كتب: باولو ماجيوليني
ترجمة: احمد بركات
يتعين على الباحثين والمعنيين اليوم إعادة دراسة الإسلام السياسي في الأردن من منظور مزدوج يأخذ في اعتباره كلا من المقاربة التقليدية للنظام الملكي الهاشمي للعلاقة بين الدين والدولة منذ استقلال المملكة في عام 1946 من جانب، والوضع الجيو سياسي المعقد في الأردن الذي فرض على كل من التاج والإسلاميين الأردنيين صراعا متكررا بين الضرورات التي تمليها التحولات المحلية والإقليمية من جانب آخر.
فعلى عكس الحال في أغلب بلدان الشرق الأوسط، لم يتأسس النظام السياسي في الأردن على قاعدة التنافس مع القوى الدينية، وإنما على أساس استيعاب هذه القوى، واحتوائها داخل منظومة الدولة. في هذا الإطار، خلقت الآلية الهاشمية للسيطرة والتحكم نوعا من النظام التعددي المنغلق بهدف احتواء كافة القوى المتنافسة. ولم تكن هذه الآلية تقوم على الهيمنة والاختراق بقدر ما تقوم على المأسسة والاستيعاب. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، تطور إعادة التعريف السياسي للهوية الإسلامية (الإسلام السياسي) من خلال المزج بين ثلاثة كيانات مختلفة، هي الدولة الهاشمية، وجماعة الإخوان المسلمين، والسلفيين، وهو ما جعل خارطة الإسلام السياسي في الأردن تشهد حالة من الفسيفسائية والتعددية الفريدة. في هذا الإطار يمكن فهم الإسلام السياسي في الأردن على أنه شبكة معقدة من العلاقات، يقوم فيها النظام مقام الحكم والممثل الرئيس والنقطة المرجعية المحورية التي تتطور حولها علاقة جدلية داخلية وبينية تمر عبر التيارات الرئيسة التي تدور في هذا الفلك.
لذا، فإنه ليس بمستغرب أن ثورات الربيع العربي والحرب الأهلية في سوريا قد دشنتا مرحلة جديدة لإعادة تشكيل ماهية الإسلام السياسي في الأردن، وإضفاء تحولات مهمة تتعلق بطبيعة علاقته بالتاج الهاشمي. فقد وجد الإسلام السياسي في الأردن، بمختلف توجهاته، نفسه في هذه الفترة المائجة والمليئة بالتحولات أمام اختبار وجودي لا عهد له به؛ حيث شهدت هذه التيارات انقسامات داخلية حادة بشأن طبيعة المواقف والمقاربات التي يتعين اتخاذها حيال السياسات الأردنية الداخلية، وحيال الأحداث التاريخية والأزمات المعقدة التي تتبلور في المنطقة. كما وجد النظام الهاشمي نفسه أمام توازنات قوى داخلية جديدة بعد أن تشكل تيار إسلامي جهادي سريع الانتشار وخارج عن سيطرته.
سياسة ’فرق تسد‘
منذ تأسيسها في أربعينيات القرن الماضي، أقامت جماعة الإخوان المسلمين نوعا من العلاقة التكافلية مع الدولة الهاشمية. وقد بلغ هذا التعايش ذروته في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي عندما عمد النظام إلى تعليق الحياة البرلمانية، وحظر الأحزاب السياسية باستثناء جماعة الإخوان المسلمين التي ترك لها المجال مفتوحا على مصراعيه للعمل والانتشار. ومع فرض الأحكام العرفية تمتع النظام بمزيد من الحرية لتعيين من يراهم مناسبين داخل الهياكل الساسية والاقتصادية للبلاد، وهو ما منحه فرصة أكبر لدمج كوادر وقيادات جماعة الإخوان المسلمين بصورة في المنظومة الإدارية. في هذه الفترة غدت جماعة الإخوان المسلمين حركة شعبية ومنظمة خيرية تنشط في مجالي التعليم والاتحادات المهنية.
ظلت الأمور على هذا النحو حتى منتصف ثمانينات القرن الماضي، عندما تمكن جيل جديد من النشطاء (خاصة ممن ينحدرون من أصول فلسطينية) من اعتلاء مناصب قيادية داخل الجماعة، فعكفوا على إعادة توجيهها صوب مقاربة أكثر تشددا. في هذه الأثناء تشكلت في الأفق ملامح انقسام واضح بين معسكري الحمائم والصقور داخل الصف الإخواني.
