الحدث

طالبان تحكم أفغانستان من البوابة الأمريكية

نشرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية تقريرا أخيرا تناولت فيه موقف الأطراف المتصارعة في أفغانستان والمشهد الحالي للصراع الدائر هناك، وننشر هنا أهم الأفكار الواردة في التقرير، مع تقديم منا يتناول بالتعليق بعض ما ورد فيه من آراء.

 تقديم:

يقدم التقرير نموذجا مهما لمسارين لا ينفكا يتكررا سواء في نموذج الحركات الإسلامية المتطرفة أو في علاقات واشنطن المعقدة المترددة والمتناقضة مع هذه الحركات من مرحلة لأخرى.

المسار الأول: الطابع الميكيافيلي والبراجماتي لحركات التطرّف 

تتميز هذه الحركات بطابع “حربائي” متلون  السلوك حسب المصلحة الآنية،  وجامد ومتطرف  الفكر  علي الدوام ، فحسب ما رصده التقرير بدقة وعلي الأرض فإن طالبان التي قدمت أثناء حكمها لأفغانستان نموذجا بشعا للعنف الدموي والاستهتار بحياه البشر وقمع النساء  تتحول جزئيا  – ليس كليا – ومرحليا – ليس نهائيا – من سياسة الترويع والقتل ونشر الرعب والكراهية وتدمير مقومات الدولة وبنيتها التحتية الي سياسة جديدة تقوم علي التقرب من الأهالي وكسب ودهم وتقديم الخدمات التي تفشل الدولة في توصيلها بكفاءة بسبب الفساد والبيروقراطية .. تقوم استراتيجية طالبان إذن علي كسب العقول والأفئدة بدلا من النصر العسكري المكلف الذي لاتسمح موازين القوي الحالية بتحقيقه . النموذج الذي تقدمه طالبان – كما يشرح التقرير – هو بامتياز نفس النموذج الذي اتبعه الإخوان المسلمين والقائم على  تقديم الخدمات والحلول محل الدولة الغائبة أو العاجزة، وهو النموذج الذي طالما احتقرته حركة  طالبان ووعائها الفكري المتمثل في فكر تنظيم القاعدة، إذ تتولي طالبان الآن تقديم الخدمات الصحية والتعليمية  كما تقوم بجباية الضرائب وتحرس المدن في أماكن  لاتسيطر عليها الحركة عسكريا وإنما تقع نظريا تحت هيمنة حكومة كابول المعادية لها !! ويتم ذلك بغرابة عبر اتفاقات موثقة ومعلنة مع هذه الحكومة الضعيفة،  والأغرب أنها تتم بتشجيع حلفاء هذه الحكومة في واشنطن!!

الأخطر هو أن طالبان تمارس في الوقت نفسه عمليات الاٍرهاب المسلح ضد الدولة كلما تيسر لها ذلك ولكن في صورة حروب إغارة لتوسيع النفوذ أكثر منها لتحقيق معادلة صفرية تقضي علي الحكومة الحالية او تحل محلها كليا . لكن هذا السلوك المتناقض حسب أوضاع الحركة العسكرية وميزان القوي المتباين من منطقة لأخري في أفغانستان إنما يشير الي أن الحركة التي لم تغير عقائديا من أفكارها المتطرفة، فهى تبدو قابلة للعودة الشاملة لاستراتيجية القتل والعنف الدموي متي تعدلت موازين القوي لصالحها والتي تحرمها منه الآن السيطرة الجوية الكاملة للتحالف الأطلسي بقيادة واشنطن وقسوة ضرباته علي القوات الطالبانية عندما  تتهور و تشن هجمات كبيرة .

