لم تكن الفنون فى يوم من الأيام بعيدة عن الواقع السياسي المصري وحياة ووجدان الشعب، لكن الارتباط بين الغناء والناس يتخذ أشكالا وأنماطا مختلفة، كما أن دوافعه تتباين بين الإيمان الحقيقي بالشعب ودوره والارتماء في أحضانه للتعبير عنه، وبين محاولات مكشوفة للقفز على أحداث هامة ومؤثرة لتحقيق مكاسب ذاتية وتحقق شخصي.. وما بين هذا وذاك شهدت مصر عبر تاريخها المعاصر أحداثا مفصلية عبرت عنها الفنون والثقافة بمستويات متفاوتة.
ومع اندلاع ثورة 25 يناير 2011 اكتشفت مصر أن لديها مخزوناً هائلاً من الثروة الخلاّقة، واستعادت فنون سنوات سابقة، وأصواتا رحلت لتشعل ثورتها،.رغم جلال الحدث إلا أن الإبداع المصاحب كان أقل من اللحظة، ما دفع الثوار للجوء إلى اغنيات عبد الحليم حافظ، والشيخ إمام عيسى التي يتم استدعاؤها دائما في كل لحظات التوهج الشعبي.
ووسط حالة ثورية عارمة خرجت من ميادين التحرير المصرية أصوات وألحان مبشرة، بينما وجدت أصوات قديمة أن من الواجب عليها ان تغنى للثورة و”ورد الجناين” الذى قام بها ولمصر الجديدة التي بدأت ملامحها تتكون في عيون شباب وفتيات في عمر الزهور يحلمون ” بعالم سعيد “
فتحرك الفن محاولا استغلال اللحظة ومواكبتها، كل على طريقته.. البعض سعى بدافع السوق والتواجد، والبعض الاخر كانت دوافعه إيمانا حقيقيا بتلك الثورة ومطالبها، بينما انحاز فريق ثالث منذ اللحظة الأولى ضد طوفان الثورة، معلنا دعمه وتمسكه بنظام مبارك ومهاجما بوضوح وقوة لكل عمل احتجاجي ضده.
خلال الثورة خرجت فرق موسيقية إلى النور بقوة مثل “اسكندريلا ” و”وسط البلد ” و” والميدان ” وتعالت أصوات مثل محمد منير وعايدة الايوبي وأنغام وسلمى حمدين صباحى التي تعرف عليها المصريون للمرة الأولى كمطربة .ولا يمكن ان ينسى الثوار أغنيات “يا بلادي أنا بحبك يا بلادي ” التي غناها عزيز الشافعي ورامي جمال وقدما خلالها رسالة لكل أم مصرية جادت بشهيد من شهداء الثورة. كما قدمت فرقة وسط البلد أغنيتها الشهيرة ” في كل شارع في بلادي صوت الحرية بينادي ” وقدمت عايدة الايوبي اغنية ” يا الميدان “في حين قدمت فرقة كاريوكي أغنية” اثبت مكانك” وغيرها من الاغنيات العديدة التي انطلقت من الميادين تتغنى بالثورة، وعقب تنحى مبارك اتخذ الغناء طابعا مختلفا الى حد ما، حيث اتجه نحو رثاء وتمجيد شهداء الثورة أو التحذير من انحراف الثورة وضياعها خاصة مع تزايد نفوذ وهيمنة قوى الاسلام السياسي على الشارع المصري وفى مقدمتهم جماعة الاخوان المسلمين.
فرقة إسكندريلا “يحكى أن”
والسؤال الجوهري هنا ونحن نحيي ذكرى مرور ثماني سنوات على اندلاع ثورة يناير ،أين ذهبت اغنيات هذه الثورة ؟ وهل كانت بحق تعبيرا صادقا عن حالة ثورية عاشتها مصر ؟
قبل الاجابة على هذا السؤال ينبغي التأكيد على أن الاعمال الابداعية الصادقة والناضجة التي تتناول أحداثا تاريخية، غالبا ما تقدم عقب انتهاء تلك الأحداث واكتشاف كل جوانبها وأبعادها، أما ما يقدم اثناء حدوث الفعل التاريخي ذاته ،فغالبا ما يكون عفويا وتلقائيا وصادقا، لكنه يبقى مرتبطا بحدث جزئي لا بالحدث الكلي وهو الثورة مثلا أو المقاومة، أو الحرب. ويبقى الانفعال اللحظي بالحدث غير معبر بشكل كامل عن الحالة التي تشهد تغيرا سريعا ومتلاحقا.
ومن ثم فإن الأعمال الوطنية الخالدة في وجدان الوطن ليست هي تلك التي ارتبطت بحدث جزئي ولا بشخص مهما كانت قيمة هذا الشخص في تاريخ الوطن .والامثلة على ذلك كثيرة وعديدة، فأغنية “صورة” البديعة لصلاح جاهين وكمال الطويل وعبد الحليم حافظ، كانت أبقى وأكثر خلودا حتى الآن من أغنيات مثل “بستان الاشتراكية أو أغنية “بالأحضان”، و كذلك أبقى من أغنيات تناولت الزعيم الراحل جمال عبد الناصر .
وهنا يجب أن نفرق بين أوقات أعتكف فيها “حليم وأحمد شفيق كامل وكمال الطويل “لإنجاز عمل فنى بقيمة “خلي السلاح صاحي” التي خرجت عقب نكسة 5يونيو أو “صباح الخير يا سينا ” التي جمعت حليم والأبنودي والطويل للاحتفال بنصر6 أكتوبر، وبين أغنيات خرجت خلال الأيام الأولى لثورة يناير وكأنها لم تنضج بعد في وجدان أصحابها لتتحول إلى مجرد “أعمال مناسبات”. وبالتأكيد يستثني من ذلك ما قدمه علي الحجار والأبنودي وجمال بخيت وفاروق الشرنوبي بيمن مجموعة أعمال مبدعة، بينما خرجت أعمال أخرى كثيرة ورغم حسن النوايا لدى أصحابها، إلا أن الجمهور لم يتذكرها بمجرد الانتهاء من إذاعتها. وفي حين خلقت الثورة أصواتها وموسيقاها مثل محمد محسن ودينا الوديدي وفرق وسط البلد واسكندريلا وغيرها، بقي صوت الشيخ إمام عيسى وموسيقاه تملأ ميادين مصر نغماً محفزاً على الثورة دائماً.
السبب الثاني والأهم في اختفاء الكثير من الاغنيات التي رافقت ثورة يناير هو أن الثورة التي نجحت في إسقاط رأس نظام الحكم “الرئيس مبارك ” وأجبرته على التنحي، هي ذاتها التي لم تنجح في الوصول إلى الحكم أو تنفيذ مطالبها، أو حتى مواجهة سهام الاتهام المتتالية والعنيفة ضدها، كما أن ما شهدته مصر من انفلات أمنى وبلطجة وغياب للدولة لمدة ليست قصيرة وحالة الاستقطاب والصراع السياسي بين القوى الثورية والسياسية، كل ذلك خلق روحا عدائية لدى البعض تجاه الثورة ورموزها، وهو ما أثر بشكل كبير على استمرار العطاء الفني والثقافي المعبر عن الثورة وأهدافها. واليوم بعد ثماني سنوات على اندلاعها انتهى الأمر بأن أغنيات ثورة يناير لم تعد تذاع على الاطلاق سواء في الاذاعات أو القنوات التلفزيونية، وكأن ثورة لم تمر من هنا.