في ديوانه الأول «كفجيعة تعاند النسيان»، يأخذنا عمر شهريار إلى عالم الذوات الشاعرة المحلقة في لعبة مفتوحة مع الموت، ليس بوصفه شبحًا مخيفًا ولا هو الخلاص الأبدي، وإنما بوصفه النضج الذي تحقق معه الذات التخلص من كافة آثار الآخرين، ما يعني أن الذوات تتنظر الموت بحزم لاستخدامه كمورد ضد التأثير الساحق للآخر، ووفقًا لذلك يصبح «الوجود نحو الموت» فرصة للإعلان عن الذاتية والفردية على نحو واضح وجلي.
وفي حفل توقيع الديوان الذي دعت إليه دار “بتانة” للنشر، استهل الكاتب والناقد مدحت صفوت مناقشة الديوان بالإشارة إلى أن الموت كقضية شغل البشرية منذ بدء التاريخ، لما يمثله من سؤال إشكالي محير يخص المصير الإنساني، ولا يقف عند حدود التعامل معه كموضوع فلسفي بحثا عن نقطة نهاية أو حتى نقطة وصول لمحطة ما، بل مثّل «الإمكان اللاعلائقي الأكثر خصوصية» على حد رؤية الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر، الذي يصف الموت باعتباره بمثابة تمام النضج للثمرة التي تنضج طوال فترة وجودها، ما يعني أن الوجود في جوهره وجود نحو الموت.
الكاتب مدحت صفوت
إذن تنشغل الذوات الشاعرة برفض السلطة الممنوحة للآخر عليها، وما تسببه من آثار يعينها الخطاب الشعري بـ«أتربة الماضي» الملوثة للهواء، وهي ذاتها «تلصص العابرين»، ومن ثم يصبح الموتى «مسالمين أكثر مما يظن الأحياء»، وهم الطيبون الودعاء والمتفردون الذين أدركوا ذاتيتهم وفردانيتهم، ومن ثم صاروا «ضوءا شفيفًا يرمم القلب».
ويضيف صفوت: أما بالنسبة للعنوان «كفجيعة تعاند النسيان»، فالوقوف أمامه يستلزم السؤال عن المشبه المحذوف، إذ أبقى العنوان على المشبه به «الفجيعة التي تعاند النسيان» بعد شطب المشبه ليس لقلة الأهمية، بل بقدر الأهمية التي تعمل على الإشارة بالسلب والحذف، والحضور بتأكيد الغياب، ومن خلال تتبع النصوص يمكن تأويل المحذوف بالحياة ذاتها، لتصبح الحياة/ الرحلة نحو النضج فجيعة تعاند النسيان، ما يعني أن التوجه نحو الموت بالإرادة الذاتية ليس نقيض الوقوع في براثن الحياة ومعايشتها، فالسبيل إلى النضج هو التورط في الحياة.
بدوره، يلفت الشاعر والناقد خالد حسان إلى أن خطاب قصيدة النثر في نسختها الأخيرة يضمر مجموعة من الخطابات تنطوي بدورها على كثير من المفاهيم والأنساق الثقافية، لعل أبرزها تلك الإزاحة التي حدثت في موقع الشاعر، حيث لم يصبح هو النبي أو العراف أو على الأقل الشخص الاستثنائي، بقدر ما هو ذلك الشخص العادي، أو الأقل من العادي، يشعر بما يشعر به الإنسان البسيط من تعب وألم ووحدة وقهر.
الشاعر خالد حسان
أصبح الشاعر واحدا من الناس ليس مميزا ولا فارقا في شيء، وعليه جاءت قصيدته قريبة وسهلة في لغتها ومعانيها وتناولاتها اليومية. لقد تحدث كثيرون عن ذلك الفارق بين الرؤيا والروية، لكن ما أراه أن الذي حدث في موقع الشاعر، هو إزاحة من نوع مختلف، حيث لم يصبح الشاعر واحدا من الناس بالمعنى الحقيقي، بل ظل متفردا في رؤيته متهكما على كثير من القيم والمباديء والأعراف المجتمعية، إنه ينقد الأشياء غير الحقيقية داخلنا، ويسعى إلى إدانة الزيف بكل صوره وأشكاله، وهو ما نجده هنا في ديوان “كفجيعة تعاند النسيان” للشاعر عمر شهريار.