المسار الثاني: تخبط السياسات الأمريكية والعودة لأسلوب التفاوض مع المتطرفين وربما العودة لاستخدامهم مجددا

يشير التقرير الي سياسات ترامب الكارثية في أفغانستان وحالة الفراغ المفاجيء الذي خلفته لصالح طالبان في معركة كسب قلوب قاطني المناطق الريفية الفقيرة،  وهو  نموذج آخر علي التقلب الذي عرفته هذه السياسة بصور متباينة من بوش الإبن ثم أوباما حتى ترامب حاليا، وهو  تقلب يدفع ثمنه الشعب الأفغاني. من الصعب إرجاع هذا التقلب للمنظور ضيق النظر للإدارة الامريكية الحالية فحسب ولكن لحقيقة الروابط القديمة لواشنطن مع  هذه الحركات والتي وصلت  في مراحل معينة لمستوى التحالف والاستخدام المباشر لها من الأمريكيين ( فترة الغزو السوفييتي لافغانستان وبدايات تشكل  حركة طالبان عبر المخابرات الباكستانية  ) كما وصلت لمستوى العداء والقتال المباشر ( ماسمي  بالحرب علي الاٍرهاب مع غزو أفغانستان.

الأهم أن هذه الحالة من تغير السياسات تحرم أي إدارة أمريكية القدرة علي اتخاذ قرار نهائي بالقضاء المبرم علي هذه الحركات تحسبا لنشوء الحاجة الي استخدامها مستقبلا . ويمكن في هذا الإطار تفسير عودة واشنطن للتفاوض  مع طالبان في اعتراف صريح بقوتها الراهنة كطرف أساسي علي الساحة الأفغانية  وهو أمر تشجعه الحركة  التي تقدم نفسها الان كبديل يمكن ان ينعم بالمساعدات المالية الغربية ويوصلها للمدنيين الأفغان بحزم وبدون الفساد ونقص الكفاءة الحالية التي يتسم بها أداء حكومة أشرف عبد الغني المهزوزة في كابول.

وهنا عرض موجز للتقرير:

من وجوه كثيرة، لا تختلف بلدة “تشارخ” عن سائر الريف الأفغاني التقليدي، فسكان المنطقة البالغ عددهم 48000 نسمة، تجافيهم الصناعة ولا تعرف التنمية إليهم سبيلا، ويعيشون على الزراعة البدائية، وينتشر فيهم الفقر، ولا يلوي من يجد منهم عملا أفضل في مكان آخر على شيء في مدينته، فيهجرها، وربما تنقطع علاقته بها  سوى من بضعة نقود يرسلها إلى أسرته بين الحين والآخر ليسدوا بها رمقهم.

لكن نظرة أعمق إلى هذه المنطقة تكشف بجلاء عن اختلاف عميق عما يمكن أن يتوقعه المرء في مدينة أفغانية صغيرة ونائية. فالمسئولون هناك “عادلون وأمناء”، ما يجعلهم استثناء في بلد يصنف ضمن الدول الأكثر فسادا في العالم، ومعدلات الجريمة متراجعة إلى درجة لافتة، وتكاد تنعدم النزاعات بين الجيران والعائلات، وإذا نشبت، لا يألو الحاكم أو قاضي المدينة الوحيد جهدا في سبيل وأدها في مهدها.

يتابع القائمون على الرعاية الصحية في البلدة العيادات بانتظام للتأكد من قيام الأطباء والممرضات بأعمالهم وتوافر الأدوية في المخازن، كما ينتظم المعلمون والطلاب في مدارس المدينة الصغيرة، فيما يعد استثناء في منظومة التعليم الأفغانية التي تتسم بارتفاع معدلات الغياب إلى درجات قياسية.

