بعيدا عن الأطر الفقهية الشائعة التي اعتمدت آلية النقل في مواقفها من المرأة والتي نتج عنها العديد من التضارب والتوتر بين مفهومي المساواة والقهر، نحاول في هذه السطور الاقتراب من آليات معرفية “إسلامية” أخرى والتعرف على صورة المرأة فيها، فهناك الآلية العرفانية المتصوفة ويمثلها الإمام محي الدين بن عربي وهناك آلية العقل والتي يمثلها في هذه المقالة فيلسوف قرطبة “ابن رشد”.
فعند ابن رشد كما عند ابن عربي لا مجال للتمييز التفاضلي بين المرأة والرجل بما أنهما يشتركان في النوع والطبع والعقل والغاية الإنسانية، وبناء على هذه الحقيقة التي لا ينكرها منطق العقل السوي، مهما كان فطريا بسيطا، وحينما نستبعد منطق القوة وما يتولد عنه من أشكال الظلم للأفراد والفئات الأضعف في أي مجتمع فإن ابن رشد يقرر أن النساء يمكن، بل ويفترض من حيث المبدأ، أن تشتركن مع الرجال في “كل” الأعمال وفي “كافة” المجالات وفق معيار الكفاءة الفردية وليس وفق معيار النوع المؤنث أو المذكر بما في ذلك الإمامة الصغرى والكبرى، والولاية العامة والخاصة.
ابن عربي
هل كان ابن عربي ذكورياً؟
ثمة قراءات مختلفة لموقف ابن عربي من المرأة، فعلى سبيل المثال يرى نصر حامد أبو زيد أن تراتبية الوجود في خطاب ابن عربي مبينة على سمو الذكر ومحوريته مقارنة مع هامشية الأنثى، ففي خطاب الصوفي الأندلسي يمكن تلمس رؤية للعالم يمثل المذكر محورها بشكل لافت، وذلك رغم ما يوحي به ظاهر هذا الخطاب من احتفال بالأنثى والأنوثة، فحب المرأة عند ابن عربي محطة هامة نحو الحب الإلهي.
نصر حامد أبو زيد
ويلح ابن عربي على فكرة أن “الحب الإنساني” هو الخبرة الأولى التي لا بد أن يتأسس عليها “الحب الإلهي” وأن “حب النساء” يعد من صفات الكمال الإنساني، مرتكزا في ذلك على مرويات تنسب للنبي (ص) مثل: “حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة”.
ويذهب الباحث هشام علوي في الاتجاه نفسه معتبرا أن المرأة عند المتصوف هى معبر للتسامي، والتواصل مع جسد المرأة عبر النكاح هو اختبار للوصول إلى تجربة الفناء في الذات الإلهية، فتغدو المرأة موضوعا استعماليا، يطلبه السالك من أجل العبور إلى موضوع القيمة الحقيقي: الله. ووصله بها (النكاح) هو ذروة عشقه لها الذي يعادل رمزيا، حنينه الأبدي للتوحد بالجسد السرمدي والفناء في حضرة الألوهية.
ابن عربي منصفا للنساء
غير أن الباحث منصف عبد الحق يعارض هذا الفهم، حيث يرى أن الحب الصوفي عند ابن عربي “حاول أن يخرج بصورة المرأة من التصورات الفقهية والشعرية والجنسية التي كانت متداولة في الثقافة العربية والإسلامية قديما والتي اختزلت صورة المرأة كموضوع للنهم الجنسي، وحاولت انطلاقا من ذلك تطويق الجسد الأنثوي بالأخلاق والقيم التي تقيده أكثر مما تعطيه إمكانية الحياة”، فالأمر لدى بن عربي وغيره من المتصوفة يتعلق بإعادة النظر في علاقة الإنسان بمسألة الأنوثة كمسألة دينية – ثقافية أكثر مما هي مسألة اجتماعية، فأغلب النصوص الصوفية التي تعرض للمرأة خاضعة لمسحة دينية وليس بإمكاننا التخلص منها، غير أنها من جهة أخرى حاولت أن تخرج بصورة المرأة من الطرح الفقهي النفعي من ناحية، ومن الصورة السلبية التي نجدها لدى شعراء الغزل الذين يتغنون بالمرأة كوسيلة للمتعة وإشباع الرغبة الجنسية لا غير. ومن ثم يمكن القول إن المرأة في النصوص الصوفية أصبحت هي المظهر الأعلى للحياة بل هي مبدأ الحياة الإنسانية. إن المرأة في صورتها الوجودية تكثيف للجمال الكوني وليست مجرد جسد يخضع لمنطق الرغبة والمتعة الجنسية.
الأنوثة والذكورة: ثنائية تؤكد الوحدة الإنسانية
الأهم أن اعتراف المتصوفة بالأنوثة والذكورة كقطبية تميز الوجود، دفع ابن عربي لاعتماد مبادئ تسمح بقبول قضية ونقيضها، فتتعدد الدلالات المتعلقة بنفس الموجود وتتقابل لتثير حيرة الفكر، لكن الحيرة في هذا الطريق هي عين الصواب وهي السبيل لمعرفة العالم بشكل أعمق.
خطاب من هذا النوع لا يمكن إلا أن يُرفض من طرف الفكر المعبر عن سلطة المجتمع القائمة على القيم الذكورية، مما تطلب من ابن عربي اعتماد صيغ لغوية ودلالية بالغة التعقيد تجعل المعنى يستعصي على الظهور الواضح، ويختفي خلف الإشارة والتلميح والترحال ما بين الظاهر والباطن، مما يضفي على خطاب ابن عربي طابع الرمزية، ويصير التأويل هو الطريق الوحيد لفك بعض ألغاز هذه الرمزية في الكتابة الصوفية.
اعتبر ابن عربي الأنوثة قضيته المركزية، شغل نفسه بها طوال حياته، محاولاً التخفيف من حدّة الصدامية بين مفهومَي الأنوثة والذكورة، وذلك عبر جمعهما في مصطلح واحد، طريقه الحبّ، ألا وهو القَطبية التي تؤلف مبدأ الإنسانية التي تعدّ هي الكمال. ونستطيع القول إن ابن عربي ميّز بين ثلاثة أنواع من الحب: الحبّ الطبيعيّ والحبّ الروحيّ والحبّ الإلهيّ.
من ناحية أخرى حاول الشيخ الأكبر تصحيح بعض التفسيرات التي استقرت بين علماء الدين في زمنه في قراءتهم للقرآن والسنة والأحاديث النبوية بعدما قلبها وأرساها على أسس لا مجال للشك فبها، مثل آيات: “وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كلّ زوج بهيج” (سورة لقمان، الآية: 10)، “وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى” (سورة النجم، الآية: 45)…، وأحاديث للرسول من مثل: “إنما النساء شقائق الرجال”…، وذلك لإثبات أن مبدأ الزوجية لا يتضمن التمييز والتفاضل بين الطرفين، وقد لاقى ابن عربي من جرّاء ذلك معارضة شديدة من علماء الدين والفلسفة ،لأنه -بحسب زعمهم- خالف الشرع وأنكر العقل.
ولكن على العكس من هذا الاتهام تماما، فإننا عندما نتناول نصوص ابن عربي بفكر منفتح ومتجرّد، نرى ارتكازه الجلي على الشرع والعقل، كما نشاهد الحضور المكثّف للآيات القرآنية والأحاديث النبوية واعتماده عليها بشكل أساسي إضافة إلى الكشف العرفاني كمنطلقات لآرائه في تصحيح المقولات الدينية والمجتمعية السائدة عن المرأة، فنقرأ رفضه التمييز بين الذكر والأنثى بسبب معيار الجنس لأن هذا المعيار فيه حطّ من قيمة الإنسان، ورفضه للحجاب الذي تأسست فكرته لتمييز الحرة عن الأمة، وفي ذلك يقول: “لو كان الستر للمرأة أصلاً لما قيل لها في الإحرام لا تستري وجهك”، كما نقرأ تفسيره لموضوع الإرث لجهة حظ الذكر وحظ الأنثى: “أشار الحق ل(…) قوة المرأة وضعف الرجل بسورة الميراث، فأعطى الأكثر للأضعف كي يقوى من جهة الضعف”.
وفيما يتعلق بموضوع الإمامة والتي هي حكر على الرجل في المفهوم العام – رغم عدم اتفاق الفقهاء على حصرها بالرجل – يقول ابن عربي: ” من الناس من أجاز إمامة المرأة على الإطلاق بالرجال والنساء وبه أقول، ومنهم من منع إمامتها على الإطلاق، ومنهم من أجاز إمامتها بالنساء دون الرجال. الاعتبار في ذلك: شهد رسول الله لبعض النساء بالكمال كما شهد لبعض الرجال، وإن كانوا أكثر من النساء في الكمال وهو النبوّة، والنبوّة إمامة، فصحت إمامة المرأة والأصل إجازة إمامتها…”.
