كان من أهم النتائج الإيجابية لثورة 1919 هذا الحضور الطاغي للإرادة الشعبية، والذي تجسدت فيها روح الوحدة الوطنية في أعظم وأجل صورها، ووجد الشعب من يلتف حوله ويضع فيه كامل ثقته، ما أسفر عن اعلان استقلال مصر، ووضع الدستور (1923)، وتشكيل أول حكومة نيابية في مصر (وزارة الشعب) سنة 1924، والبدء في بناء الدولة المصرية الحديثة مع استمرار جمرة المطالبة بالاستقلال التام مشتعلة.
وكان لابد أن يعمل الاحتلال (الانجليز) ومعه القصر (الملك فؤاد) من أجل وأد كل تلك النتائج، وخنق أي تأثير إيجابي لها، وجاءت أهم وأخطر ردة على ما جرى في أعقاب الثورة حين تمكن الملك فؤاد من الالتفاف على الحركة الشعبية وألغى دستور 1923، وفرض دستوره الجديد (1930) الذي استعاد به قبضته على الحكم في البلاد، واستغل الانقسام الذي جرى بين القوى الوطنية أفضل استغلال.
الملك فؤاد
بعد أسبوع واحد من إلغاء دستور سنة 1923 وإحلال دستور وزارة صدقي باشا صدر مرسوم ملكي بحل جميع مجالس المديريات، وبدا الأمر وكأن الملك ورئيس الوزراء صدقي باشا يريدان إنشاء نظام سياسي جديد يرسخ لاستمرار الحكم المطلق، وأصدرت الوزارة قانوناً جديداً للانتخابات يلغى قانون الانتخابات المباشرة الصادر سنة 1924، وبدأت المعارضة للنكسة الدستورية من اللحظة الأولى، وكان أول المعترضين هو عدلي يكن باشا، الذي كان يشغل منصب رئيس مجلس الشيوخ، فاستقال من منصبه احتجاجاً على هذه الانتهاكات الدستورية، وقد بلغه ما يحدث وهو خارج البلاد فأرسل الاستقالة بطريق البرق ولم ينتظر عودته إلى مصر، وتتابعت الاحتجاجات مباشرة مع حلول شهر نوفمبر سنة 1930، فقد قرر حزبا الوفد والأحرار الدستوريين مقاطعة الانتخابات التي ستجرى على أساس من الدستور الجديد.
اسماعيل صدقي عدلي يكن
وشهدت تلك الفترة تطوراً ملحوظاً في حجم وأسلوب الاحتجاجات، وكان من أهم مظاهر التطور في الاحتجاجات السياسية انضمام بعض من أمراء الأسرة الملكية إلى هذه الاحتجاجات، وهم تحديداً الأمراء: عمر طوسون، ومحمد على، وعمرو إبراهيم، وسعيد داوود، والنبلاء: محمد على حليم، وإبراهيم حلمي، وكان لافتاً أيضاً اشتراك العُمَد وشيوخ البلد للمرة الأولى في الاحتجاج السياسي، وقدم عدد كبير منهم استقالاتهم للنأي بأنفسهم عن الاشتراك في انتخابات توقعوا أنها ستكون مزورة لإرادة الأمة، فأحالتهم الحكومة إلى لجنة تأديب حكمت عليهم بغرامات فادحة.
وشكل حزبا الوفد والأحرار الدستوريين تحالفاً سياسياً في مارس سنة 1931 وتعاهدوا على الكفاح لإعادة الحياة الدستورية السليمة ودستور سنة 1923، وأصدروا ميثاقا قومياً سمّوه: «عهد الله والوطن»، وقرر الحزبان عقد مؤتمر وطني عام في مايو سنة 1931 ،لكن الحكومة منعته، فأصدروا بياناً يعبر عن آرائهم ومطالبهم التي تتلخص في التمسك بدستور سنة 1923، وعدم الاعتراف بالانتخابات التي كانت حكومة صدقي باشا تعتزم إقامتها، وأن البرلمان الناشئ عنها لا يمثل الأمة، واعتبار الحكومة القائمة لا تعبر عن رأى الأمة، وأعلنوا احتجاجهم على سلوك وزارة صدقي باشا في مصادرة الحريات وتعطيل الصحف وإعاقة الاجتماعات السياسية وباقي الإجراءات المقيدة لحرية الأفراد والجماعات، وقرروا رفع هذه القرارات إلى الملك وإبلاغها للصحف.
مبنى البرلمان
قام إسماعيل صدقي بإنشاء حزب جديد موال للقصر هو حزب الشعب، وخاض به الانتخابات التي قاطعتها الأحزاب الأخرى ما عدا حزب الاتحاد والحزب الوطني، وأجريت الانتخابات في مايو ويونيو سنة 1931، وكانت نسبة المشاركة فيها ضعيفة مقارنة بما سبقها من انتخابات، وقد وُصِمت تلك الانتخابات بالتزوير سواء في نسبة الحضور أو النتائج النهائية، وواكب هذه المقاطعة مظاهرات واضرابات عمالية في القاهرة والإسكندرية وبعض الأقاليم، وحدثت مواجهات بين الشرطة والشعب أسفرت عن عشرات القتلى ومئات الجرحى طبقا للتقارير الحكومية، وإن كان بعض ممن كتبوا عن تلك الأحداث قد ذكر أن الأعداد الحقيقية أكبر مما ذكرته هذه التقارير، واعتقلت الشرطة أعداداً من المواطنين والنواب السابقين، وقدم حزب الوفد عدة بلاغات للنائب العام، معززة بالوثائق، عن الانتهاكات التي حدثت في الانتخابات، ولكن تم حفظ تلك البلاغات ولم يتم التحقيق فيها، بل بادرت السلطات إلى الإنعام على موظفي الإدارة الذين اشتركوا في عملية التزوير بالترقيات والرتب، بعضهم حاز الباشوية وبعضهم حاز البكوية ، كل حسب إسهامه في التزوير، وفاز حزب صدقي في الانتخابات وشكل الوزارة، واستمرت وزارة صدقي باشا في الحكم لمدة حوالي ثلاث سنوات تدهورت فيها الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر بدرجة ملحوظة، وفي النهاية قدم صدقي باشا استقالة حكومته في سبتمبر 1933.
فجّرت دكتاتورية إسماعيل صدقي المظاهرات العارمة في الشوارع، وتعددت حالات تعذيب مواطنين في أقسام الشرطة، وشهد عهده تناميا ملحوظا للعنف السياسي، ففي الفترة من يوليو 1931 وحتى مايو 1933 تم رصد مجموعة من حالات العنف تتلخص في حالتين لمحاولة القتل بإطلاق الرصاص، وتسع حالات تفجيرات، وقد اختص صدقي باشا من تلك المحاولات حالة إطلاق رصاص وحالتين للمتفجرات إحداهما في حديقة منزله، والأخرى زرعت على قضبان السكة الحديد في محاولة تفجير قطار كان يستقله صدقي باشا، كما شهدت تلك الفترة هزة اقتصادية كبيرة تعرض لها الاقتصاد المصري من جراء أزمة الكساد العالمي في نهاية عام 1929، وانتشر فيها الفساد المالي والإداري في الأوساط الحكومية.
ولم يكن حال البرلمان أفضل من أحوال الوزارة، فبقي على تأييده للسلطة في كل ما تقوم به، وتمت في عهده الموافقة على تمرير جريمة التوقيع على اتفاقية التنازل عن واحة جغبوب لسلطات الاحتلال الايطالي في ليبيا في ديسمبر 1925، وكانت وزارة زيوار باشا قد وقعت على وثيقة التنازل، وامتنع أي من البرلمانات، خلال السنوات التالية، عن التصديق على تلك الوثيقة، فجاء البرلمان المزور ليوقع عليها، كان أهم أعمال المجلس المزور في الداخل إجراء تعديلات في أحكام قانون العقوبات بغرض تشديد العقوبة على جرائم النشر.
الملك فؤاد يرأس جلسة مجلس النواب
وفي النهاية استقال صدقي باشا بعدما أستنفد دوره، وأحرقت ورقته، فرأي التضحية به تحت الضغط الشعبي العارم الرافض لسياسته والمطالب برحيله. وفي سبتمبر سنة 1933 وفي أثناء تواجده خارج البلاد كلف الملك فؤاد عبد الفتاح يحيى باشا بتشكيل الوزارة، فعاد إلى مصر، فوجد السراي الملكي قد قام نيابة عنه بتشكل الوزارة، وقبل يحيى باشا بالأمر، فبقيت وزارته مطية للقصر الملكي، ولم تعمر الوزارة طويلاً وقدم عبد الفتاح يحيى باشا استقالته في نوفمبر سنة 1934، في الذكرى السنوية الأولى، لتشكيل وزارته.
وأصر الإنجليز علي تولية محمد توفيق نسيم الوفدي الوزارة لضبط الأمور، وإعادة الهدوء إلى الشارع الوطني، فعهد اليه الملك فؤاد تأليف الوزارة الجديدة، فألفها في منتصف نوفمبر سنة 1934، وصدر أمر ملكي في 30 نوفمبر بإلغاء الدستور، وحل مجلسي البرلمان، ولكن الأمر الملكي لم يتضمن أي إشارة للعودة إلى دستور سنة 1923، وهو المطلب الشعبي الأهم في تلك المرحلة، الأمر الذي لم يغب عن فطنة الحركة الوطنية المصرية التي بادرت إلى التحرك من أجل إعادة العمل بدستور الشعب، وعلي مدار يومي التاسع والعاشر من شهر يناير سنة 1935 انعقد المؤتمر العام الأول للوفد المصري الذي دعي إليه في أواخر سنة 1934، وبلغ عدد الحاضرين نحو خمسة وعشرين ألف شخص، وهو عدد بمقاييس تلك الأيام يعد كبيراً جداً، وعُرِضَ في هذا المؤتمر كثير من الأبحاث والدراسات في مختلف المجالات والتي تعتبر بمثابة برنامج عمل كامل لأي حكومة مقبلة للوفد.
توفيق نسيم
وقفز موضوع عودة العمل بدستور سنة 1923 ليصبح هو المطلب الرئيسي للأمة، ورفع توفيق نسيم كتاباً إلى الملك فؤاد تضمن اقتراحاته لعودة الحياة الدستورية بإحدى وسيلتين: إما عودة دستور سنة 1923 كما هو، وإذا تطلبت الحاجة إلى تعديله يتبع في ذلك الطريقة المنصوص عليها فيه، وإما أن تدعى جمعية وطنية لوضع دستور ترضاه البلاد، وقبل الملك الوسيلة الأولى، وهي عودة دستور 23، وقد رد الملك على هذا الخطاب بتأييده لعودة الدستور كما هو إلا إذا رأت الأمة خلاف ذلك.
وعلم رئيس الوزراء توفيق نسيم من المندوب السامي أن الحكومة البريطانية لا تمانع في عودة الحياة النيابية، ولكنها ترى أن تشكل لجنة حكومية لوضع دستور جديد، وأدلى وزير الخارجية البريطاني ببيان تناول فيه الحديث عن الدستور المصري، وكان هذا البيان بمثابة إشارة بدء اندلاع المظاهرات التي عمت أنحاء مختلفة من البلاد راح ضحيتها عدد من خيرة طلاب الجامعة بعد أن قام البوليس بإطلاق النار على المتظاهرين، ما أدى إلى تصاعد وتيرة الاحتجاجات، ويجمع المؤرخون على أن هذه الثورة الدستورية شارك فيها الفلاحون والعمد والمشايخ والنساء، ويكفي أن هناك سبع نساء قتلن في المظاهرات من 1930 ـ .1935.
مظاهرات الطلبة وتجمعهم حول سيارة رئيس الوزراء محمد توفيق نسيم للمطالبة بالغاء دستور 1930 والعمل بدستور 1923
ويسمى المؤرخون كفاح الشعب المصري من أجل الدستور من 1930 وحتى 1935 بالثورة الثانية المنسية، على أن الثورة الأولى كانت ثورة 1919 وترى مؤرخة روسية هي “برافولفا يوفجينا أنتينوفنا ” في كتابها الذى يحمل اسم (الثورة المصرية المنسية) دار التقدم الطبعة الروسية ص 94 موسكو 1968 ـ أن ثورة 1930 ـ 1935 هي الثورة الأولى في العالم التي تستمر خمس سنوات من أجل عودة دستور البلاد، وشارك في هذه الثورة كل طبقات المجتمع، ودفعت من الدماء والتضحيات حوالى خمسة آلاف بين قتيل وجريح ومعتقل، وتستطرد برافولفا قائلة: “وعُطلت عشرات الصحف وفى مقدمتها روزاليوسف مما اضطر السيدة فاطمة اليوسف إلى إصدار «الصرخة»، كما عُطلت صحف أخرى مثل «البلاغ» و«كوكب الشرق» و«اليوم» و«صدى الشرق» و«السياسة»، وحوكم وحبس 22 صحفياً. ومن هؤلاء المفكر محمد حسين هيكل، وانضم هيكل وحزبه للجبهة الوطنية جنباً إلى جنب مع الوفد حتى سقوط دستور 1930 وعودة دستور 1923».
محمد حسين هيكل
توحدت إرادة الأحزاب، واجتمع قادتها وشكلوا ائتلافاً سياسياً بغرض الدعوة إلى إعادة الحياة الدستورية كهدف أول للائتلاف، وهو هدف أجمع عليه كل قادة الأحزاب، أما الهدف الثاني فكان العمل على عقد معاهدة بين مصر وبريطانيا طبقاً لنصوص المشروع الذي انتهت إليه مفاوضات النحاس ـ هندرسون سنة 1930، واعترض الحزب الوطني على هذا الأمر وبقي في الائتلاف مع تحفظه على الأمر الثاني.
وتألفت «الجبهة الوطنية» في ديسمبر سنة 1935، من أحزاب: الوفد المصري، والأحرار الدستوريين، والشعب، والاتحاد، والوطني، وبعض المستقلين، وشكلت الجبهة لجنة لوضع صيغة لخطابين، الأول للملك فؤاد بخصوص عودة الحياة الدستورية، وقد وقع عليه رؤساء جميع أحزاب الجبهة الوطنية، وكان من بين الموقعين رئيس حزب الشعب إسماعيل صدقي باشا صاحب أسوأ الدساتير في تاريخ الحياة السياسية المصرية، إضافة إلى ممثل عن المستقلين، أما الخطاب الثاني فكان للمندوب السامي البريطاني بخصوص موضوع المعاهدة المصرية البريطانية، وقد وقع عليه جميع الموقعين على الخطاب الأول باستثناء رئيس الحزب الوطني.
واضطر الملك فؤاد تحت ضغط الحركة الشعبية الجارفة إلى الاستجابة لطلب الجبهة الوطنية وأصدر أمراً ملكياً في نفس اليوم 12 ديسمبر سنة 1935 بعودة العمل بدستور سنة 1923. وبدأت وزارة نسيم باشا في الإعداد لإجراء الانتخابات العامة وذلك بإصدار قانون جديد للانتخابات بالطريقة المباشرة مبنياً على قانون سنة 1924 الذي أقره البرلمان ذو الأغلبية الوفدية الأول، وتعالت أصوات أحزاب الأحرار الدستوريين والشعب والاتحاد، بالتشكيك في حيادية وزارة نسيم باشا مما اضطره إلى تقديم استقالته في 22 يناير سنة 1936، فقبلها الملك وتشكلت وزارة حيادية غير حزبية برئاسة على ماهر باشا.
افتتاح أول برلمان مصري بحضور الملك فؤاد وسعد زغلول باشا
وفي نهاية مارس سنة 1936 صدر مرسوم يحدد يوم 2 مايو لانتخابات مجلس النواب ،ويوم 16 مايو لانتخابات مجلس الشيوخ، ولكن صحة الملك فؤاد كانت قد تدهورت على مدار السنتين الأخيرتين، وقد ظل خلالهما تحت العلاج والملاحظة الطبية المستمرة، حتى اشتد عليه المرض، وما لبث أن توفي ظهر الثلاثاء 28 ابريل سنة 1936، ليسدل الستار على فترة من أصعب فترات حياة المصريين معاناة، ووصل خلالها العبث بقضية الدستور إلى حدود لم تصلها من قبل، وكان هو من وضع حجر الأساس لكيفية التلاعب بدستور البلاد، وكان سباقا في هذا المجال.