… وعندما اختتم أحمد فؤاد نجم ملحمته الشعبية في حب «بهية» وفي التحريض على الثورة التي تفجرت بالمصادفة مرة أولى منتقصة الهوية، ثم تفجرت بالقصد مرة ثانية لتصحح المسار إلى أهدافها، انطوى على ذاته ودخل عالم الصمت، بينما أشعاره على كل شفة ولسان في مختلف أرجاء الوطن العربي وجاليات المنفيين من أوطانهم إلى المغتربات البعيدة.
رحل «الصعلوك» الذي أذلّ الأباطرة وفضح المتجبّرين بقصائده التي استلّ كلماتها من وجع الفقراء ومن حبه العظيم لأرضه ومن إيمانه بإنسانها «الواد عبد الودود»، ومن إيمانه بقدرة شعبها الطيب في تعبّده، المقاتل حتى الاستشهاد من أجل تحرير أرضه، الباحث عن قيادة تحفظ له حقه في وطنه، مفتقد الفرح وهو أظرف شعوب الأرض، والذي يسكره صوت أم كلثوم، وترسم له الطريق إلى غده أناشيد سيد درويش ويقرأ سيرته في ثلاثية نجيب محفوظ وفي مسرحيات توفيق الحكيم، وفي قصص يوسف إدريس وفي روايات إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وجمال الغيطاني ويوسف القعيد، ويرى نفسه في تماثيل مختار وآدم حنين، ويسخر من قعوده عن ثورة التغيير في رسوم صلاح جاهين وأحمد حجازي وعبد السميع وبهجت عثمان وجورج البهجوري وغيرهم كثير.
رحل «صناجة مصر» الذي تربى في أحضان الفقر والعوز، مضطهداً مقهوراً، وتنقل بين مهن وضيعة لا يذهب إليها إلا من يبحث عن رغيف، ولم يكن بحاجة لأن يتعلم. كان يريد فقط أن يفك الحرف ليعبّر عن أحاسيسه المتفجرة كمواطن محروم في وطنه.. أن يؤكد عشقه للأرض والشمس والنيل والفلاح الفصيح.
ولقد استمدّ أحمد فؤاد نجم كلماته من وجدان مصر، ثم قادته المصادفات إلى من سيصبح ناقل الصوت بإحساسه الرقيق الذي عوّضه نور عينيه، وبتلك الألحان البسيطة التي تأخذك إلى الفرح أو تفجر غضب القهر فيك وتحرّضك على الثورة، وكان اسم الشادي أو الحادي الشيخ إمام الذي انتقل من تلاوة الآيات البيّنات على قبور الراحلين إلى تبشير أبناء الحياة بقدرتهم على ابتداع الغد الأفضل.
الديوان الأول مهرباً..
بعد حفلة سماع أولى بعد شهور من هزيمة 1967، جاء غالي شكري إليّ في الفندق «متسللاً» وفي يده مظروف سميك. قال هامساً:
ـ هل تؤدي لمصر هذه الخدمة؟
ابتسمت متعجباً، فأكمل قائلاً بصوت مرتعش: لا أريد أن أعرّضك لخطر محتمل، ولكنني لا أجد من هو أجدر منك بهذه المهمة..
قلت متضجراً: أوضح، وأنا حاضر..
قال وهو يتلفّت حوله: أريدك أن تحمل هذه الأوراق إلى صديق في بيروت. إنها مجموعة قصائد لشاعر شعبي اسمه أحمد فؤاد نجم، تحمل عنوان «يعيش أهل بلدي». ولقد اتفقت مع هذا الصديق على أن يتولى طباعة هذا الديوان الممنوعة طباعته في القاهرة، لأن السلطة ترى فيه تحريضاً وتخريباً وحطاً من معنويات الشعب والجيش، ونحن كما تعرف في حالة حرب.
تناولت الديوان، وهمسات غالي شكري تطاردني: خبّئه جيداً بين ثيابك، ولعلك تخفيه تحت كوم من الصحف والكتب أولها القرآن الكريم!
عدت إلى بيروت وسلّمت الأمانة إلى الصديق محسن إبراهيم في مجلة «الحرية» التي تبدّلت هويتها بعد الهزيمة فانتقلت من لسان حركة القوميين العرب إلى اللسان المهجّن لمنظمة العمل الشيوعي لتنتهي إلى ناطقة باسم قائد الكلام الثوري العظيم نايف حواتمة والجبهة الديموقراطية.
طُبع الديوان الأول لأحمد فؤاد نجم في بيروت، وتولى غيري مهمة تهريب نسخه إلى «الثوار» في القاهرة… وكان «الفاجومي» قد أنتج خلال هذه الفترة دواوين أخرى، وسجن مرات عدة، وكان الشيخ إمام قد لحّن من الأغنيات ما يملأ السجون والجامعات والمقاهي و«استراحات» الفلاحين في الأرياف ما بين الإسكندرية والصعيد الجواني.
الدليل إلى قاهرة الناس
اللقاء الثاني مع «نجم» و«إمام» كان في ذلك «الكوخ» الذي يمكن اعتباره «الروف» في عمارة متهالكة في حوش آدم المتفرع من شارع آدم في الغورية… ولقد ذهبنا إليه مع الزملاء الراحلين مصطفى الحسيني ومصطفى نبيل وبهجت عثمان.
كان الكوخ مزدحماً بالطلبة الذين «رجعوا للجد تاني يا عم حمزة»… وتعرفنا هناك إلى بعض قياديي الانتفاضة الطلابية التي تفجرت في وجه السادات. لقد استغرب «الثوار» أننا جئنا نحمل بعض الزاد ومقتضيات «الجلسة»، و«تفرجوا» علينا متشككين، وكأننا «خواجات» نتكلم لغة هجينة، لأن اللهجة المصرية هي وحدها «العربي»: ما تتكلم عربي يا أخينا!
في ثاني يوم للتعارف جاءني أحمد فؤاد نجم إلى فندق شيراتون ـ القاهرة، وهو الفندق المجدد بعد شيراتون الأول الذي دمره حريق القاهرة في الغضبة الشعبية العظيمة في العام 1951.. وقد ألحقت خيبة الإخوان في البقاء في السلطة قبل شهور أضراراً جسيمة بهذا الفندق المجدّد.
قال نجم بلا مقدمات: يا أولاد الإيه… انتو تسكنوا متريشين في الفنادق الفخمة، ونحن بلا أكل!
تناول سماعة الهاتف وطلب إفطاراً من «بتوع الذوات»، ودخل فاستحم واحتفظ بالمنشفة كتذكار، ثم قال لي: قم أعرّفك إلى القاهرة التي لا يعرفها أهلها.
بدأنا الجولة من محيط الفندق: سميراميس (القديم) الذي كان الشاعر والصحافي الكبير كامل الشناوي قد صادر صالونه ليجعله منتدى ثقافياً يتلاقى فيه الشعراء والأدباء ومن يتبعهم من أهل الحديث والغاوين من أهل الصحافة بشرط أن يكونوا خفيفي الدم، يسمعون ولا يتدخلون في محاورات أمسيات النميمة. في حين كان مقهاه الخلفي «نايت اند داي» عنوانا للاجئين السياسيين العرب من مختلف ديارهم: عبد الوهاب البياتي، والثنائي العراقي ـ السوري محمد حبوبي وحسين الحلاق، وبن طوبال التونسي وبعض يمنيي الثورة الأولى من جماعة السلال ثم بعض آل النعمان وبعض السودانيين شيوعيين وإسلاميين..
كل الشعوب تحبّ أوطانها، وكل الشعراء كتبوا أوطانهم قصائد، والبعض أنشد وطنه ملحمة. لكن مصر بكلمات شعرائها ليست مجرد أرض بحدود وعلم وفضاء ومعالم سياحة. هي الأم والحبيبة. هي الحاضنة والراعية. هي منبع الجمال وغاية الإبداع الإنساني. هي بإنسانها، فلاحاً وعاملاً، موظفاً وطالباً، ربة بيت وصبية يغازلها القمر ويكتب لها ابن الجيران مواويل حب عابقة بالشجن.
مشينا منطقة التحرير وعبرنا جسر أبي العلاء إلى الزمالك ثم تجولنا في العجوزة والمعادي. قال نجم بلهجة الدليل السياحي:
ـ دي أحياء الناس التانيين.. كانت للخواجات وهي الآن لوجاهات الثورة..
وعدنا في اتجاه الجيزة لنحيي تمثال مختار «نهضة مصر»، وأكملنا إلى النيل فالروضة، وانعطفنا نحو «العيون» ومن فوقها قلعة محمد علي وحكاية المملوك الشارد الذي اندفع بحصانه من فوقها فنجا من المذبحة… فإلى مصر القديمة بكنائسها، وبينها تلك التي تقول الأسطورة أن مريم العذراء قد هربت بعيسى المسيح إليها خوفاً من أن يقتله اليهود. ونزلنا في اتجاه الغورية عابرين العديد من الأحياء الشعبية في جوار الحسين التي خلدها نجيب محفوظ في ثلاثيته..
قال نجم: غداً، الخميس سنقصده في مقهى قصر النيل حيث يلتقي الأصدقاء وطلاب الآداب قبل أن ينصرف إلى السهرة مع حرافيشه.
عند باب الفندق قال لي نجم بلهجة جادة: تفقد محفظتك.. فلقد كان بين المهن التي اتخذتها وسيلة للعيش النشل، وكانت يدي خفيفة! ربما نشلتك بقوة العادة!
تعددت اللقاءات في بيوت الأصدقاء، وأحياناً في عوامة مستأجرة.. ولقد اقتربت في الاستراحة بين وصلتين من الشيخ إمام لأطمئن عليه، فقال متحببا: فين يا راجل ما حدش بيشوفك؟ قلت بالتعبير المصري المألوف: ما تشوفش وحش… وسمعت قهقهة «نجم» وهو يضيف: حصل! وذات ليلة دخل علينا مهدي الحسيني بيت شقيقه مصطفى في المعادي ومعه الشيخ إمام وقد جاء به مباشرة من السجن، وهو تائه في منامته..
كان الشيخ إمام بحاجة لأن يغني، ولم يكن في البيت عود فاكتفى بصينية أخذ ينقر عليها «وقفات» اللحن، وهو يشتمنا جميعاً.
هذا الثنائي المميز «ظاهرة»: شاعر شبه أمي ثقف نفسه قليلاً واستدر وجدانه فإذا قصائده تحمل الناس إلى أحلامهم، فيحفظونها بألحان الشيخ الضرير الذي حفظ القرآن الكريم، فجوّده في المآتم، ويرددونها بعده كما أسماء الله الحسنى، وقد كسروا هيبة الشرطة والمباحث.
ولقد تلاقينا كثيراً وفي أمكنة عدة، داخل مصر وخارجها، وفي كل مرة كان أحمد فؤاد نجم يبهرني بهذا الدفق الشعري الذي يضج بحب الأرض وإنسانها، والذي يؤذّن للثورة ويحدو للثوار مؤكداً لهم أن «بهية» جاية فوق الصعب ماشيه… ولقد جاءت «بهية» فعلاً، و«اللي ع الدفه مراكبي».
الوجدان يغني بالعامية أيضاً..
سنمضي زماناً طويلاً مع أحمد فؤاد نجم الذي افتقد صديقه الذي وضع قصائده على ألسنة الخلق جميعاً في طول الوطن العربي وعرضه، الشيخ إمام بألحانه التي صاغتها سليقته وذائقته الموسيقية متعددة المقامات.
ولسوف نعيش مع أشعار فؤاد نجم باعتبارها جرعات من التحريض بالوعي والإيمان بقدرة الإنسان على التغيير وعلى اصطناع غده الأفضل بالثورة…
وبقدر ما كانت التظاهرة غير المسبوقة التي خرج فيها ثلاثون مليوناً من المصريين والمصريات، بشارة الإصرار على التغيير نحو الغد وليس نحو «أمس الإخوان»، كان من الطبيعي أن تكون قصائد فؤاد نجم هي الحادي وهي بشارة الخروج من دهر القهر إلى أفق الغد الأفضل.
لقد سكن «نجم» الوجدان الشعبي فصيّره شاعراً يخترق حواجز اللهجات لتغنيه الشعوب العربية الموحدة بالقهر ما بين المشرق والمغرب.
ولقد تمكن، منا جميعاً، صبي الميكانيكي ـ النشال ـ الخادم في مقهى ـ المشرّد بغير سكن، الذي علّم نفسه وتعلّم من آلام أهله كما من طموحاتهم، وغرف من التراث الشعبي الغني حتى صارت أشعاره المعبّر الشجي عن روح الأمة المقهورة بطغاتها أكثر مما بمستعمريها وبالنهابين من أصحاب النفوذ أكثر مما بمستعبديها بفقرها.
الشعر ليس بالأوزان والقافية، وليس بترف المغامرات والأشواق إلى الحبيبة، غائبة أو غافية أو هاجرة.
والشعر ليس بالتأتأة التي تفضح الجهل باللغة وتأخذ إلى الهجانة أو إلى التقليد الأعمى لمن سبق إلى التقدم فصارت معاناته «ترفاً»، مغترباً عن مجتمعه الذي تمنعه أميته من فهم «الديوان» الذي متنه جمل مقطّعة تفصل بينها نقاط وعلامات تعجّب أو علامات استفهام تغني عن النص.
أحمد فؤاد نجم ليس شاعراً خطابياً، وهو قد استخدم الكاريكاتور والصورة البسيطة وكلمات اللهجات المحكية، صعيدية وبحراوية وقاهرية، فكانت أفصح في التعبير عن الحب كما عن الغضب، في الدعوة إلى الثورة عبر أنسنة الوطن لا تجريده، وعبر التوجه إلى الإنسان بوجدانه، بطموحاته، بحقه في التغيير، فصار شاعر الشعب، بل شاعر الأمة..
حيلة على الرقابة بشعره..
ولقد أفادني شعر أحمد فؤاد نجم، مرة، في «مخادعة» الرقابة على الصحف خلال إحدى جولات الحرب الأهلية… كنا في ذروة الحملة على أنور السادات حين تحدى إرادة الأمة وذهب إلى العدو الإسرائيلي في القدس المحتلة، ووقف أمام الكنيست خطيباً يحاول تغطية استسلامه بالتبشير بالسلام! وذات يوم وقع بين يدي عدد من مجلة «باري ماتش» وفيه تحقيق مصور عن زفاف إحدى بنات السادات، وكان العريس ابن غول المقاولات عثمان أحمد عثمان، وفي الحفل حشد من المطربين والمطربات وأهل النظام المتباهين بثرواتهم… ورأيت في التحقيق ما يفيد التحايل على الرقابة، فأعدت نشر بعض الصور في «السفير» مع ترجمة أمينة لخبر الزفاف وإن جاءت الخاتمة تقول: إن مغنياً شاباً مجهولاً برز فجأة في الحفل وغنى للعروسين وللناس جميعاً «مصر يا أمه يا بهيه، يا أم طرحة وجلابية.. الزمن شاب وأنت شابة، فات عليك ليل وميه.. واحتمالك هوا هوا وابتسامتك هيّ هيّ.. تطلع الشمس تلاقيكِ معجبانية وصبية..».
مرت الحيلة على الرقابة لكن السفير المصري في بيروت، آنذاك، وقف في الثامنة صباحاً أمام وزير الخارجية يشكو تقصير الرقابة… وسأل الوزير المدير في الأمن العام، الذي لم يكن عنده اعتراض على «الزيارة» فقال وقد أخذه الغضب: لقد خدعونا فجازت علينا حيلتهم.. اطمئن، سأوقف أحمد فؤاد نجم هذا ولو كان يقيم في المريخ!
«مصر ولاّدة»… وفيها فوج من الشعراء الشعبيين المبدعين في طليعتهم عبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب وكثير غيرهم.
ولكم كنا نتمنى لو أن النخبة من شعرائنا في لبنان منحونا من قصائدهم ما نغني بها أوطاننا من داخل آمالنا وآلامنا وليس بهدف إكمال الديوان بإضافة لمسة وطنية إلى بعض أشعار المناسبات.
ونستثني، طبعاً، أولئك الذين بشّروا بالمقاومة، وغنوا الأرض وأهلها قبل أن يهاجروا إلى «الذاتية» والشعر بالنقاط!
نقلا عن موقع الكاتب على الإنترنت