القلب الخفي
ما سأذكره اليوم لن تقرأه فى أى مرجع طبي، ولا علمي، حتى أنت عندما تقرأه الآن حاول أن تنساه، بل لابد، لن يذكره أحد لك أبدا سواي، حتى وإن ذكره ستتهمه بالجنون حتما، ولولا أنني كنت جزء ا من أحداثه ما صدقت ذلك أبدا.
أنا طبيب شاب، في مقتبل العمر، مر على تخرجي سنوات قليلة ،لكنني اكتسبت فيها خبرة كبيرة، كنت أهوى الطب، والعلم، أهوى أمراض القلب، وخدمة الآخرين، ومع حماسي وطاقتي قررت أن أذهب إلى مستشفى نائية، أخدم أهل قريتها المحرومين من الخدمات والاهتمام، كانت ليلة شتاء باردة، أشعلت المدفأة كما أفعل كل مرة، لكن هذه المرة كانت مختلفة، كانت النيران باردة، أو هكذا خُيل إلي، بدلا من أن تبعث الدفء في جسدي، كانت تبعث فيه القشعريرة في جسدي عقلي.
في الخارج كانت تمطر، أصوات الرعد تصطك باذني، لا أدري كيف تكتشف الطبيعة أن شيئا مرعبا سيحدث، لما يضرب البرق ويزأر الرعد كلما خرجت الأمور عن المألوف؟ ، لم أشغل بالي كثيرا، حاولت التجاهل بقراءة كتاب، ففي تلك الليالي لا يوجد مرضى، لا أحد يجرؤ على الخروج من بيته. فجأة، قطع الصمت صوت دقات سحيقة تأتى من الباب، كأنها تأتى من عالم بعيد، انتفضت، لكنني ابتسمت وسخرت من سذاجتي، لعله مريض يبعد ملل هذه الليلة الطويلة، هذا ما قلته لنفسي استجمعت شجاعتي وذهبت لأفتح الباب، فعلا صدق ظني، كان شخص بالباب، كانت ملامحه غير واضحة، لكنه كان طويلا ونحيلا بشكل ملحوظ، حياني بصوت عميق كأنه آت من داخل قبر، ومد يده بالسلام، مددت يدي و لم أكد ألمسه حتى سحبت يدي بعنف، كانت يداه ببرودة الثلج، بل هي الثلج ذاته، لم يبد عليه الاهتمام، وعزيت برودتها للشتاء والطقس بالخارج، خطا خطوات بطيئة وثقيلة للداخل.
الآن أراه، شاحب الوجه كأن الدم كله قد فر منه، عيونه مائلة للاحمرار، وشفتاه بلون الموج الأزرق، لابد أن لديه مرضا ما بالقلب والأوعية الدموية، هذا ما طمأنت به نفسى مؤقتا، دعوته للجلوس على الكرسي المجاور للمدفأة، لم يكد يعبر بجوار المدفأة حتى حدث شىء غريب أثار الرعب أكثر فى قلبي، تأججت النار بشكل مخيف، ومع ذلك زادت برودتها و قسوتها، ابتلعت ريقى وسألته عما به، أجابنى بأنه لا يشعر بأنه على مايرام، بل أنه لا يشعر الآن إطلاقا، تجاوزت عبارته الأخيرة بشيء من السهولة كأنها دعابة، ودعوته للفحص على السرير الطبي، أخذت أسأله اسئلة عديدة عن حالته ومتى بدأت وهل كانت المرة الأولى أم تكررت، و كان الجواب لا أذكر، حاولت أن أطمئن نفسي بأن أبدأ فى فحصه متجاوزا عن إجابته الغريبة، امتدت يدى ببطء لقياس نبضه، و نظرت إلى ساعتي، نزل العرق البارد على جبينى، عقرب ساعتى يرتعش، نعم، أنا لا أحلم أو أتوهم، إنه ينتقل من ثانية إلى أخرى وهو مذعور يرتعش، والأغرب أن ذلك الشخص كانت نبضاته واضحة ولكن غير منتظمة، نبضات عادية، ونبضات أطول من أخرى و فترات صمت متغيرة.
هذا ليس اللغط الذي نعرفه جميعا كأطباء قلب، ذلك النبض أشبه بلحن لا يتكرر، كنت متأكدا أني سمعت مثله من قبل ولكن أين، لا أتذكر، قررت أن أضع السماعة على قلبه مباشرة، لأستمع للأصوات الصادرة عن صمامات قلبه، ذُهلت، لم أسمع شيئا قط، مستحيل، صمت أشبه بصمت القبور فى ظلمة موحشة، رفعت السماعة بحركة عنيفة، أعدتها مرة أخرى، صمت تام، قررت أن أضعها على صدرى لاتأكد منها، نعم أصواتى القلبية واضحة تماما، ماذا يحدث، تطلعت إليه بخوف وحذر وغيرت موضع السماعة قليلا لأسمع صوت صمامه الأذيني، لا شيء أيضا، تجمدت مشاعرى وأنا أنظر إليه، كانت نظرته خاوية وباردة، كنت مذعورا إلى الحد الذي جعلني أنتفض حين ارتفعت طرقات الباب مرة أخرى.
هرعت إلى الباب لأجد غفير المركز يطلب مني أن اذهب معه لأرى سليمان قريبه .. إنه مريض جدا وعلى فراش الموت، التفتٌّ ورائي ليحدث أغرب شىء من الممكن أن يحدث، اختفى الزائر الغريب تماما، وعاد كل شىء إلى طبيعته، أخذت أبحث كالمجنون والغفير يتابعنى بنظراته، حتى اتهمت نفسي بالخيال الواسع والوهم الكبير، قررت الذهاب مع الغفير إلى بيت سليمان، لم أكد أدخل حتى تراجعت للخلف فى حركة حادة، كان سليمان قد فارق الروح وحولة أقاربه يبكون وينوحون. لم يكن ذلك ما أرعبنى لكن لأن ذلك النائم على السرير والمتوفي من نصف ساعة تقريبا كان نفس الشخص الذي زارني منذ نصف ساعة والأدهى أنني تذكرت لحن نبضات قلبه، كان يشبه نبضات موريس المستخدمة قديما فى التلغراف، و إلى الآن لم أتذكر ماذا كانت تقول، ولا كيف ينبض قلب وهو ليس موجودا أصلا، و لما زارني وهو متوف فى مكان آخر.