رؤى

الحرية أسمى مقاصد الشريعة.. البحث عن الفقه الغائب

الحرية مبدأ أصيل في الإسلام، ليس هذا فقط، يل هي واحدة من أهم مقاصده، وفي رأينا إنها أسمى مقاصد الشريعة، وليس هناك خلاف مُعتَبر حول أننا بحاجة إلى أن نعيد التفكير ملياً فيما استقرت عليه أقوال العلماء حول مقاصد الشريعة، ليس بغرض نقضها أو الاختلاف معها، فكل ما ذكره العلماء من مقاصد للشريعة صحيحٌ ولا خلاف عليه، ولكن ما نريد أن نعيد النظر فيه، ونمعن التفكير حوله هو ما جرى إغفاله ونراه أجدر بأن يكون أهم مقاصد الشريعة.

والحق أن بدء انتقال الحُكم من الشورى إلى المبايعة بالسيف كان بمنزلة خلع لواحد من أهم مقاصد الشريعة، وبينما انهمك العلماء في التنظير والتقعيد لعلوم شتى، ولفقهٍ عظيم، ابتعدوا، أو أبعدوا، عن تقعيد «فقه الحرية» والتنظير له، وهو ـ في رأينا ـ الفقه الغائب، وهو الفقه المطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى.

وقد سُلبت الأمة الإسلامية حريتها، وسِيقت عبر تاريخ طويل من الاستبداد إلى حيث هي الآن، في ذيل الأمم تخلفاً من بعد تخلف، تتقلب فيه منذ عقود من الدهر، ومن أخطر أسباب هذا التخلف مصادرة إرادة الإنسان، وكبت حرياته المشروعة، فالإنسان الذي لا يملك الحرية لا يستطيع أن يصنع الحياة، والإنسان الذي يشعر بالاضطهاد وسحق إرادته وشخصيته، لا يتفاعل ولا يستجيب للسلطة، ولا لمشاريعها وسياستها، ولا يستطيع أن يوظف طاقاته، وبالتالي لا يستطيع النهوض أو التقدم.

مطلوبٌ أن نؤسس لفقه تحتاج إليه الأمة وتتطلع إليه، حاجةٌ يفرضها واقعها، وتطلعٌ إلى ما يسهم في نهضتها. وليس من شكٍ في أن نهضة هذه الأمة مرهونة أولاً بتحرير العقل من الإرهاب الفكري، وأن يفسح أمامه المجال واسعاً لينطلق، وليفكر وليبدع وليمارس دوره الملتزم في مجال المعرفة وتشخيص المسار والبحث عن سبل تصحيحه، ومرهونة ثانياً بإطلاق حريات الفكر والعقيدة والعبادة وصيانة حرية الابداع وحريات السلوك والتملك والعمل وعلى رأسها جميعاً الحرية السياسية.

لقد انطلق الإسلام مع الإنسان الحر المختار، وفهم المسلمون الأوائل، وهم أعظم أمة الإسلام، أن الإسلام دين الحرية، وكان ذلك أعظم فهم للدين الجديد، قدم هذا المفهوم واضحاً لا لبس فيه واحد من أعظم الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يأخذ حق المصري من ابن عمرو بن العاص، لم يكن انتصافاً لحق فرد من الأمة ضد جور وقع عليه وفقط، بل راح يثبت عقيدة الحرية وهو يطرح سؤاله الذي يحمل أروع الإجابات: «متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».

 ما أعظم عمر، وما أعظمها من مقولة بقيت على مدار الزمن حتى استقرت في صدر «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» بعد أربعة عشر قرناً، لأنها قانون الحياة الذي كشف عنه الإسلام، ووعيه المسلمون الأوائل على حقيقته، وعملوا على أساسه، بل وجاهدوا لكي يحققوه في الواقع، حتى أن بدوياً عمَّر الإسلام قلبه هو الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه يقول لقائد الفرس الذي سأله: ما جاء بكم إلى بلادنا؟، فتأتي إجابته واضحة عميقة مدوية عبر الأزمنة: «جئنا نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام».

وأكد علي بن أبي طالب رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين على مبدأ حرية المسلمين في اختيار حكامهم، فقد قيل له وهو على فراش الموت: نولي بعدك الحسن (ابنه)، فقال: لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصَر.

هؤلاء هم النبت الطيب لغرس رسولنا الكريم، هم الجيل الذي بناه رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، فأحسن تربيتهم ورسخ بناءهم وأعاد صياغتهم، هم جيل البناة العظام، لم يتحدثوا عن الحرية بل مارسوها، لم يتحدثوا عن الشورى بل كانت حياتهم، وكان أمرهم شورى بينهم فتحولوا إلى أمة العدل والحرية.

محنة الشعوب المسلمة تتجسد في مصادرة حرية «الإنسان»، وسحق إرادته، وتسليط الاستعباد، والكبت الفكري، والتسلط السياسي عليه، ومصادرة إرادته وحريته، وواجب علماء المسلمين أن يؤسسوا اليوم، وقبل الغد، الفقه الأعظم الذي يحتاجه المسلم أكثر من أي فقه، أن يأسسوا ويقعدوا “فقه الحرية»، وأن يجعلوا من الحرية المقصد الأعظم للشريعة، فالشريعة حيثما يصلح حال «الإنسان»، وحيثما تدفع فساده، و«الإنسان» هو المقصود من الشريعة، وصلاح حاله مقصدها الأعظم، مع درء فساد هذا الحال، ولما كان «الإنسان» هو المهيمن على هذا العالم، فإن في صلاحه صلاح العالم وأحواله.

والإسلام يعالج صلاح «الإنسان»، الفرد، والنوع، وأول صلاح الفرد إصلاح اعتقاده، وأول صلاح النوع الإنساني في إصلاح معاملاته، والمسلمون بحاجة الآن إلى تقعيد جديد لأسس نظرية جديدة لمقاصد الشريعة تعلي من تأثيرها في المحيط الإنساني كله، وفي رأينا المتواضع يجب أن تقوم هذه النظرية على مفاهيم وأسس متفق عليها.

أولها ونقطة البداية فيها أن نعترف بأن التوقف عند القول بالمقاصد الخمس التي أوردها الإمام الشاطبي في «الموافقات»، هو في الحقيقة تقصير في أداء واجب التدبر، وتعطيل لفريضة التفكير.

ولابد أن ندرك أن التشريعات الوضعية تكاد تكون ألزمت نفسها بالعديد من المقاصد التي تضم مقاصد الشاطبي، وأجازف بالقول بأنها تكاد تكون تجاوزتها، ولذلك يتلعثم الكثير من المسلمين الآن أمام محاولات إثبات أن شريعة الإسلام تتضمن ما وصل إليه الغرب من تشريعات.

إن الدوران حول ما أورده الشاطبي من مقاصد للشريعة الإسلامية، يوقف حركة الاجتهاد حول «المقاصد»، وهي الحركة التي لا يجب أن تتوقف ما دام هناك إنسان قادر على التدبر في كتاب الله، والتفكير في خلق الله، ومفروض عليه إسلامياً أن يعمل فكره، كما أعمل السابقون فكرهم، وأن يقدم إسهامه، كما قدم السابقون إسهاماتهم، لم يوقفهم عن تقديم هذه الإسهامات حديث عن التمسك بما قدمه السلف الصالح.

معلومٌ أن الشريعة تستهدف «الإنسان»، وتحافظ على دينه، ونفسه، وعقله، وماله، ونسله، وهي نزلت للإنسان، وهو المخاطب بها، المطلوب منه إقامتها، المستخلف لإقامة دين الله في الأرض، والشريعة يطبقها «الإنسان» على «الإنسان»، و«الإنسان» لا يكون إنساناً إلا إذا كان حراً، و«الإنسان» لا يكون مسلماً إلا إذا كان حراً ، فلا إسلام بدون حرية، لأن اعتناق الإسلام يجب أن يجيء نتيجة اختيار حر «لا إكراه في الدين” »، والمكره على الإسلام لا يقبل منه إسلامه، يعني لا دين بلا حرية، فالحرية هي مدخل اعتناق الدين، وهي مناط التكليف الشرعي، ومن لا حرية لديه، لا دين له، ولا تكليف عليه.

الحرية أصل، ويجب أن يرسخ في التصور الاعتقادي للمسلم، أن الإسلام جاء ليخرج «الإنسان» من الظلمات إلى النور، من ظلمات العبودية للعباد، إلى نور العبودية لرب العباد، فأعطاه حريته، بل حرره من العبودية التي تحط من رفعة شأنه، وما حباه الله به من تكريم، ونوله حرية التكريم، بأن يكون سجوده لله وحده، وهو الذي كرمه من قبل بأن أمر ملائكته بأن يسجدوا له.

يجب أن يرسخ في التصور الاعتقادي للمسلم أن الإسلام ثورة حررت «الإنسان» الفرد، وفكت إسار المجتمع، وأشاعت فيه العدل، والمساواة، والتضامن، والإخاء، والتكافل، مكان: الظلم، والجور، وسيطرة الغني، على الفقير، وجور القوي على الضعيف. ويجب أن يرسخ في التصور الاعتقادي للمسلم أن الإسلام رد إلى «الإنسان» إنسانيته، فرفعه من مهاوي «الحيوانية” التي اجتاحته عصوراً طويلة، إلى مصاف «الإنسانية” المكرمة، منذ أول إنسان، حتى آخرهم بفعل الله، وبأمره. ويجب أن يرسخ  عنده أيضا  أن  «الإنسان» مخلوق الله المكرم الذي اتخذه خليفة  له في الأرض ليعمرها وليقيم فيها العبودية لله اختيارا، لا جبرا ولا تسخيرا. يجب أن يرسخ في التصور الاعتقادي للمسلم أن «الإنسان» هو المخلوق الحر، صاحب الإرادة الحرة، وأن عليه أن يواصل السعي بدون توقف أو ملل، إلى تحقيق هذه الإرادة .

مقصد الشريعة الأهم هو إبطال العبودية، وإطلاق الحرية، وتعميقها، ذلك لأن إبطال عبودية «الإنسان» لغير الله، فيه استرداد لحريته، وحفاظ على أمانته، التي أودعت لديه من خالقه، والراسخون في العلم يعرفون  يقينا ، أن غاية الشرع الإلهي هي: كرامة «الإنسان»، وتحريره، وتحقيق السعادة له في الدارين: الأولى والآخرة.

ويجب أن يرسخ في التصور الاعتقادي للمسلم أن الحرية ليست مجرد مدخل إلى تحقيق الشريعة، بل هي قبل ذلك مدخل لتحقيق إنسانية البشر موضوع الشريعة وهدفها، وأن رسالة الدين هي: إخراج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان، إلى عدالة الإسلام.

باختصار: رسالة الإسلام هي الحرية، والحرية صنو الإسلام وكلاهما فطرة. وهي مقصد الشريعة الأسمى، وهي أصل من الأصول، بل هي أصل كل الأصول، وإلا تحول الدين من رسالته الأصلية بتخليص الناس من كل عبودية، إلى التخديم على الاستعباد والاستبداد، الذي هو أصل كل داء أصاب أمتنا الإسلامية على مر العصور.

محمد حماد

كاتب وباحث في التاريخ والحضارة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock