بعد أحداث انتفاضة 18 و19 يناير 1977، اجتمع الرئيس أنور السادات بعدد من الصحفيين ورؤساء التحرير والكتاب ومجلس نقابة الصحفيين في استراحته بالقناطر، لمناقشة التعيينات الجديدة لقيادات المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة. ألقى السادات يومها بقائمة ضمت إبراهيم نافع لـ”الأهرام” ومكرم محمد أحمد لـ”المصور” وموسى صبري لـ”الأخبار”، ثم توقف قليلا وسحب نفسا من غليونه وقال “نيجي بقى لروز اليوسف.. إيه رأيك يا صلاح يا حافظ في 18و19 يناير، انتفاضة شعبية ولا انتفاضة حرامية؟”.
كان السادات يكره كل من شارك أو حرض أو حتى نقل ما جرى من أحداث تلك الانتفاضة، فعندما تصاعدت الأحداث استعد “كبير العائلة المصرية” حينها لترحيل أسرته إلى الخرطوم، وانتظر في استراحة أسوان يترقب تطورات الموقف. خلال أحداث الانتفاضة نقلت “روز اليوسف” برئاسة صلاح حافظ موقفا منحازا للمتظاهرين، ووصفت ما يجري بأنه “انتفاضة شعبية” وليس “انتفاضة حرامية”، كما أطلق عليها السادات، بعدها قرر الرئيس تنحية المسئولين الثلاثة عن “روزا اليوسف” عن عملهم وهم عبدالرحمن الشرقاوي رئيس المؤسسة ورئيسا التحرير صلاح حافظ وفتحي غانم.
أنور السادات
اتجهت أنظار حضور الاجتماع إلى الأستاذ صلاح حافظ الذي ارتسمت على وجه ابتسامته المعهودة وهو يستقبل سؤال السادات، وانطلق في الرد يشرح العوامل الموضوعية التي أدت إلى الانتفاضة، مشيرا إلى أن دخول بعض العابثين في صفوفها لا يعني أنها انتفاضة حرامية. ابتسم السادات قائلا: “يعني يا صلاح الدوجما اللي في دماغك زي ما هي، طيب أنا كنت حاختارك رئيسا لتحرير روز اليوسف.. خليك بقي المرة دي والسيد ــ يقصد عبد العزيز خميس رفيق السادات في قضية مقتل أمين عثمان – سوف يكون رئيسا للتحرير”، فابتسم الحضور وردد بعضهم بعد ذلك نكتة أن “صلاح حافظ رسب في الشفهي”. بحسب ما ذكرت الكاتبة الصحفية سناء البيسي في كتاب “سيرة الحبايب”.
صباح الخير يا سجن
في ديسمبر 1954 ألقي القبض على صلاح حافظ مع آخرين بتهمة الانضمام إلى حركة حدتو اليسارية (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) ليمكث في السجن 8 سنوات تاركا خلفه زوجته الممثلة هدى زكي وابنه شريف وابنته تحية، وكان أكثر ما يشغل باله هو مشروع مجلة “صباح الخير” الذى كلفه به إحسان عبدالقدوس.
إحسان عبد القدوس
تقبل حافظ حياة السجن القاحلة كأمر واقع، كأنه سيعيش فيه أبدا، ولم يشاهد مرة وعلي وجهه أية علامة للقلق، ولم يسأل مرة متبرما متي يحين وقت الإفراج؟ كان مشغولا بأعماله منشغلا بهموم الآخرين وليس لديه فائضا من الوقت، فالأعباء الملقاة علي كاهله كثيرة وعليه وحده أن ينجزها، كتأليف رواية أو إخراج مسرحية أو الإعداد لحفل سمر أو إلقاء محاضرات أو علاج زملائه من المعتقلين أو حرس السجن.
وبحسب الكاتب الصحفي رشاد كامل في كتابه “الصحافة والغضب والسلطان.. ذكريات صلاح حافظ”، فإن حافظ كان يتعامل مع مجلة صباح الخير باعتبارها ابنته التي لم تولد بعد، ونقل عنه قوله: “ولدت صباح الخير وأنا في السجن، وقبلها بسنوات كان إحسان عبدالقدوس قد كلفنى بوضع مشروع لها فحشدت كل ما في رأسي من أفكار جديدة شابة، واستعنت بأقصى ما أملك من قدرة على الابتكار ووضعت مشروعا يقلب عالم الصحافة رأسا على عقب ويقول لصحافة العواجيز: راحت عليك”.