 

دولة ظل

نظريا يمكن تأويل هذه النجاحات كدليل على الإدارة الجيدة التي تقدمها حكومة أشرف غني، المدعومة أمريكيا، خارج العاصمة كابول. لكن تقريرا نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية مؤخرا (عدد خريف 2018) ينسب الفضل في وجود هذه اليوتوبيا على الأراضي الأفغانية المكلومة إلى حركة طالبان، الحاكم الفعلي لمدينة تشارخ، فالمسئولون المحليون في المدينة الصغيرة، بدءا من رئيس البلدية إلى قاضيها الأوحد، ينتمون إلى الحركة، والبيروقراطيون العاديون، مثل المعلمين والمسئولين الصحيين، يتم اختبارهم واختيارهم من قبل المتمردين، حتى لو كانت كابول هي من يتولى دفع رواتبهم، حسب ما يؤكد التقرير.

الرئيس الأفغاني أشرف غني

يفيد التقرير، الذي يحمل عنوان The Taliban’s Fight for Hearts and Minds، أنه برغم الزيادة الصارخة في أعداد الضربات الجوية التي نفذتها القوات الأمريكية على مدى العام الماضي، إلا أن حركة طالبان نجحت في استعادة نفوذها في مساحات واسعة من الريف الأفغاني، وتسعى حثيثا في الفترة الحالية إلى إقصاء حكومة الوحدة الوطنية برئاسة أشرف غني، المعترف بها دوليا.

ربما يصعب حاليا تقبل فكرة أن طالبان تجاهد من أجل تقديم إدارة جيدة وحكم رشيد، نظرا للدموية التي اتسم بها حكمها في الفترة من 1996 إلى 2001. ففي غضون تلك الفترة مارست الحركة أقسى سياسات القمع الوحشي ضد المواطنين الأفغان، خاصة النساء والشباب، وعقب الإطاحة بها في عام 2001 واصلت طالبان هجماتها الوحشية التي أسفرت عن قتل عشرات الآلاف من المدنيين، وحتى عام 2009، كانت طالبان لا تزال تقتل المعلمين وتحرق المدارس وتهاجم عمال الإغاثة.

أما اليوم فإن الحركة – وفقا لكاتبة التقرير، أشلي جاكسون- تسعى بدأب لتقديم نفسها كحركة سياسية شرعية قادرة على تقديم الخدمات وإدارة شئون البلاد. وفي الوقت الذي تنسحب فيه القوات الأمريكية والأفغانية لحماية المدن الكبرى كجزء من استراتيجية واشنطن الجديدة، تتقدم طالبان بخطى وئيدة لملء هذا الفراغ، ومن ثم، تتحول الحركة من مجرد معارضة كرتونية، أو حركة تمرد تحت السيطرة، إلى حكومة قادمة، ما لم تكن فعلية.

أشلي جاكسون

جذور التحول

ولفهم هذا التحول الطالباني الملغز، ترجع جاكسون، الباحث المشارك في معهد Overseas Development Institute، بالتاريخ إلى عام 2014، فقد منح انسحاب عشرات الآلاف من الجنود الدوليين في ذلك العام قادة الحركة الكثير من المخاطر والفرص في آن، وبدا الأمر وكأن الزمان قد دار دورته وعاد كهيئته في منتصف تسعينيات القرن الماضي.

في ذروة الحرب الأهلية، في عام 1996، استفاد قادة الحركة من الغياب الفعلي لكافة أشكال السلطة المركزية للزحف نحو السلطة، أما اليوم، فقد أدركت القيادة الطالبانية أنه بدلا من مهاجمة المدارس الحكومية ومشروعات المعونات، فإن بإمكانها أن تربح أكثر من خلال توظيفها سياسيا واجتماعيا لتكون صاحبة اليد الطولى في تقديم الخدمات وكسب تأييد السكان المحليين.

الأمر الذي بدأ كاعتراف تدريجي من طالبان بأن العنف الجامح سيضر بمعركتها من أجل كسب تأييد شعبي، سرعان ما تحول بمرور الوقت إلى منظومة حكم متطورة، شملت إدارة المدارس والعيادات والمحاكم وجمع الضرائب، وغيرها. وبدأ أعضاء طالبان المحليون في عقد اتفاقات غير رسمية لوقف إطلاق النار مع الجنود الأفغان من أجل تهدئة الصراع، فضلا عن التنسيقات الأمنية لحراسة نقاط التفتيش، حيث يتولى الجنود الحكوميون حراسة هذه النقاط حتى الليل، ويخلفهم أعضاء طالبان حتى الفجر.