في قصيدة “ملاك طيب لو تعلمون” يصبح الشاعر هنا كما لو كان قادما لتغيير بعض مفاهيمنا وقيمنا الثقافية عن ملاك الموت، الذي نخاف منه جميعنا، ونتصوره في هيئة أقرب ما تكون إلى القسوة وانعدام الرحمة، فهو في تصوراتنا الشعبية أشبه بـ”عشماوي” أو “مسرور السياف”، لكن الشاعر هنا يبرئ ملاك الموت من هذه التهم الباطلة التي التصقت به ويتحدث عنه كما لو كان ملاك رحمة، فهو المنقذ والمخلص للمقهورين واليائسين من الحياة والمظلومين، يقول الشاعر:
حكى لي عن مقهورين
قفز بهم من فوق بنايات شاهقة
ليشعروا ولو مرة واحدة بالانطلاق
أخرج من حقيبته صور فتيات
هزمهن الأرق
فأشفق عليهن
وتحول إلى أقراص منومة
تخدر حزنهن
يسعى الشاعر أيضا لتغيير أفكارنا عن الموتى، هؤلاء الذين يتكلمون في قصيدة بعنوان “أناشيد لمؤانسة الموتى” يظهر خلالها كم أنهم طيبون ووديعون ويشعرون بنا، هم مسالمون ولا يؤذون أحدا ويحزنهم خوفنا من صمتهم، الموتى هنا يصبحون هم الأحياء، فكأن الشاعر يقول لنا انظروا كيف يشعر الأموات، أو بمعنى آخر اخجلوا من أنفسكم فأنتم الأموات الحقيقيون، يقول الشاعر على لسان الأموات:
لا تخشوا صمتنا
ولا تتركوا قلوبكم ترتجف
فلن نخطفكم من عيالكم
ولن نفسد عليكم أحلامكم
ولا سهراتكم الحميمة
سنترك كلا منكم في حاله
علكم تذكروننا بالخير
كلما رأيتم وردة تذبل
وفي مقطع آخر من القصيدة يتناول الشاعر موته شخصيا من وجهة نظر أخرى خاصة جدا، فهو يرى فيه فوائد كثيرة منها مثلا أنه من الممكن أن يزور حبيبته كل ليلة بأريحية ويحققان معا أحلامهما التي فشلا في تحقيقها في الواقع، كما أن موته سيكون أيضا فرصة لجعل ابنته تحب أمها بدلا من أن تعاملها كامرأة استولت على حبيبها، وهكذا يتمادى الشاعر في ذكر فوائد الموت فيذكر سبع فوائد إلى أن يقول في اخر القصيدة:
سأتخفف كثيرا من هذا الجسد
وأحلق حولكم بأريحية
يبدو الشاعر أيضا كناقد اجتماعي محرضا على الحرية، حرية الجسد وفك أسره من التعاليم الدينية، منتصرا للرغبات المكبوتة والمشاعر الموءودة باسم الدين، ها هو يقول:
التحليق شرطه الخفة
ونحن مثقلان
وأجنحتنا تركناها في الجوامع
راقدة في اتجاه القبلة
ويختم حسان: لا تخلو صور الشاعر التي رسمها الديوان من تلك الصورة الأثيرة لقصيدة النثر في نسختها الراهنة، وأعني صورة الشخص الذي يعاني الوحدة، أو على حد قول سعدي يوسف: “أسير مع الجميع وخطوتي وحدي”، فالوحدة هنا ليست تلك الوحدة بمعناها الدارج في افتقاد الشخص لآخرين يؤنسون وحدته، بقدر ما تعني اغترابه عن ذاته. يبدو ذلك جليا عندما يناجي الشاعر نفسه في إحدى القصائد: “تروض ذاتك على الوحدة / ومصاحبة ظلك المخلص”، ويقول أيضا: “قلبك الرخو”، ويعبر عن ذروة تلك الوحدة بتلك القبلة التي يطبعها على صورته في المرآة ويقول لها: “عام سعيد يا حبيبتي” فذاته هي حبيبته الحقيقية أو لعلها الآخر الوحيد المتاح أمامه بعد أن تركه الجميع.
الديوان صدر حديثًا عن دار بتانة للنشر، ويضم مجموعة من قصائد النثر التي أنجزها عمر في الفترة الأخيرة، وحصل الديوان على إشادة خاصة من لجنة تحكيم مسابقة عفيفي مطر الشعرية، لعام 2018.