ويضيف: “وضع إحسان المشروع في درج مكتبه وسكت، ثم جاءت الحكومة وقبضت علىّ ووضعتنى فى درج مكتبها في منفى الواحات.. ومضت السنوات والمشروع لا حس ولا خبر، وبدأت أقول لنفسي ولزملائي: مالوش حق إحسان هو يعني لازم يستنى خروجي عشان ينفذه؟ ليه مايسلموش لأحمد بهاء الدين ولا حسن فؤاد؟ ولكي أعزى نفسي عن هذا الوقت الضائع بدأت أنفذ المشروع في المنفى. كانت تتاح لنا أحيانا فترات انفراج يتيسر فيها تهريب الأوراق والأقلام والألوان، فننتهز الفرصة ونصدر مجلات”.
ويتابع حافظ: “كانت كل مجلة بالطبع تصدر فى نسخة واحدة بخط اليد، يسلفها كل قارئ -سجين- للذى يليه، وأما محتويات المجلة وأسلوبها وسياستها فكانت تخضع لمزاج الذى يصدرها لأنه هو كاتبها وناشرها ورئيس تحريرها وهو أيضا مطبعتها!.. كان العامل فينا يصدر مجلة نقابية، والطالب يصدر نشرة كمجلات الحائط، وأستاذ الجامعة يصدر مجلة كنشرة البنك الأهلي.. أما أنا فكنت أصدر “صباح الخير”.
وفي معتقل الواحات من عام1954 حتي عام1962 بين الرمال والجفاف والأوامر والنواهي كتب صلاح رواية “المتمردون” وقدم مسرحيتي “الخبز” و”الحل الأخير” و”رواية القطار” وعشرات القصص القصيرة التي نشر بعضها في مجموعتي “أيام القلق” و”الولد الذي جعلنا لا ندفع”.
معارك اليسار واليمين
خرج صلاح من السجن لتتسع مرارة ابتسامته بعد أن أصبح بلا قناعة في الانضمام إلي أي من التنظيمات الشيوعية. تقول البيسي: “كشفت له تجربة السجن مدى التمزق والانقسام في هذه المنظمات، وقرر أن يكون حرا يدافع بقلمه عن كل المظلومين في الأرض ويقول الحقيقة التي يشعر بها وجدانه”. وتضيف: “لم يسلم صلاح من هجوم اليمين ولا هجوم اليسار، فاليمين هاجمه وبضراوة لأنه في عيونهم شيوعي خطير ويساري مغامر وماركسي منذ مولده.. واليسار هاجمه وبشراسة أيضا لأنه في نظرهم يساري حكومي وماركسي مرتد ويساريته من قبيل الديكور والوجاهة السياسية، وكما أخطأ اليسار أخطأ اليمين بنفس القدر، وكان ذلك دليلا علي صحة الطريق الذي اختاره صلاح لنفسه”.
قال حافظ معبرا عن مغزى وسر الهجوم عليه: “قل ببساطة ما تشعر به، فتشارك بذلك وبدون قصد في دفع عجلة التاريخ.، لا يهم موقعك من هذه العجلة.. لا يهم مستوى القضية التي أنت منشغل بها.. لا يهم أن تكون زعيما أو رئيس تحرير أو أديبا أو مجرد ريشة تصحح أخطاء الآخرين.. يكفي أن تؤدي مهمتك بإخلاص وحماس، وأن تعبر عما في ضميرك دون زيف لكي يكون لك دور في صياغة المستقبل”.