التأسيس الثاني

خلق هذا التحول في الاستراتيجية الطالبانية تعايشا سلميا نسبيا بين الحركة والحكومة في مناطق كانت في السابق من أكثر الأماكن اضطرابا. ويرجع مقاتلو طالبان الفضل في هذا التحول إلى الملا أختر محمد منصور. كان منصور قد قاد الحركة بكفاءة بالغة في العديد من الأوقات العصيبة التي مرت بها، منذ نهاية عام 2009، عندما عززت واشنطن وجودها العسكري هناك بإرسال 33000 جندي إضافي إلى أفغانستان، وشهد عام 2013 موت زعيم طالبان ومؤسسها، الملا محمد عمر، إلا أن نائبه منصور نجح في إخفاء خبر الوفاة على مدى عامين كاملين، وبعدها تولى منصور قيادة الحركة في عام 2015 عقب إزاحة عدد من القادة المهمين في الحركة.

محمد منصور

ينقل التقرير قول أحد قادة طالبان في مقاطعة هلمند الجنوبية: “لقد غير منصور فكرنا تماما في كل شيء، سواء فيما يتعلق بالحكم، أو بالسلام”. وتخلص جاكسون في تقريرها  إلى أن منصور نقل طالبان من مجرد حركة تمرد تثير الفزع إلى “دولة ظل”، كما عزز الأجنحة العسكرية والمالية داخل الحركة، محاولا أن يمضي بها بعيدا عن نظام الرعاية إلى نظام يركز على بناء المؤسسات.

على خلفية ذلك، قام منصور بتشكيل لجنة للتحقيق في الضحايا المدنيين، وعين الطاجيك والأوزبك في مجلس شورى طالبان، أو مجلس القيادة، لتتجاوز الحركة قاعدتها الباشتونية. لم يكن منصور يهدف إلى الخروج من الحرب بنصر عسكري مؤزر، وإنما كان يعد الحركة للحياة بعد الحرب، عبر عقد صفقة تجعلها شريكا في السلطة، كما كان من أشد المدافعين عن فتح مكتب لطالبان في قطر في عام 2013، وقاد الجماعة بحذر صوب مزيد من الانفتاح على المحادثات.

ويلفت التقرير إلى أنه برغم نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في قتل منصور في غارة بطائرة بدون طيار في مايو 2016، إلا أن أفكاره بقيت حية، وبدت جلية في الطريقة التي سمحت لطالبان ببسط نفوذها دون أن تتكبد خسائر مادية ومعنوية فادحة، عادة ما تسفر عنها المعارك الضارية.

“فعندما حاولت طالبان الاستيلاء على مراكز المقاطعات والمدن الرئيسة، بما في ذلك مدينة قندوز الشمالية في عامي 2015 و2016، تراجعت الحركة سريعا أمام الضربات الجوية والهجمات البرية المدعوم دوليا. وبينما تواصل طالبان الهجوم بصورة دورية على المدن الكبرى، مثلما فعلت في بداية هذا العام في إقليم فرح الغربي، وفي شهر أغسطس في إقليم غازني الشرقي، إلا أنها تكرس موارد أقل لهذه العمليات، وتوظفها بشكل أكبر لإرباك حكومة كابول منها للسيطرة على الإقليم”.

