عرف العالم السينما في بداياتها الأولى عام 1898، باعتبارها تطورا حداثيا يسعى للإفادة من تقنية التصوير الفوتوغرافي، المكتشفة حديثا وقتها، في صناعة صورة مناظرة للواقع المتحرك من حولنا. ومع تطور صناعة السينما لاحقا بدأت تطمح في عكس الواقع وإعادة صياغته فنيا بما يعكس تطور رؤية الإنسان إلى الحياة عامة وما تحفل به من دراما إنسانية بالغة الثراء.
في محاولة لتقصي آفاق التأثير المتبادل بين صناعة السينما على مدى تطورها وبين الفلسفة، وانعكاس ذلك على تطور المجتمع وحياة الجمهور الواسع من محبي فن السينما في العالم، وعلى صناعة السينما ذاتها، اختار مركز الدراسات الفلسفية بكلية الآداب جامعة القاهرة، أن يبدأ أولى ندواته العامة للجمهور بمناقشة مستفيضة حول جوانب هذه القضية، بدأت بعرض شيق من الدكتور مالك خوري الناقد السينمائي، وأستاذ السينما بالجامعة الأمريكية في القاهرة.
في محاضرته استعرض خوري مراحل تطور صناعة السينما وما يحكمها من رؤى فكرية وفنية، موضحا أن ذلك التطور لم يكن منفصلا عن الواقع بملابساته ومشكلاته وصراعاته، خاصة منذ بداية القرن العشرين الذي بدا العالم فيه مقبلا على عصر جديد يختلف كثيرا عما سبقه في التاريخ الإنساني، لاسيما بعد اندلاع الثورة البلشفية في روسيا عام 1916، وما ساد العالم بعدها من استقطاب أيديولوجي حاد سعى أطرافه إلى توظيف السينما لخدمة صراعات السياسة وأهدافها الكبرى.
واشار خوري إلى أن لينين كان أحد من أدركوا مبكرا أهمية صناعة السينما، التي اعتبرها الوسيلة الأهم في التعبير عن الأيديولوجيا بقدرتها الواسعة على التواصل والتأثير الجماهيري عالميا، وذلك على عكس مفكرين ماركسيين آخرين انتقدوا السينما ولم يروا فيها إلا مجرد تعبير فج عن النظام الرأسمالي العالمي ورؤيته الانتهازية للعالم وتكريسه لمصالح الطبقات البرجوازية.
واعتبر خوري أن فكرة “المونتاج” التي تمر بها عملية الإنتاج السينمائي، ليست بعيدة عن أفكار هيجل عن الديالكتيك أو الجدل، ونظرية ماركس عن المادية الجدلية، فالجدل عند هيجل هو الجمع بين متناقضين أو متضادين للخروج بمفهوم أو فكرة ثالثة، وهذا ما يحدث بالفعل في عملية المونتاج عبر مزج أكثر من مشهد لإبراز فكرة أو مفهوم جديد.
وقال خوري إن تلك الرؤية البلشفية للسينما كأداة تعبير أيديولوجي انتقلت لاحقا إلى العالم، خاصة أوروبا، ففي ألمانيا كان أعضاء مدرسة فرانكفوت يعتبرون السينما أداة أساسية للهيمنة الأيديولوجية على المجتمع، وظهرت مع ستينيات القرن الماضي مدارس التدريس النظري والفكري في معاهد السينما، والتي غلبت عليها توجهات راديكالية تمزج بين الماركسية ومدرسة التحليل النفسي عند فرويد.
وبحسب خوري، ظلت السينما العالمية حبيسة فكرتين: الأولى هي “نظرية المرآة” التي اعتبرت السينما مرآة ينعكس على سطحها الواقع، أما الأخرى فترى السينما كتعبير محكوم بالأيديولوجيا لاسيما في ظل النظم الشمولية، ولم تتحرر السينما من هذه الرؤية إلا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، وما رافق ذلك الانهيار الكبير من نظريات ما بعد الحداثة وسيادة الرؤية النسبية في مناهج البحث في مختلف فروع المعرفة الإنسانية.
وفي ختام المحاضرة تم عرض الفيلم الفلسطيني “الجنة الآن” paradise today، باعتباره أحد نماذج قدرة السينما على نقل الواقع عبر معالجة فنية متميزة. ويعكس الفيلم واقع الفلسطينيين البائس تحت المعاناة من حصار احتلال صهيوني عنصري يهدر حق البشر في حياة إنسانية لائقة، ما يدفع الشباب الفلسطيني إلى مقاومة جحيم الواقع تحت قهر الاحتلال عبر تنفيذ عمليات استشهادية يوجعون بها المحتل، فيما يحلمون بالخلاص من واقعهم المرير في دنياهم بالانتقال إلى نعيم الفردوس في عالم آخر.