منوعات

الصوفية المجاهدة (4): عمر الفوتي.. أسد إفريقيا الضاري

في الوقت الذي كان  فيه الأسطول الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت يقتحم الموانىء المصرية عام 1798، كان ميلاد واحد من أشرس المجاهدين الذي واجهوا الأطماع الاستعمارية الفرنسية في القارة الافريقية.

 ففي أواخر شهر شعبان من عام 1213 من الهجرة/ 1798 ميلاديا وُلد الشيخ الحاج عمر الفوتي الذي سيصير إماما لواحدة من أكبر الإمارات الإسلامية في غرب إفريقيا.

بيت طيب

ولد الشيخ عمر بن سعيد الفوتي بـ«فوتا تورو» (منطقة تقع على ضفتيْ نهر السنغال؛ جزءٌ منها موريتانيٌّ على الضفة اليمنى، ويقابله جزؤها السنغالي على الضفة اليسرى) من أبوين منحدرين من جد واحد في بيت علم و معرفة وولاية. كان والده سعيد عالماً تقياً ورعاً زاهداً حافظا لكتاب الله مٌجاب الدعوة،. وفي هذا الأجواء الطيبة نشأ الطفل عمر ميّالا لحفظ وتلاوة القرآن الكريم، حتى قيل إنه عندما كان في الثالثة من عمره كان يقرأ سورة الإخلاص ألف مرة، وعندما بلغ الخامسة ألحقه والده بكتّاب الشيخ (قري حماد) من أهل حلوار، وأتم حفظ القرآن على يديه في سن الثامنة، ثم انتقل بعدها إلى قرية يقال لها (دربس) و فيها تتلمذ على يد أحد الزهاد الورعين، فتعلم منه اللغة و الفقه و النحو و غيرها من الفنون.

مكان ميلاد الشيخ عمر الفوتي بحلوار

رحلة إلى مكة

ما أن تبحر الشيخ عمر الفوتي  في علوم الشريعة وأحكامها ومذاهبها من فرائض و سنن، وصار ضليعا في علوم اللغة والقرآن حتى فتح الله عليه في طلب علم الحقيقة وأهلها و مجاهدة النفس وأعوانها، فرفض العلائق و العوائق و رماهما وراء ظهره، وجعل من الوصول إلى الحقيقة هدفا، ومن العرفان غاية، حتى قدر الله له ملاقاة شيخه العلامة الزاهد السيد عبد الكريم بن أحمد الناقل الفوتجلي وتهيأ للسفر معه إلى أرضه، فرافقه إلى بلاده، حيث مكث عنده خادما له و مدرسا للعلوم سنة  بضعة أشهر كما أورد ذلك في كتابه «رماح حزب الرحيم في نحور حزب الرجيم».

 وقد وقعت بين الشيخين المحبة والتوافق وسلك عمر الفوتي على يديه بعض من مسالك الطريق إلى الله ثم وقع في قلبهما الذهاب إلى الحج لزيارة بيت الله الحرام، لكن القدر كان مقدرا أن يكمل الطريق على أيدي أولياء آخرين، ففي الطريق تخلف الشيخ عبد الكريم عنه، وسمع الشيخ عمر بمجاورة الشيخ محمد الغالي بمكة، فقرر أن يصاحبه ويتعلم منه.

في طريقه إلى مكة قادما من غرب إفريقيا نزل الشيخ عمر الفوتي القاهرة، فدخل الخلوة كعادة المتصوفة في ذلك الزمن، وفي تلك الخلوة سمع النداء بالأخذ على أيدي الشيخ محمد المغربي، ولم يكن له معرفة به، فلما أراد أن يركب النهر قيل له لابد من إذن وكيلك، فسأل عن وكيل المغاربة فإذا به الشيخ المغربي الذي سمع النداء به، وبعد اختبارات عدة في علوم الشريعة والحقيقة أجاز له الشيخ ركوب النهر. وقد روى الشيخ هذه القصة في رسالته (رماح الحزب الرحيم)، وهي فيما تبدو قصة ذات دلالة رمزية تشير إلى إجازته سلوك طريق الولاية والعرفان.

فى سبيل الله

خلال وجوده بمكة التقي الشيخ عمر الفوتي بالشيخ محمد الغالي، وأخذ ينهل من علمه ومعرفته، وبقي في خدمته لمدة ثلاث سنوات كان مثله فيها مثل نبي الله موسى مع الخضر عليه السلام، وبتعبيره كان بين يديه (كالميت بين أيدي مغسله لا يملك من أمره شيئا) حتى جمع الله بينه وبين الشيخ أحمد بن محمد التيجاني الذي أوقفه أمام الروضة الشريفة ليُشهد النبي صلى الله عليه وسلم على إعطائه أوراد الطريقة التيجانية، التي ستصبح ذات يوم حاضنة دينية لواحدة من أكبر الإمارات الإسلامية في غرب افريقيا.

بعد سنوات قرر شيخنا العودة إلى وطنه، وفي الطريق نزل بأرض (حوص)، وكانت مدينة قد أقيمت حول ضريح الولي والمجاهد الصوفي الشهير عثمان بن فودي، ويرأس قومها ابنه الشيخ محمد بلو، فتجاورا يشدان أزر بعضهما بعضا على مجاهدة النفس، والترقي في العرفان. وبقي الشيخ عمر ملازما صديقه الشيخ محمد بلو ومعاونا له في أمور الدين والجهاد، فلم يجهز الشيخ محمد بلو جيشا لمجاهدة المشركين إلا وكان الشيخ عمر من قياداته، حتى جعله قائدا لعسكره، فكان ينتصر في كل غزوة يحضرها، حتى فتح الله له الكثير من الأراضي و البلدان. فانتشر صيت الشيخ عمر الفوتي في أنحاء حوص وأقبل الناس عليه من كل جانب بالمبايعة و التعلم، وما أن توفي الأمير محمد بلو حتى عاد الشيخ عمر إلى مسقط رأسه فوتا، حيث مكث فيها اثنتى عشرة سنة جاءه خلالها رؤساء الأقاليم و اخذوا عنه الطريقة التيجانية.