صراع النفوذ

ينصب تركيز طالبان الآن على تمديد سيطرتها بطريقة أكثر دهاء، فمن خلال الاعتماد على سمعتها في إشاعة العدل (حتى لو كان قاسيا)، اكتسبت الحركة موطئ قدم في قرية تلو قرية. وكلما زادت سيطرتها على مدينة ما، شرعت تدريجيا في فرض قواعدها الخاصة على الحياة المدنية، وتجنيد قوة من الموظفين المدنيين، بدءا من محصلي الكهرباء حتى مفتشي الصحة، لفرض هذه القواعد. ويتنوع مستوى الحضور الطالباني من مكان إلى مكان؛ لكن حتى في المدن التي تخضع ظاهريا للسيطرة الحكومية، مثل قندوز ولاشكار جاه، تتولى طالبان الآن جمع الضرائب والفصل في النزاعات.

وعلى عكس تنظيم الدولة الإسلامية الذي حاول إنشاء بنية تحتية موازية في الأراضي التي سيطر عليها في العراق وسوريا، اتجهت حركة طالبان إلى استخدام الخدمات الحكومية ومشروعات المعونات الموجودة فعليا على الأراضي الأفغانية. وفي مقابلة أجرتها أشلي في أكتوبر 2017 عبر تطبيق WhatsApp، فسر ذبيح الله مجاهد، المتحدث الرسمي باسم طالبان، هذا التناقض الظاهر في العمل مع الدولة ومحاربتها في الوقت نفسه قائلا: “الأمر يتعلق بتلبية احتياجات الناس، وليس جزءا من الحرب”.

وتضيف أشلي: “أدركت طالبان أنها ليست بحاجة إلى مهاجمة مقدرات الدولة إذا كان بإمكانها الاستيلاء على مواردها وإعادة توجيهها لتحقيق أهدافها”. وقد صارت هذه المعالجة أسهل بكثير بفضل حالة الإحباط التي تنتاب أغلب الأفغانيين جراء فساد مستشري أدى بدوره إلى تردي مستوى الخدمات العامة، وجعل الحصول على عمل أمرا بالغ الصعوبة.

وتشير تقارير إلى أن 80% من المعلمين في المدارس الحكومية يضطرون إلى دفع رشاوي للحصول على وظائفهم، وفقا لتدقيق حسابات أصدرته كابول في العام الماضي. إزاء ذلك، يقول جمال، معلم سابق في المدرسة الثانوية للبنين في كابول: “بينما وقفت الحكومة عاجزة عن عمل أي شيء، نجحت طالبان في حل جميع مشكلاتنا”.

كان جمال (ليس هذا اسمه الحقيقي لضمان سلامته، كما يشير التقرير) لا يزال مراهقا عندما نزلت الحركة بإقليم لوجار، الذي كان يعيش فيه، في عام 2007، مما دفع به إلى الهرب. وسعى إلى الحصول على وظيفة في مكان آخر، لكنه قرر العودة بعد أن طمأنته عائلته على تحسن الأوضاع الأمنية في الإقليم في ظل هيمنة طالبان عليه. وبناء على تزكية من ناظر مدرسته القديمة للمسئولين المحليين في الحركة، جرى اختباره والتحقق من سيرته الذاتية، وبمجرد أن أطمأنوا إلى أنه لا يعمل جاسوسا لحساب الحكومة، منح مسئولو طالبان المحليون الضوء الأخضر  لشيوخ القرية الذين يعملون كوسطاء بين مسئولي الحركة والحكوميين، لينتهي الأمر بموافقة وزارة التربية والتعليم على إعادته إلى منصبه القديم.

وبرغم أن جمال يعمل في مدرسة حكومية وأن وزارة التربية والتعليم هي من يقوم بدفع راتبه، إلا أنه يؤكد أن المسئولين الطالبانيين (عادة من شيوخ القرية أو الملالي) هم من يديرون العمل من جميع النواحي المالية والفنية والإدارية. وينطبق الأمر نفسه على العيادات والمستشفيات التابعة لوزارة الصحة. ويحجم المسئولون في كابول عن الاعتراف بوجود هذا التنسيق والتعاون مع طالبان، ويؤكدون دائما أنهم فقط ملتزمون بتقديم الخدمات لجميع الأفغان بغض النظر عن الطرف الذي يؤيدونه في الصراع.