تحديات جسيمة
في عام 1989 شهدت مسيرة جماعة الإخوان المسلمين في الأردن نقطة تحول محورية. فبينما أيدت الجماعة قرار النظام بإجراء انتخابات برلمانية جديدة، وضع هذا القرار الجماعة أمام عدد من التحديات الجسيمة. فمن ناحية، تطلبت المشاركة الانتخابية من الجماعة ترشيد رسالتها، وربما تقديم بعض التنازلات لتوفق أوضاعها مع القواعد الانتخابية الجديدة. ومن ناحية أخرى، أصبحت آلية النظام للسيطرة على التيارات السياسية الأخرى عبر مأسستها ودمجها في منظومة الدولة أكثر وجاهة وإقناعا، خاصة بعد فوز جماعة الإخوان المسلمين في انتخابات عام 1989، وقيامها لأول مرة بتشكيل حكومة استمرت حتى عام 1991. إلا أن النظام لم يتحمل هذه الأوضاع طويلا، فعمد في عامي 1992 و1993 إلى تغيير قانون الانتخابات عن طريق إدخال نظام التصويت الفردي غير القابل للتحويل بهدف خفض التمثيل البرلماني لجماعة الإخوان المسلمين، وليفرض عليها مبدأ التمييز الإداري عن طريق تشريع قانون جديد للأحزاب السياسية. وبينما ظلت المعارضة لهذا النظام الانتخابي الجديد نقطة خلاف رئيسة بين الإخوان والنظام حتى وقت قريب، إلا أن تأسيس حزب ’جبهة العمل الإسلامي‘ عبر القنوات الشرعية وبصورة رسمية أظهر استعداد الجماعة للتوافق مع الأوضاع السياسية الجديدة في المملكة.
كانت جماعة الإخوان المسلمين قد قامت بتأسيس حزب جبهة العمل الإسلامي من أجل توحيد الصف الإسلاموي في الأردن وقيادته في المعترك الانتخابي وتوجيهه داخل البرلمان. وفي حال نجاحها في تحقيق أغلبية برلمانية، تستطيع الجماعة التركيز على العمل الدعوي والنشاط الخيري دون الحاجة إلى التوافق مع قواعد السياسة، أو تقديم تنازلات. وفي عام 1994، أعلن عبد المجيد ذنيبات، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين آنذاك – صراحة أن الجماعة سوف تعمل في الأردن وفقا لقواعد البرجماتية والقانون والمشاركة.
انتكاسة حرب المساجد
ورغم ذلك، واجهت هذه العلاقة الممنهجة بين الجماعة والنظام أولى انتكاساتها إبان الانتخابات البرلمانية في عام 1997 التي أقيمت على خلفية الفترة الإصلاحية، التي امتدت بين عامي 1992 و1997، وشهدت توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل (1994)، وانتفاضة الخبز (1996)، وما أطلق عليه ’حرب المساجد‘، وسن قانون جديد يبسط سيطرة الدولة على الخطب المنبرية، وهو ما جعل العلاقة بين الجماعة والنظام تنزلق نحو الأسوأ، وتعمقت الفجوة بين معسكري الصقور والحمائم داخل البيت الإخواني، واشتد عود الصقور الذين نجحوا في النهاية في فرض كلمتهم واقتياد الجماعة إلى اتخاذ موقف سياسي يقضي بمقاطعة الانتخابات. ترك هذا الموقف ندوبا عميقة في الجسد الإخواني، واتجه كثير من الحرس القديم إلى الانشقاق عن الجماعة، والمشاركة في الانتخايات كمستقلين.
وبرغم أن مقاطعة عام 1997 لم تغلق الباب نهائيا أمام التعاون بين النظام والجماعة، إلا أن العلاقة بينهما غدت أكثر توترا. في الوقت نفسه، أصبح الخلاف الداخلي في الصف الإخواني أكثر تعقيدا بسبب الانقسامات بين معسكر الاعتدال من جانب واليمين المؤيد لحركة حماس من جانب آخر. ولم يزد إقدام السلطات الأردنية على إغلاق مكتب حركة حماس في الأردن في عام 1999 الطين إلا بلة.