عند سقوط الاتحاد السوفيتي كتب حافظ في جريدة “الأخبار” في 5 أكتوبر1991: سقطت الاشتراكية السوفيتية سقوطا لم يكن بسبب حرب أو كارثة طبيعية أو مؤامرة عالمية، وإنما فشل النظام من داخله ومات بسلام.. ولا يمكن مهما نحاول أن نفسر ما جري إلا بالتفسير الوحيد الصحيح وهو أن النظام كان بطبيعته غير قابل للحياة، وأن بقاءه طوال سبعين عاما كان بأدوات غرف الإنعاش وبالمضخات وأنابيب الأكسجين والمنشطات الكيماوية، وإخفاء الأعراض وصور الأشعة ورسوم القلب والمخ عن أهل المريض الذي مات.. سقط لأنه كان نظاما ديكتاتوريا مطلقا ولم تكن لديه نوافذ يطل منها علي واقع الحياة.. سقط لأنه كان يعيش طوال الوقت في بيت من المرايا لا يري فيها غير نفسه وبالحجم الذي يبغيه وفي الضوء الذي يريد.
طبيب الشعب
كان صلاح حافظ (1925 -1993) علي وشك التخرج من كلية الطب مثل زملائه محمد يسري ويوسف إدريس ومصطفي محمود، لكنه كان قد فتن بالعمل السياسي من ناحية، والأدب والصحافة من ناحية أخري فأجهض بذلك حلم أبيه الذي كان يريد أن يرى ابنه طبيبا يداوي جراح المرضى وآلامهم، إلا أن صلاح اختار دورا أكبر من دور الطبيب التقليدي، بعد أن ألهمته دراسته لعلوم الطب معنى آخر أروع وأسمي بأن يكون طبيبا للشعب كله، فقد اكتشف القانون الذي يوحد بين جسد الفرد والأمة والكون بأكمله، ورأى أن الأمراض التي تسكن هذه الأجساد واحدة وكذلك علاجها واحد.
تقول البيسي: “هكذا عاش صلاح طبيبا طوال حياته يعالج آلام الناس وآلام أمته، ويداوي جراحا طازجة ومزمنة بالمئات يحملها له بريده الصارخ كل صباح، ولم يمارس عمله العظيم هذا في عيادة أو مستشفي بل علي أرض الطبيعة في الشوارع.. في المصانع.. في الحقول.. في التجمعات، فقد كان يحلم بشفاء الجسد الأكبر.. جسد الأمة.
بدأ حافظ مشواره في بلاط صاحبة الجلالة عام 1948 بنشر قصص قصيرة في جريدة “المسائية” التي رأسها كامل الشناوي ثم انتقل إلى جريدة “النداء” التي يملكها ياسين سراج الدين الذي أسند إليه رئاسة تحرير مجلة “القصة”، ومن مجلة “القصة” إلي “روز اليوسف”، ثم إلي “أخبار اليوم” ليساهم في تأسيس جريدة “الأخبار” قبل اعتقاله بتهمة الانضمام إلى تنظيم شيوعي، ثم انتقل إلى “آخر ساعة”، ثم عاد إلي روز اليوسف مرة أخري ليتم عزله منها عام 1977 ليتفرغ للمشاركة في كتابة سيناريو وحوار رواية فتحي غانم “زينب والعرش”.
معارك النهاية
دخل حافظ العديد من المعارك الصحفية، وظلت قضية استقلال الصحفي عن أي أطر حكومية أو حزبية هي قضيته الأولى، “لا اقتراب لا من حزب ولا زعيم، فالسيد هو القارئ”. أخذ حافظ على هيكل قربه الشديد من عبد الناصر ثم خصومته الشديدة مع السادات ووصف كتابه “خريف الغضب” بأنه “خريف الغل”، ودخل معركة مع صديقه اللدود موسى صبري القريب من السادات، وكتب مقالا في روز اليوسف “سادات هيكل وسادات موسى” قارن فيه ببراعة بين السادات فى “خريف الغضب” للأستاذ هيكل والسادات في كتاب “السادات الحقيقة والأسطورة” للأستاذ موسى صبرى.
محمد حسنين هيكل موسى صبري
في نهاية 1991، سقط حافظ وهو يكتب يوميات “أخبار اليوم”، فجأة سقط القلم من يده، ثم وقع على الأرض حيث كان مصابا بورم في المخ، وأجريت له جراحة استئصال عاجلة ثم سافر إلى السويد لاستكمال رحلة العلاج، وهناك قرر الرحيل، بعد رحلة طويلة وميراث كبير في الصحافة والسياسة والأدب.
صورة الغلاف بريشة الفنان سعد الدين شحاتة