يفاجئك وأنت تطالع العنوان، وقد يصرفك عن قراءته لاسيما إذا كنت مهووسا بالعربية وفصحاها، لكن ما ان تقلب صفحاته حتى تدهشك السلاسة في التعبير، والعمق في المعنى، والثراء في الأحاسيس. انت هنا لست أمام قلم يكتب وإنما أذن تصغي، وقلب يتحسس لآلام أجيال من المصريين. تائهون في الزحام. أحلامهم بسيطة وعوائقهم شاهقة كالجبال. تقسو عليهم الحياة بتفاصيلها فتزيدهم إرادة وتحد ورغبة في البلوغ والوصول، حتى لو كان إلى هدف بسيط كحلم أخ “بسترة” أخته، حين يحيل موت الأب شابا في مقتبل العمر إلى شيخ مسؤل.
أحسن الكاتب الطرح حين ربط ما بين حكايات شخصياته البسيطة (الطيارين) كما يسمون أنفسهم، وهم عمال توصيل الطلبات من المحلات إلى الزبائن- وما بين شخص المخرج الراحل عاطف الطيب الذي تخصص في الإنصات إلى المهمشين، وملأ فراغات الهامش بصوت الواقع الذي يتفنن في الضغط على أعناق شرائح الغلابة من المصريين، حتى صار واشتهر بمخرج الغلابة، لو كان للطيب من الحياة والفن متسع لاستطاع أن ينسج من حكايات “شباب الفيزبا” ألف حكاية نابضة بالحيوية، صادقة في نقل أوجاع وأنين هؤلاء الذين قذفت بهم الحياة بعيدا عن مركزها ودوائر اهتمامها، وكما يقول المفكر الراحل زكي نجيب محمود (فالويل كل الويل. ثم الخير كل الخير من أولئك الذين قذفت بهم الحياة بعيدا عن إطارها المركزي).
زكي نجيب محمود
بطلة الحكايات هنا هي “مريم نور” وهي فتاة تدرس الإعلام بالجامعة الأمريكية في القاهرة، بحثت عن فكرة خارج الصندوق لتقدمها كمشروع تخرج من الجامعة، فاهتدت إلى تلك الفكرة التي تشبه حكايات أبطال سينما عاطف الطيب. لا نستطيع أن نصنف مريم تصنيفا طبقيا في مجتمع ازدادت فيه الهوة والفجوة بين طبقاته، فلم يعد لنا ذلك التمايز الطبقي الماركسي الشهير ما بين (أرستقراطية وبرجوازية وبوليتاريا)، وإنما (أغنياء ومٌعدمين) و(مستورين) ذلك التعبير المصري الأثير عن الرضا والقناعة، والذي تسقط معه كل النظريات الاقتصادية.
مشهد من فيلم الهروب إخراج عاطف الطيب
مثلت مريم ذلك الخيط الرفيع الذي ربط ما بين قمة الهرم الاجتماعي (كباحثة بالجامعة الامريكية)، وقاعدته ممثلة في حكايات فئة عمال توصيل الطلبات، حيث جعل الكاتب مصطفى فتحي من هؤلاء مادة بحثية ومشروع تخرج لبطلة روايته، التي ستصير هي أيضا جزءا من حكاياته.
يبدأ الكاتب قص حكاياته الممتعة والمتنوعة، من خلال لقاءات تعقدها الباحثة مريم مع أبطال حكاياتها، ويحلو للكاتب أن يصدر قصصة بمجموعة من المبادىء والقواعد الحاكمة لعمل “شباب الفيسبا الطيارين” أو” الهوم دليفري”.
القاعدة الأولى على سبيل المثال هي “مفيش أمان للأسفلت.. وعشان تكون دليفري شاطر لازم تكون سريع في توصيل الطلب.. ولو انتصر الأسفلت عليك مالكش عندنا دية”، والقاعدة الثانية “أنت سفير المطعم، شكلك لازم يكون نضيف طول الوقت…ابتسامتك تنور وشك مهما حصل..سامع؟ مهما حصل.
مشهد من فيلم آيس كريم في جليم
ثم يأخذك الحكي على لسان أحد أبطال تلك القصص الذي يروي للباحثة الشابة (مريم) قصة امتهانه لهذا العمل، والصعوبات التي تواجهه، والأحلام التي تراوده. ومفارقات الواقع المخيف بين أوساط تلك الفئات المطحونة، فنسيان قاعدة ك ( ممنوع منعا باتا تدخل شقة العميل) قد تكلفك قضاء عدة ليال رهن الاحتجاز في أحد اقسام الشرطة، تكافح كي تجد من يتدخل لنجدتك، وبعض أنماط التدين قد تكلف الصدام مع متطلبات واقع، قبل أن تكون متطلبات مهنة أو ضغوط ربة عمل.
حتى هؤلاء المهمشون لا يخلون من مُثل وأحلام وردية، فبعضهم يعمل (دليفري) لأنه أعجب بشخصية وشكل عمرو دياب في فيلم (آيس كريم في جليم) حين يركب دراجته ليقوم بتوصيل شرائط الفيديو للزبائن فتكثر بينه وبينهم الحكايات، وآخرين قرروا اختار هذه المهنة رغبة في الحرية، إذ يشعر وهو يقود دراجته بأنه يطير بلا قيد. تمتزج أحلامه مع صوت المطرية اللبنانية إليسا وهي تغني ( وإحنا في أواخر الشتا) يشعر بها تغني له.. له فقط فتنسيه صفعات برد الشتاء.
إليسا أواخر الشتا
الرواية الصادرة عن مؤسسة (شمس للنشر والإعلام- 2018) في 166 صفحة من القطع الصغير، تمثل نموذجا للآدب الشبابي الذي نجح في سبر أغوار الواقع، وتحويل مآسية وآلامه إلى مادة للتسلية والتشفي والتنفيث بالحكي والسرد الممزوج بالسخرية. كل ذلك في لغة سهلة بسيطة تتيح لهذا الصنف من الآدب الوصول إلى أوسع شرائح من جماهير القراء ،لاسيما في عصر الثورة الالكترونية.