عام

عبد الله النديم.. المشاهد السبعة فى دراما الثورة  

في العاشر من أكتوبر وعلى بعد 124 عاما من الآن وفي “الأستانة” حيث المنفى الإجبارى بعيدا عن الأهل والوطن رحل “عبد الله النديم” حزينا مريضا بعد رحلة نضال وإبداع كان خلالها صوت الوطن وصرخة المقهورين ومؤذن الثورة وخطيبها.

يمثل “النديم ” في تاريخ مصر المعاصر تجلٍّ واضح لدور ما يعرف الآن بالقوى الناعمة فقد أدركها “الأدباتي” قبل أكثر من قرن ونصف القرن من ظهور أول تعريف لهذا المصطلح على يد الأميريكي “جوزيف ناي”

جوزيف ناى
جوزيف ناى

كانت حياة “النديم ” تشبه الأساطير شهدت كل أشكال التمرد والصعلكه والنضال والإبداع والمطاردات والتنكر من أعين تستهدفه وتراقبه لسنوات طويلة أخلص للقضية الوطنية حتى آخر نفس وبادله الناس حبا وتقديرا وشغفا بما يقول. بعد تلك السنوات الطويلة ما يزال “النديم” مثيرا للتأمل ومحرضا على الكتابة والتعرف على زوايا جديدة أو مناطق ملهمة في مسيرته وكأن تلك المحاولة المتكررة والمتجددة هي بحث لا إرادي عن هذا النموذج الإستثنائي الذي نفتقده كثيرا.. بحث عن روح المغامرة من أجل الوطن والانحياز الكامل والمطلق للناس خاصة البسطاء منهم..

ربما ظهرت بعد النديم عشرات النماذج النضالية والصحفية والفنية والأدبية التي حملت على أكتافها القضية الوطنية، لكن المؤكد أن لا أحد دونه امتلك ذلك التنوع والتعدد في شخصيتة والقدرة على المقاومة بكل السبل وحتى آخر نفس.

خمس مشاهد في حياة النديم تدفعنا للتأمل وتسبح بنا في خمسة عقود وعامين هي عمر “الأدباتى” الخطيب المفوَّه، والشاعر الموهوب، والمسرحي البارع، وقبل هذا وبعده المناضل الثوري النقيّ.

المشهد الأول : المولد والنشأة

في حي الجمرك بمدينة الإسكندرية نشأ الفتى “عبد الله بن مصباح بن إبراهيم نديم الإدريسي الحسني” وكان والده “مصباح” يمتلك فرنا صغيرا يقتات منه .. أرسله أبوه إلى الكُتَّاب للتعلم وحفظ القرآن ثم إلى مسجد “الشيخ إبراهيم” وبالرغم من تفوقه الملحوظ إلا أنه يمل وينصرف عن استكمال تعلمه بالكتاب والمسجد ويتفرغ للتجول في الحارات الصغيرة الفقيرة والاستماع لحوارات الباعة وإبداع “الأدباتية” الفطري والمرتجل في كثير من الأحايين؛ مما يدفع الوالد إلى الصراخ فى وجه فتاه “اخرج للعمل لكى تكسب رزقك”….

لتبدأ رحلة مليئة بالبشر والأحداث والتناقضات لا تنتهى إلا مع لحظة وفاته.

المشهد الثانى : قهوة متاتيتا

كانت قهوة متاتيا التى تقع في ميدان العتبة بالقاهرة ملتقى جمال الدين الأفغاني الذى يجلس كل ليلة يمهد للثورة على الظلم والنظام الذي أفقر الوطن ويبشر بالخلاص من الطغاة وضمت تلك الجلسه كل من “سعد زغلول” وأديب إسحق ومحمود سامي البارودي ومحمد عبده وغيرهم من رموز السياسة والثقافة في مصر، وينضم “النديم” إلى تلك الجلسه الصارمة المنضبطة التي لا تعرف أجواء الأدباتية الساخرة لكنه يخضع لتقاليد الجلسه ويفتح عقله للتعلم والاستفادة من الحورارات والجدل في كل أمور الحياة ويتعرف على معنى القضيه الوطنية بشكل مختلف بعد أن تعرف من قبل على معاناة الناس والتمس جراحهم وأوجاعهم.

في 1879 ينشىء الأفغانى حزبا سريا هو “الحزب الوطني الحر” كرد فعل على قرار سياسيات “الخديوى توفيق” ويعمل هذا الحزب الذى انضم إليه النديم على توزيع المنشورات المناهضة للخديوي وسياسياته ويزداد الصدام بين “توفيق” وحزب الأفغاني حتى يصل الأمر إلى القبض عليه ونفيه من البلاد وينتهى  بنفيه الحزب.

وينضم “النديم” إلى جمعية سرية بالإسكندرية هي “مصر الفتاة” ثم ينشىء جمعية علنيه يُطلق عليها “الجمعية الخيرية الإسلامية” وتنشىء الجمعية مدرسة وتتحول تلك المدرسة إلى ساحة لتعليم الطلاب فنون الخطابة والشعر والمسرح ويقدم، من تأليفة وتمثيل طلاب المدرسة، مسرحيتين هما “الوطن” و”رواية العرب”.

قهوة متاتيا
قهوة متاتيا

المشهد الثالث: الصحافة والمسرح معا

هنا أيضا في الإسكندرية معشوقته يقرر “النديم” إصدار مجلة تعبِّر عن هموم المواطن وتكون نافذة لنشر إبداعة الأدبي والصحفي ويختار لها عنوان شديد الدلالة وهو “التنكيت والتبكيت” وقد خرجت المجلة في ظل تزايد انتشار الصحف والمجلات الساخرة والتي تستخدم الرمز لنقد الأوضاع السياسية هربا من بطش السلطة.

كانت المجلة التي احتوت على نقد لازع تمهد، مع عوامل أخرى، للثورة العرابية التي كان للنديم دور بارز خلالها وقبيل اشتعال الثورة وتوهجها يقرر “النديم ” العودة للقاهرة بعد سنوات قضاها في الإسكندرية.. ويترك كل شىء ويغلق “التنكيت والتبكيت ” ويلبى نداء الثورة وكانه على موعد مع القدر وكأن كل ما مر من عمره هو استعداد لتلك اللحظة الفارقة في تاريخ مصر ومسيرة “النديم”

يعود للقاهرة وأزقتها ومقاهيها ويصدر مجلة “الطائف” وتتوثق علاقته بزعماء الثورة بسرعة مذهلة.

تخوض المجلة معارك الوطن بكل جرأة، ليست معركة المطالبة بدستور فقط هى ما شغلت النديم، ولا الإستقلال الوطنى وتحجيم النفوذ الأجنبي في مصر، لكنه يسبق الجميع ويتحدث لأول مرة وبشكل مباشر عن العدالة الإجتماعية، ويكشف حجم الإفقار والمعاناة التي يعيشها الفلاح والعامل ويفضح ممارسات السخرة، ويكشف عن انحياز حقيقي لملايين البسطاء الذين عاش بينهم وتعلم منهم

وتتعرض “الطائف” لمضايقات ومنع عدة مرات بسبب حدة النقد الذي توجهه للحكومة والذي يمتد إلى الخديوي نفسه.

التنكيت والتبكيت
التنكيت والتبكيت

المشهد الرابع …. خطيب الثورة

يزداد الغضب الشعبي ويعم السخط على الحكومة وتفشل كل سبل التفاوض مع الخديوي ومن ثم تشتعل نيران الثورة العرابية، وتعم مصر، ويصبح الشعب طرفا في الصراع القائم ويكون “النديم” هو صاحب الفضل في حشد الآلاف خلف عرابي ورجاله…. يجوب القرى والمدن يخطب في الناس… يخرج مخزونه الإنساني ويستعيد روح “الأدباتي” التي بداخله ويطللق عنان فصاحته وقدرته على الإقناع والتأثير ويجتمع حوله الناس في كل مكان وهو يخطب ويحرض على الثورة…

في رحتله إلى دمياط لوداع “عبد العال حلمي”أحد رفاق عرابي بعد أن طلب “شريف باشا” من حلمي الانتقال إلى دمياط، رافقه”النديم” خلال رحلته وكان يستغل توقف القطار في كل محطة وينزل يخطب في الناس داعيا إلى دعم عرابي ورفاقه ويسرع لاهثا ليلحق بالقطار إذ يتحرك لمحطة تالية..

كانت خطب “النديم” في تلك المرحلة جزءا من حياة المصريين وطقوسهم السياسية والثورية.. لم يترك تجمعا شعبيا، مهما كانت طبيعته، إلا وخطب فيه حتى الأفراح جابها وتحدث فيها لدرجة أن صار الناس يحفظون أجزاءً من خطبه وعباراته وسخريته اللاذعة من الحكام ويتنقل بين مدن مصر وقراها خطيبا مفوَّها وثائرا نبيلا.

المشهد الخامس : ملاحقات ما بعد الهزيمة

“دخل الإنجليز القاهرة التي أُغلقت على أبطال الثورة كالمصيدة.. وفي أيام بات كل من لعبوا دورا في الخيانة سادة وكل من لعبوا أدوار البطولة في قاع السجون” هكذا وصف الكاتب “أحمد بهاء الدين” في كتابه “أيام لها تاريخ” وصفا دقيقا وبليغا لما بعد الهزيمة وضياع حلم الثورة.

جرت محاكمة كل رجال الثورة ورموزها وكان النفي نصيب “عرابي” وستة من رفاقه بينما قرر النديم الهرب… فكيف لمن عاش كل حياته في الشوارع والحارات وبين الناس أن يجد نفسه حبيسا وراء قضبان.

استمرت فترة الهرب والمطاردات تسع سنوات كاملة، يتنكر “النديم” ويختبىء من عيون البوليس السري والعلني، وترفض عيون آلاف الذين شاهدوه وتعرفوا عليه إغراء الألف جنيه التي رصدتها الشرطة لمن يساعد فيى القبض عليه.. نعم ألف جنيه في ذلك الزمن كانت بمثابة ثروة….

لكن عيون الناس باتت تحمي “نديمها” أينما ذهب. كانت تجربة شديدة القسوة والمرارة عرف خلالها الجوع والعري والقلق، لكنه كان دوما واثقا وبلا حدود في المصريين ومؤمنا تماما بأن لحظة النصر، وإن تأخرت، قادمة.

تسع سنوات من المطاردة يدخل القرى بأسماء مستعارة ويغيِّر من شكله وملبسه ومهنته عند كل قرية يقيم بها حتى يشعر بالقلق أو تقترب منه أيدى الخيانة والغدر فيتركها ويرحل إلى غيرها..

في تلك السنوات كانت كلمات النديم ومقالاته سوطا على ظهر الطغاة وخنجرا في جسد أعداء الوطن وعملائهم.

في قرية “الجميزة” القريبة من “طنطا” تعرف عليه أحد الجواسيس وأبلغ الشرطة التى تمكَّنت من القبض عليه، وتم اقياده إلى نيابة طنطا ليجد وكيل النيابة “قاسم أمين” الذي كان يعرف قدر خطيب الثورة ويعامله بشكل يليق بثائر وكاتب كبير وتقرر السلطات نفي النديم خارج مصر؛ فيرحل حاملا ألمه وحسرته على ترك مصر ويقيم بعض الوقت في يافا وبعد رحيل الخديوي توفيق يُسمح له بالعودة إلى مصر.

المشهد السادس  : الموت على رصيف الغربة

يعود النديم هادئا مسالما لكن هذا لم يستمر طويلا؛ فقد أصدر مجلة “الأستاذ” التي تحوَّلت، بعد أعداد قليلة، إلى صرخة جديدة في وجه الإنجليز ونفوذ الأجانب في مصر مما يثير غضب القصر والإنجليز  فيقرران نفيه من جديد، وبعد أقل من عام من عودته، يعود مجددا إلى يافا حيث المنفى ومنها إلى إسطنبول بدعوة من السلطان عبد الحميد، وبالرغم من رغد العيش في كنف السلطان، إلا أن النديم يعتصره حنين إلى مصر رغم ما ذاقه من عذابات بها ويحدث الصدام بين النديم ومستشار السلطان عبد الحميد ويدعي “عبد الهادي الصيادي” ويكتب النديم أحد أشهر كتب الهجاء في هذا الرجل.

السلطان عبد الحميد الثاني
السلطان عبد الحميد الثاني

المشهد السابع : الوداع وحيدا

في 10 أكتوبر 1896 رحل النديم مريضا بعيداً عن وطنه، مكتئباً بسبب إجهاض رجال السلطان “عبد الحميد” محاولته للعودة إلى مصر التي قضى عمره مناضلاً من أجل حريتها وتقدمها.

رحل وحيدا بعد أن أكل جسده مرض السل وتأثرت روحه المتقدة بأوجاع الغربة، ولم يتمكن من رؤية أسرته وعجزت هي عن زيارته في المنفى بالرغم من المحاولات المستمرة.. رحل وحيدا بعد أن كانت حياته مليئة بالبشر زاخرة بالمعارك الوطنية، لم يودعه من معارفه سوى شيخ عجوز هو “جمال الدين الأفغاني” حيث كان يقضي عقوبة النفي فى إسطنبول.

رحل تاركاً تراثاً فكرياً وأدبياً ونضالياً عظيما لا يزال يكشف لنا عن دروسه وكنوزه المتجددة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock