشروع حضاري أصيل يستعيد الموروث الصالح، بحيث لا تظفر من كتابات الرجل برأي قاطع حول الجماعة وأدوارها وتاريخها.
وهذه الرؤية بالقطع لا تتنافى مع قيمة الرجل كأحد أهم المؤرخين وفقهاء القانون ذوي الأفكار الإصلاحية المهمة في الكثير من القضايا الإسلامية والوطنية.