بقي الشيخ عمر الفوتي طوال هذه السنوات يعمل على نشر الإسلام في القرى الوثنية من حوله، وينشر الطريقة التيجانية في غرب إفريقيا ويواجه زحف وجهود حملات التبشير المسيحية، وبات الناس يتوافدون اليه من جميع الأقاليم حتى تكون له ما سمي بالأنصار ،وهم أهل بلدته، والمهاجرون وهم الذين وفدوا لمجاورته والعيش في كنفه، حتى اشتد خطره على الامارات الوثنية من حوله، والأطماع الفرنسية الاستعمارية فتهيأوا للانقضاض عليه، ولم يكن – حسب روايته-  قد أُذن  له بالجهاد، حتى أخذ الإذن ووُعد بالنصر من الله تعالى.

وعلى مدار السنوات التالية تمكّن الشيخ عمر من التغلب على تلك الممالك والإمارات، واحدة بعد الآخرى، وراح يفتح المدن والأقاليم و ينشر الإسلام في تلك الربوع من أرض كرت و كنق و باغنة. وامتد سلطانه حتى بلغ حدود ماسنا و قارب الحوسا، حيث أقام فيهم الشريعة. واستمر الشيخ عمر يوطد دعائم الإسلام في تلك البلاد و يبني المدارس و المساجد و يرسل الرسل و يسافر إليهم و يعظهم بنفسه. وكان يقرأ عليهم صحيح البخاري ليلا ويجاهد بهم نهارا و يقوم معهم الليل متهجدين  متوجهين إلى الله يتلون كتابه.

دولة إسلامية

أعلن الشيخ عمر الفوتي عن قيام الدولة الإمامية الإسلامية في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي التي وقفت أمام توغّل الاستعمار الفرنسيّ في المنطقة فترةً من الزمن, ثمّ أدرك الحاج عمر أنّ إمكانياته، سواء على المستوى العسكريّ أو التنظيمي لدولته الفتية، لا يمكنها الصمود طويلاً أمام الآلة العسكرية الفرنسية. فتوجه نحو الشرق، الأمر الذي مكنّ الفرنسيين من السيطرة على بعض الأقاليم في فوتا تورو وغيرها.

 فلما دان الأمر والتمكين للحاج عمر في ماسنا جمع قواده وأمراءه وجعل على رأسهم ابنه أحمد بعد أن عقد له البيعة، وقال له ارجع إلى سغ لأنهم حديثو عهد بالإسلام فرجع بأكثر الجيوش، فلما رأي الأعداء المحليون -مدعومين من المستعمر الفرنسي- قلة ما بقي مع الشيخ من جيشه عزموا على الغدر به، وبدأوا بإشعال نار الثورة بعد أن أمنت البلاد وأقيم فيها العدل و ارتفعت شعائر الدين ـ وكاتبوا البكاي بشنقيط ووعدوه أن يجعلوه أميرا عليهم، فجاء بجيش عظيم وانضم إليه فلول المنهزمين و بقايا الوثنيين وحاصروا الشيخ عمر الذي أرسل ابن أخيه التيجاني بن أحمد ليأتي بالجيوش لنجدته.

مكث الشيخ في الحصار مدة ثلاثة أشهر، ثم أمر أصحابه بالخروج من الحصار فشقوا الجيش المُحاصِر لهم حتى وصلوا الجبل وقد اشتد بهم التعب و مع ذلك التحموا مع أعدائهم في المعركة، و قتل من الفريقين جمع كثير ،ودخل الحاج عمر غارا (مغارة في الجبل) مع بعض بنيه وقد اشتد بهم التعب ينتظرون قدوم الإمدادات و قد دنا ميعاد قدومهم و لكن بعض الخونة أرشد الأعداء إلى موضعه فأشعلوا النار على مدخل الغار و سلطوا الدخان إلى داخله فاستشهد الشيخ عمر مع بعض بنيه، وكان في السبعين من عمره، في حين خرج بعضهم وقاتل حتى استشهد و كان ذلك عام 1280/1864

 وصل التيجاني بن أحمد بجيشه متأخرا، وعندما علم بما وقع لعمه وشيخه نشب بينه وبين قتلة عمه القتال حتى أخضعهم واستتب له الأمر، فراح يواصل رسالة عمه في جهاد أعداء الدين، وبذل المال فاغدق على الفقراء والضعفاء، ورتب الدروس وأكرم العلماء و أدام شهود الجماعة وحضور الوظيفة التيجانية وقراءة صحيح البخاري.

غير أن الاستعمار الفرنسي تمكّن في النهاية من إسقاط الدولة الإمامية, حيث استسلم الإمام سيري بابا عام 1881م للانتداب الفرنسي, وكان آخر إمام للدولة الإمامية في فوتا تورو.، ثم تمكن الفرنسيون من إسقاط هذه الدولة عام 1898م في مالي في عهد خليفته أحمد بن عمر الفوتي, بعدما أخمدوا جميع الحركات الجهادية المناوئة لهم، لكنهم ظلوا يفاخرون بإسقاط دولة عمر الفوتي، التي لو قدر لها البقاء لربما صارت إفريقيا اليوم، مسلمة.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock