عندما عٌين محمد مصطفي المراغي شيخا للأزهر عام 1928علي كُره من الملك فؤاد كانت أحوال الأزهر الأكثر اضطرابا في كل تاريخه، فإنشاء دار العلوم عام 1872 ومدرسة القضاء الشرعي عام 1908 قد قلص مجالات العمل والتوظيف لخريجي الأزهر، كما أن إنشاء الجامعة المصرية عام 1908 خصم أيضا من رصيد الأزهر وأظهر أحوال أساتذته الرثة مقارنة براتب أستاذ الجامعة الذي بلغ ضعف راتب أستاذ الأزهر.
وكان موقف الوفد الحذر من جامعة الأزهر باعتبارها داعمة للملك سببا في تأييدها لحكومات الأقلية غير الوفدية التي منحت الجامعة العديد من الامتيازات، فيما سعى الوفد دائما إلى إخضاع الجامعة لسلطة البرلمان، وكان إبان فترات حكمه يعدل الكثير مما يعتبره الطلبة والأساتذة امتيازات لهم، لذا كانت مظاهرات طلاب الأزهر تخرج هاتفة “يسقط سعد والبرلمان.. يحيا الملك”، وكانت النخب المصرية ترفض أن ترسل أبناءها للتعليم في الأزهر بما في ذلك علماؤه أنفسهم.
الملك فؤاد
في نهاية العشرينيات كانت الدعوات تُطلق من داخل الأزهر نفسه لإصلاحه وجعل مناهجه أكثر عصرية ومواكبة للتطور، بما في ذلك إدخال مواد غير دينية في الدراسة كالتاريخ والجغرافيا والفلسفة والعلوم الاجتماعية واللغات الأجنبية، مع فتح باب الاجتهاد وخروج علماء الجامعة العتيقة من عزلتهم داخلها للتواصل مع ما يجري في المجتمع، فيما وصفت أصوات مهتمة بإصلاح الأزهر مثل رشيد رضا عقول علمائه بالجمود والتبلد دفاعا عن مصالحهم الذاتية وامتيازاتهم المهنية دون تغيير في التفكير أو مناهجه.
كان محمد الأحمدي الظواهري الذي وُصف بأنه شخصية انفعالية ورجعية هو مرشح الملك فؤاد بعد وفاة شيخ الأزهر أبو الفضل الجيزاوي، بينما كان المراغي الشخصية المنافسة له والتي لا يريدها الملك، الذي اضطر أن يعين الرجل بعد عشرة أشهر كاملة من خلو منصب المشيخة. كانت مهمة المراغي صعبة، وكانت قوي التقليد ورفض الإصلاح داخل الأزهر تعارضه باسم القرآن وقرون طويلة من العرف والتقاليد. كتب المراغي مذكرة من أجل إصلاح الأزهر وتحسين المستوى المهني لمنتسبيه وتحسين طرق التعليم التي تنشئ طلاب ببغاوات تردد ما تتلقنه دون إعمال للعقل، وقوبلت مذكرة المراغي بترحاب كبير في مختلف الأوساط، وقال عبد المتعال الصعيدي إن عهد محمد عبده قد عاد للأزهر بفضل المراغي وإن مذكرته جديرة بأن تكتب علي أوراق من ذهب وأن تعلق على جدران الأزهر كما كانت المعلقات تشبك علي أستار الكعبة.
كان فرصة المراغي لإنجاز إصلاح حقيقي في الأزهر أفضل مما أُتيح لمحمد عبده لأن لديه القدرة علي اتخاذ القرارات كما أن الأجواء أكثر قبولا لدعوته، دعا المراغي إلي ابتعاث طلاب الأزهر للخارج وشهدت ولايته الثانية أول تلك البعثات في تاريخ الأزهر علي الإطلاق، لكن توقف الابتعاث فيما يُعد ابتسارا لمسيرته نحو التجديد، وفرض الرجل علي الأزهريين تعلم الطبيعة والرياضيات والجغرافيا والكيمياء والتاريخ دون امتحانات فيها، كما عمل على إصدار مجلة للأزهر ووضع كتب جديدة للطلاب مع منح مكافآت لواضعيها وترجمة بعض الكتب الأجنبية، وبدأ تدريس رسالة التوحيد لمحمد عبده في الأزهر. ووصف أحد كبار رجال الإدارة البريطانية “جرافتي سميث” إصلاحات المراغي في الأزهر بأنها “سرت بالتدريج في العظام اليابسة وجعلت من الأزهر شيئا حيا وهادفا ومثيرا بعد سيطرة الرقابة والتقليد”، مضيفا: “إنه يقتفي آثار محمد عبده والأزهر الحالي هو صرحهما”.
الإمام محمد عبده
لم يُوافق الملك على نص مشروع قانون الأزهر الذي أعده المراغي في يونيو عام 1929 وماطل حتى أكتوبر من نفس العام محتجا بأنه يريد مراجعة القانون لوقت أطول، وهو ما جعل المراغي يقدم استقالته ليعين الملك غريمه محمد الأحمدي الظواهري شيخا للأزهر بعد عشرة أيام فقط. وفي فترة تولي الظواهري جرى تنفيذ بعض الإصلاحات التي كانت جزءً من أفكار المراغي مثل مجلة “نور الإسلام”، التي تحول اسمها إلى “الأزهر” في ولاية المراغي الثانية ولا تزال تصدر حتي الآن، إلا أنه تم التراجع عن تضمين العلوم الحديثة في مناهج الأزهر، فضلا عن وقف الابتعاث للخارج وغياب أي محاولات للاجتهاد.
ثار طلاب الأزهر ضد الظواهري مطالبين بعودة المراغي، ورغم أن الملك فؤاد لم يكن مرحبا بعودة الظواهري إلا أنه اضطر لتعيينه مرة ثانية شيخا للأزهر في إبريل عام 1935، وظل في منصبه حتى وفاته عام 1945. أنشأ المراغي لجنة الفتوي بالأزهر، وأرسل علماء الأزهر إلي الهند، ومنح طلاب من أفريقيا منحا دراسية في الأزهر، واستجاب لطلبات إرسال دعاة ووعاظ من الأزهر إلى المسلمين في الخارج، وجعل الأزهر يشارك في مؤتمرات عالمية في باريس وفي لاهاي. ومع مجيء الملك فاروق إلي الحكم عام 1936، تعاظم نفوذ المراغي الذي أصبح مرشدا له، وشهدت تلك الفترة صعودا لحضور الأزهر ودوره في الحياة السياسية والاجتماعية. تواكب ذلك مع صعود تيار الوطنية المصرية من سكان المدن الذين استفادوا من التعليم الحديث وتأثروا بأفكار التضامن العربي والوحدة الإسلامية وبدوا أقل ميلا لتبني الأفكار الغربية، كما ظهر إنتاج أدبي غزير كرس جانب كبير منه لحياة الرسول والخلفاء الأوائل وتاريخ الإسلام، ما أسهم في إظهار قدرة الإسلام أن يكون أساسا لحياة معاصرة ومكونا جوهريا للوطن