لا أحد يمكنه أن يحدد على وجه الدقة حجم المساحة التي تخضع لسيطرة طالبان، أو، على أقل تقدير، تضطلع بإدارتها اليوم، ولا تزال تقديرات الهيمنة الإقليمية محل خلاف حاد، إلا أن تقرير “فورين بوليسي” الأخير يؤكد أنه وفقا لتقديرات بعثة “الدعم الحازم”، التابعة لحلف شمال الأطلسي، فإن حركة طالبان تبسط نفوذها وسيطرتها على 14% من الأقاليم والمقاطعات في البلاد، بينما تسيطر الحكومة على 56%، أما المناطق الأخرى فمحل نزاع.

يورد التقرير أيضا نتائج دراسة مهمة أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في يناير الماضي تفيد بأن حركة طالبان تنشط “بشكل علني” في 70% من المقاطعات في البلاد.

مشاركة لا مغالبة

من الصعب فهم مصطلحات من قبيل ’تمارس نفوذا‘، أو ’تنشط بشكل علني‘ على وجه الدقة. لكن أشلي جاكسون، كاتبة التقرير تؤكد أن استراتيجية طالبان تتحدى مفاهيم السيطرة الصفرية. وتبين خريطة دقيقة لمناطق نفوذ طالبان أن معظم المدن والمراكز الإقليمية الكبرى تقع داخل دائرة هذا النفوذ.

“فقيادة السيارة لمدة ساعة من كابول في أي اتجاه تؤدي بك إلى إقليم خاضع لطالبان. ربما لن تجد علم طالبان مرفوعا فوق أي منطقة، لكن الجميع يعلم من المسئول الفعلي عن إدارة هذه المناطق. فطالبان هي من يضع القواعد وينفذها، وهي من يقوم بجمع الضرائب، وتحديد نسبة التواجد الحكومي”.

ويرجع التقرير أسباب ذلك إلى أنه في الفترة التي شهدت تدفق قوات أجنبية، ركزت القوات الدولية على استراتيجية تقوم على الهيمنة في المدن الرئيسة، فضلا عن الهيمنة على قلوب وعقول الأفغان من خلال تقديم الخدمات والمساعدات؛ وهو ما سيجعل نفوذ الحكومة يمتد بعد ذلك نحو الخارج ليتصل بالمناطق الأخرى الواقعة تحت سيطرة الدولة. وتمثل الأمل في أنه إذا تمكنت الحكومة من الربط بين هذه المناطق فسوف تتمكن من قلب الطاولة السياسية والعسكرية جميعا على طالبان.

لكن، مع انسحاب القوات الدولية حدث العكس؛ حيث أخذت دائرة النفوذ الحكومي تضيق وتفقد الاتصال بين مناطقها. لقد تخلت الولايات المتحدة الأمريكية عن مكافحة التمرد الطالباني، والآن تستخدم طالبان أساليب الحكم الرشيد والإدارة الجيدة لتفوز بالتأييد الشعبي.

وقد أكد مسئولو طالبان الذين تحدثت إليهم جاكسون مؤخرا أنهم لا يسعون إلى تحقيق انتصار صريح أو حاسم، وإنما إلى التوصل إلى اتفاق سلام.

وتعقب جاكسون بأن “أساليبهم في الحكم الرشيد والإدارة الواعية تدعم هذه الدعاوى”. وتضيف: “ويقدم إقليم هيلماند في الجنوب الغربي للبلاد خير مثال لطريقة عمل هذه المنهجية، ونجاحها. فالتقديرات الآنية للحكومة الأفغانية تشير إلى أن حركة طالبان تهيمن على 85% من هذا الإقليم، ويشير السكان المحليون إلى أن مدينة موسى قلعة في الشمال تمثل عاصمة طالبان الجديدة.  وكشأن حكم طالبان في سائر المدن، يقوم الحكم في هذا الإقليم أيضا على التعاون مع الحكومة الأفغانية”.

