رحلة في الأفواه قضتها لغتنا العربية عبر ألالاف السنين فلم ينل منها الزمان، وهي درع تكسرت على واجهته حراب غزاة عتاة دون أن تتصدع، هي فكر ناطق، وهوية واعية، وهي للذات ذاكرة حاضرة، من حروفها نسجت شخصية أمة، ومن كلماتها تشكلت جسور أوصلت ماضي العالم القديم بحاضره وتاريخه بمستقبله، هي “أم اللغات” بحروفها وكلماتها، تفضلت على لغات العالم ومانعت التفضل لسواها من اللغات على ناطقيها.
اللغة العربية من الأمة أساس وحدتها، ومرآة حضارتها، ولغة قرآنها الذي تبوأ الذروة فكان مظهر إعجاز لغتها القومية، وهي لغة كاملة محببة عجيبة، ألفاظها تكاد تصور مشاهد الطبيعة، وكلماتها كخطرات النفوس، ومعانيها تتجلى في أجراس الألفاظ، كأنما هي خطى الضمير ونبض القلوب ونبرة الحياة.
والعربية على ثرائها تتسم بطبيعة مرنة وإيقاعات سلسة، إذا قرأت قصيدة لشوقي أو الأخطل الصغير استدعت الذاكرة في التو مخزونها الغني من المعلقات والمطولات والمحبرات، وما تلاهن من قصائد العصرين الأموي والعباسي، ومن هنا فهي بنت الهوية، وهي “وجه ولسان ويد”، كما وصفها شاعر العرب الأشهر أبو الطيب المتنبي.
اللغة العربية هوية الأمة ولسان حالها، فإذا أصاب اللغة عارض سرعان ما انتفض له جسد الأمة. سعى أعداء العروبة قديماً وحديثاً للنيل من صلابة لغة العرب بالمراهنة على المتكلمين بها من أصحاب النفوس الضعيفة، ربما أمكنهم غير مرة أن ينالوا من شكيمتها إلى حين، لكنها سرعان ما تنتفض وتستعيد ما كانت عليه من حيوية وقوة، وكأنما تجدد شبابها بما يجد عليها من محن ويتجلى جوهرها الأصيل في تحديها لكل ما يصادفها من ضربات موجعة لم تفلح في النيل من مناعتها.
وحدها دون لغات العالم تقف على حاملين كأنهما أقدام بشرية يكفلان لها عناصر القوة والبقاء، أحدهما ديني والآخر قومي، وهما مترابطان متلازمان متفاعلان، فالإسلام حاملها الديني وكلماتها وأحرفها حملت إلى البشرية خطاب السماء في أتم تجلياته، والعروبة حاملها الثاني، فلا عروبة دون عربية، ولا عربية دون قوم ينطقون بها، في اتحاد لا ينفصم للذات بالموضوع والناطق بالمنطوق.
وكما يذهب الدكتور فرحان السليم في “كتابه اللغة العربية ومكانتها بين اللغات”، فإن تفكير العرب وحياتهم يظهران واضحين جليين في مفردات لغتهم، فكلمة العامل مثلاً أخذت بعد الإسلام معنى الوالي والحاكم، ما يدل على أن الولاية عمل من الأعمال وليست استبداداً، وأن الحكم تكليف وليس تشريفاً. ولفظ ( المرأ ) للمذكر و(المرأة) للمؤنث يدل على تساوي الرجل والمرأة في الأصل، و(المروءة) هي الصفة المستحسنة المأخوذة من أخلاق الإنسان، ذكراً كان أو أنثى.
لا يزال الغرب يردد أكاذيبه عن جمود العربية وقلة حيويتها وهي التي التقت كثير من لغات العالم القديم فأفنتها وحلت محلها، كما حدث في العراق والشام ومصر، بل إنها غزت اللغات الأخرى كالفارسية والتركية والأوردية والسواحلية فأدخلت إليها حروف الكتابة وكثيراً من الألفاظ، وامتد هذا التأثير إلى لغات أخرى عن طريق الأصوات والحروف والمفردات والمعاني والتراكيب، فأصبحت لغات الترك والفرس والملايو والأوردو تكتب جميعها بالحروف العربية.
في زمن العولمة، ووسائل التواصل التكنولوجية المتعددة تواجه العربية هجمة شرسة وغيظ مكتوم، فأقصى ما يناله الآخر منها هي كلمة أو مفهوم، سرعان ما تتمكن من استيعابه وتعريبه، فتصير منا ولا نصبح منها، قد يسقط في الفخاخ قليلو الثقافة وضعاف النفوس، كما قد نرى في لافتات محلات تسوق لأسماء سلع وماركات أجنبية، أو ألفاظ تسقط سهوا أو افتعالا من أفواه المتباهين بمعرفتهم للغات أجنبية، لكنها ليست أكثر أثرا من حجر ألقي في جوف بحر صاخب الموج جاري الماء.
وإذا كنا اليوم نحتفي باليوم العالمي للغة العربية فمن الضروري أن ننتبه لما يحاك لها من محاولات للنيل منها وقطع روابطها بالهوية من خلال استبدال بحور مفرداتها المتسعة بلغة وثقافة الآخر المستعمر الطامع. علينا أن ننتبه لخطورة محافل تعليمية تحمل لافتات مدارس دولية فاخرة المباني مبتورة الصلة بلغة الأرض التي أقيمت عليها، تسعى لنزع العربية من ثقافة أجيال من أبنائها عبر تدريس العلوم في غير اللغة العربية، وعلينا أن نأخذ بالجدية الواجبة تفعيل القانون في حظر استعمال المفردات الأجنبية على لافتات المحلات والمراكز التجارية، وأن يواكب ذلك يقظة فقهاء اللغة في تعريب ما يستجد من مفردات وافدة في كلمات واضحة المعاني محصورة الدلالة، فتهديد اللغة تهديد للعروبة هوية وتاريخا وثقافة.