ابن رشد
ابن رشد سابقاً عصره
رغم أن ابن رشد لم يتعرض لقضايا المرأة بشكل مباشر، إلا أننا نجد فقرة موجزة في سياق اختصاره لكتاب “السياسة” لأفلاطون، تلك الفقرة تبرز مدى أصالة فكر ابن رشد وعمق آرائه وجرأة مواقفه مقارنة مع خطاب الفقهاء التقليديين الذين كرسوا الكثير من التصورات القبلية – الذكورية – المتحجرة ضد المرأة.
في كتابه “العقل الأخلاقي العربي” يوضح المفكر المغربي محمد عابد الجابري أنه عندما طرح أفلاطون مسألة ما إذا كان من الواجب أن تشارك النساء الرجال في مهام حفظ المدينة، أم إنه من الأفضل جعل مهمتهن مقصورة على الإنجاب وتدبير البيت.. إلخ، تدخل ابن رشد ليبدي رأيه من خلال أربعة نصوص:
- فمن الناحية المبدئية: “النساء من جهة أنهن والرجال نوع واحد في الغاية الإنسانية، فإنهن بالضرورة يشتركن وإياهم (في الأفعال الإنسانية) وإن اختلفن عنهم بعض الاختلاف”.
- ومن الناحية العملية: “إنا نرى نساء يشاركن الرجال في الصنائع، إلا أنهن في هذا أقل منهم قوة، وإن كان معظم النساء أشد حذقا من الرجال في بعض الصنائع”
- وفيما يتعلق بالرأى الشرعي في الإمامة الكبرى يقول: “فإنه لما ظن أن يكون هذا الصنف نادرا في النساء، منعت بعض الشرائع أن تجعل فيهن الإمامة الكبرى”
- أما الملاحظة الرابعة فتتعلق بوضعية المرأة في المجتمع العربي، وفي الأندلس في زمن ابن رشد بشكل خاص، وفي ذلك يقول: “وإنما زالت كفاية النساء في هذه المدن لأنهن اتخذن للنسل وللقيام بأزواجهن.. فكان ذلك مبطلا لأفعالهن” (الأخرى).
محمد عابد الجابري
يبين نص ابن رشد الصورة الايجابية للمرأة في خطابه بالمقارنة بخطابات ثقافية سابقة أو لاحقة عليه، فابن رشد يقوم بنفي الكثير من الصور النمطية التي شاعت في الخطابات الذكورية التي عادة ما تستند لتصورات أسطورية وخرافية قبل الإسلام. فعند ابن رشد كما عند ابن عربي لا مجال للتمييز التفاضلي بين المرأة والرجل بما أنهما يشتركان في النوع والطبع والعقل والغاية الإنسانية، وبناء على هذه الحقيقة التي لا ينكرها منطق العقل السوي، مهما كان فطريا بسيطا، وحينما نستبعد منطق القوة وما يتولد عنه من أشكال الظلم للأفراد والفئات الأضعف في أي مجتمع فإن ابن رشد يقرر أن النساء يمكن، بل ويفترض من حيث المبدأ، أن تشتركن مع الرجال في “كل” الأعمال وفي “كافة” المجالات وفق معيار الكفاءة الفردية وليس وفق معيار النوع المؤنث أو المذكر بما في ذلك الإمامة الصغرى والكبرى، والولاية العامة والخاصة.
كل الطرق البعيد ة عن المُغالاة سوف تتفق وما قيل حول أنه لا مجال للتمييز التفاضلي بين المرأة والرجل؛ بالفعل بما أنهما يشتركان في النوع والطبع والعقل والغاية الإنسانية، فالطبيعي أن تشترك النساء مع الرجال في كل الأعمال وفي كافة المجالات وفق معيار الكفاءة الفردية وليس وفق معيار النوع بما في ذلك الإمامة والولاية
رائع دكتور حسام الحداد..
أعتقد أن رؤية المتصوفة للمرأة تظهر قوتها في كتابات ابن عربي في أكثر من موضع، فنجدها حين يتحدث عن صديقه أبي علي الشكاز الذي يحب مداعبة النساء، ونجدها في التنبيهات ع الحقيقة المحمدية، حين يشرح مولانا حديث حبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء وجُعلت قرة عيني في الصلاة.. وأيضا حين تغزل في حبيبته النظام بديوان شعر كامل (ترجمان الأشواق)
وغير ذلك كثير …. مما يبرز في حقيقته تقديرا للمرأة.
فالمتصوفة أخذوا المرأة رمزا للجمال منطلقين من حقيقة حب الرجل للمرأة، ومن ثم حب الإنسان للحقيقة، ثم بلورتها مع فكرة الوصال الإلهي مع البشر.