ويسير التعاون بين طالبان والحكومة الأفغانية في هيلماند وفق قواعد تنظيمية محكمة. ففي فبراير الماضي وقع ممثلون عن لجنة التعليم الطالبانية وإدارة التعليم الحكومية في الإقليم مذكرة تفاهم من عشرة بنود تحدد مسئوليات كل فريق في مجال العمل التعليمي في الإقليم. وتم نشر صور بهذه المناسبة على موقع “تويتر” تُظهر أعضاء طالبان بعماماتهم السوداء ووجوههم الملثمة جزئيا وهم يجلسون مع نظرائهم الحكوميين.

وقد نص الاتفاق على أن جميع المدارس منشآت حكومية خالصة، لكن المسئولية تقع على الحركة في حمايتها والعاملين فيها. وتعهد الطرفان بالعمل سويا من أجل إعادة فتح المدارس التي تم إغلاقها بسبب القتال في سنوات الحرب الماضية. وقد أكد داوود شاه، مدير إدارة التعليم (الحكومية) في هيلماند، أن أكثر من 33 مدرسة (يمثل هذا الرقم أكثر من 20% من المدارس التي تم إغلاقها) أعيد فتحها منذ توقيع الاتفاق. كما دافع شاه عن هذا الاتفاق متسائلا: “هل من الأفضل للأطفال أن يذهبوا إلى المدارس، أم أن تظل المدارس مغلقة فلا يجدوا أمامهم سوى الانضمام إلى طالبان؟”.

هلع الأهالي

يدافع مسئول مالي في حركة طالبان عن حركته قائلا: “تعرضت طالبان للنقد في تسعينيات القرن الماضي بزعم أنها غير فاعلة، لكننا لم نتلق مطلقا أي مساعدات مالية يوم تبوأنا السلطة”. ويضيف: “انظروا ما يمكننا أن نفعله بكل هذا الدعم الدولي إذا وُضعنا موضع المسئولية”.

بالنسبة إلى كثيرين – وفقا لجاكسون – تمثل فكرة عودة طالبان احتمالا مرعبا. فبينما تعلن طالبان أنها غيرت من بعض مواقفها السابقة، إلا أن كثيرا من هذه المواقف لا يزال قيد التطبيق على أرض الواقع.

من ذلك أن طالبان تقول أنها لا تمانع تعليم الفتاة، أو عمل المرأة في قطاعات معينة، لكن الحقيقة أنها تمنع – في المناطق التي تسيطر عليها – ذهاب الفتيات إلى المدارس بعد بلوغهن سن البلوغ، أو خروج النساء بغير محرم، فضلا عن فرض إطلاق اللحى والصلاة في المساجد على الرجال، ومنعهم من ارتداء الملابس العصرية، كما تحظر الحركة رسميا الهواتف الذكية والتليفزيون، وتعاقب كل من يخالف هذا الحظر، وتنفذ حكم الإعدام في من يدانون بالتجسس لصالح الحكومة.

إزاء ذلك، يعيش كثير من من المواطنين في حالة هلع مستمرة، ويجنح القادرون منهم إلى ترك المدن التي تسيطر عليها طالبان إلى أقرب مدينة لا تزال القوانين الحكومية تُحكم فيها قبضتها. لكنهم يظلون تحت التهديد لأن غارات طالبان على المدن المجاورة لا تتوقف.

يطرح التقرير سؤالا محوريا: “إلى أي درجة تكسب طالبان دعما شعبيا؟”. تؤكد جاكسون أنه لا توجد إجابة حاسمة على هذا السؤال. “مما لا شك فيه أن بعض الأفغان في المناطق الريفية يقدمون دعما قويا للحركة. لكن معظم الأفغان قد أعيتهم الحروب، وأصابهم الإحباط من وحشية طرفي المعركة، حتى أصبحوا لا يرون الحكومة الحالية أو طالبان خيارا جيدا، وقد علمتهم سنون الحرب وعقود الفوضى أن خياراتهم لا تهم كثيرا”.

فشل أمريكي

في الجزء الختامي من التقرير، تلقي جاكسون بتبعة ما آلت إليه الأوضاع في أفغانستان على عاتق إدارة الرئيس دونالد ترامب. ففي أغسطس 2017 أعلن ترمب تطبيق استراتيجية جديدة في أفغانستان، وتعهد بأن “نحارب وننتصر”.

لكن الاستراتيجية اعتمدت بقوة على سلاح الجو على حساب الدبلوماسية، ولم تناسب على الإطلاق قتال جماعة متمردة متوغلة بعمق في أوساط السكان المدنيين. وبلغت الخسائر المدنية جراء الضربات الجوية أعلى مستوياتها على الإطلاق في عام 2017، ولم يتبع هذه الغارات أي محاولات لدعم هيمنة الحكومة المدعومة أمريكيا على الأرض، وهو ما جعل الأفغان غير واثقين في نوايا الولايات المتحدة.

كما تعثرت محاولات إصلاح الحكومة، التي من شأنها معالجة أسباب الاستياء الشعبي الذي تستمد منه حركة طالبان قوة إلى قوتها، حتى أصبحت تمثل الآن جزءا هامشيا من الاستراتيجية الأمريكية. ويورد التقرير ما خلص إليه تقرير صدر مؤخرا عن المفتش العام الأمريكي لإعادة إعمار أفغانستان أن “الاستقرار قد فشل إلى حد كبير”، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية “بالغت في تقدير قدرتها على بناء وإصلاح المؤسسات الحكومية”. وتبقى حكومة الوحدة الوطنية مجرد تحالف هش يعوقه الفساد والاقتتال الداخلي.

وتتابع جاكسون أنه في يوليو 2017 أفادت تقارير أن إدارة ترمب تخلت عن آمالها في تحويل مسار الحرب، وأن الولايات المتحدة تحث القوات الأفغانية حاليا على مزيد من الانسحاب من المناطق الريفية، وتركيز مواردها المحدودة على حماية المراكز الحضرية.

إضافة إلى ذلك، تعثرت أيضا مهمة بناء وتشكيل قوات أمن أفغانية. فقد أفاد مكتب المفتش العام أن حجم القوة تقلص بنحو 5% خلال العام الماضي. وتؤكد دلالات عدة أن واشنطن منفتحة على محادثات سياسية ثنائية مباشرة مع طالبان، وهو أحد المطالب القديمة الراسخة للجماعة المتمردة. ويزعم مسئولون طالبانيون أنهم التقوا أليس ويلز، الدبلوماسية الأهم في البيت الأبيض لشئون جنوب ووسط آسيا، في نهاية يوليو الماضي، وهو ما لم تؤكده وزارة الخارجية الأمريكية أو تنفه.

وتخلص جاكسون إلى أن المحادثات المباشرة ربما تمثل الطريقة الوحيدة لإنهاء الحرب الأطول للولايات المتحدة، “ولكنها ستكون ممتدة وواهية”. إن إجراءات بناء الثقة، مثل اتفاق وقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أيام بمناسبة عيد الفطر في يونيو الماضي، مهمة، ولكن لا بد من القيام بالكثير، بدءا من إنشاء آلية لعقد محادثات رسمية ووصولا إلى إطلاق مبادرات سلام محلية تشكل أساسا لتسوية سلمية مستدامة. رغم ذلك، تبقى أسئلة كثيرة صعبة بشأن مستقبل أفغانستان، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالحكم الديمقراطي وحقوق الإنسان.

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock