على الرغم من مرارة الدروس والخبرات التي عاناها المصريون منذ ثورتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 وما تلاهما، فإن الفضيلة الكبرى لهاتين الثورتين أنهما دفعتا المصريين لفتح كافة الملفات الأساسية في حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية بشكل أكثر جدية؛ بحيث أصبحوا مجبرين- ربما لأول مرة منذ زمن- على تحديد خياراتهم الأساسية بشكل أكثر حسما ووضوحا مقارنة بأي فترة سابقة في تاريخهم.
في هذا الإطار كان أحد أهم هذه الأسئلة الصعبة التي طرحت على المصريين، مكانة الدين ودوره في الحياة العامة الاجتماعية والسياسية، وفي القلب من هذا الملف كانت قضية إصلاح الأزهر حاضرة وبقوة.
كيف وصلنا للمأزق الراهن؟
في عام 1961 وفي مناخ ثوري سمح بظهور نماذج لمفكرين إسلاميين أكثر انفتاحا على العصر ومشكلات الواقع الاجتماعي – ولو نسبيا – أصدر الرئيس جمال عبد الناصر القانون (103) المعروف بقانون إعادة تنظيم الأزهر، وهو القانون الذي طرحته النخبة الحاكمة وقتها باعتباره الخطوة الأولى على طريق إصلاح الأزهر. كانت الفكرة الأساسية تتمثل في محاولة إلغاء حالة القطيعة الفكرية التي كانت – ولاتزال – قائمة بين ثقافتين متناقضتين لا يمكن التفاعل بينهما؛ ثقافة العصر وثقافة العودة للتراث «الإسلامي حصرا».
يشير تاريخ الفكر والسياسة لمصر والعالم العربي في هذه المرحلة إلى وجود اتجاه قوي لضرب محاولة التحديث القومي في مصر سياسيا وعسكريا والأهم فكريا؛ ففي نفس وقت صدور قانون إصلاح الأزهر كان ثمة مركز ثقافي – سياسي اقليمي منافس ومعادي للحداثة يجري دعمه أمريكيا بوضوح للإعداد لشرعية ثقافية وسياسية بديلة لتكون جاهزة بعد ضرب التجربة المصرية عسكريا في يونيو 1967.
الشيخ محمود شلتوت وعبدالناصر
مثّلت الهزيمة بالفعل نقطة تاريخية فاصلة بين حالة التفاؤل المجتمعي لبناء مجتمع عصري ومستقل على أساس من العلم والعدالة، وبين حالة الاحباط القومي وفقدان الثقة في النفس وفي العصر وفي العلم، وهى الحالة التي أنتجت ميلاً جرى تشجيعه للتعامل مع الدين كملجأ نفسي لا كمنظومة إيمانية كرّمت الانسان والعقل ودعت للعدالة بين معتنقيها وللاعتراف بالآخر الديني والمذهبي.
مع نهاية سنوات الستينيات كان قد تم انهاك المحاولة النهضوية المصرية ذات الأفق العربي اقتصاديا وعسكريا، ومع الوقت وبشكل تدريجي غير محسوس، تبدّلت الصورة وتبدّلت الأدوار، فكما تغيرت صورة المعلم والمهندس والطبيب المصري «كحاملين لرسالة التحديث» في ممالك الخليج العربية الشقيقة، تغيرت صورة العالم الأزهري في تلك المجتمعات من حامل لمشعل العلم الديني الوسطي لأكبر مؤسسات العلم الديني في العالم الإسلامي السني، الداعم لرسالة التقدم والأخذ بأسباب العلم، إلى «صورة اللاجئ لتحصيل الأموال»، ومع تفاقم أزمة مصر الاقتصادية تراخت قدرة الدولة التي كانت توفر للأزهر وعلمائه الحد الدنى من الاستقلال الاقتصادي اللازم لضمان استقلال اجتهاداتهم وفتاويهم، وتم السماح بشكل تدريجي بحالة جديدة من النفوذ الوهابي على الأزهر وسياساته والأهم على مناهج تفكيره ومصادره التراثية التي بدأ يغلب عليها الطابع السلفي شيئا فشيئا؛ فالمصادر الجديدة ومناهج التدريس الجديدة أصبحت هي شرط الحصول على الدعم السعودي للمؤسسة وعلى التبرعات لإنشاء المزيد من المعاهد الأزهرية للفتيان والفتيات خاصة في قرى بحري وقبلي، كما أصبحت الشرط اللازم لانفتاح طاقة القدر «النفطية» بتحقق حلم الابتعاث للتدريس في المملكة ومحيطها، أو الالتحاق بأحد مؤسساتها التي نشطت «لنشر الدعوة» و«مواجهة التبشير» في أنحاء العالم، وهو الوضع الذي لا يزال قائما حتى اليوم، وهو ما يعني أن استقلال الأزهر لا ينحصر فقط في علاقة المؤسسة بالسلطة الحاكمة في مصر، بل إن له امتدادات إقليمية لا تقل تأثيراً.
مرحلة ما بعد ثورة يناير 2011
خلال ثورة يناير وإلى جانب الإيمان بالنهج «الديموقراطي الحديث» الذي طبع حالة الاحتجاج الشبابي، نجح تيار ينسب نفسه للإسلام في الفوز بتأييد غالبية المصريين في كافة الانتخابات التي تلت هذه الثورة. كانت العبارة الأكثر رواجا في لغة السياسة اليومية للمصريين وقتها: «لنجرب الإسلاميين». في ذلك الوقت ثار جدل فكري مهم بين أطراف النخبة حول المؤسسة الدينية الرئيسية في البلاد، الأزهر، وكانت الأسئلة المطروحة من قبيل: هل يتوافق الأزهر – بذهنيته ومناهجه وامتداداته الوهابية المعروفة – مع مناخ التغيير الجديد؟ هل يحتاج إلى ثورة إصلاح ديني داخله قبل أن يكون قادرا على الإسهام في التغيير المنشود؟ هل يمثل استقلاله عن الدولة – مثله مثل كافة مؤسسات المجتمع- نقطة البدء الضرورية؟
في هذا المناخ تمت استعادة تلك النظرة للتعليم العام باعتباره الأداة الأساسية المنوط بها بناء أسس الثقافة الوطنية المدنية التي يتشارك فيها كل المواطنين دون استثناء أيا انتماءاتهم، حيث تلعب منظومة قيم الحرية والتعدية وقبول الآخر دورها المهم في عدم تحول »الثقافة الوطنية» لنوع من فرض الهيمنة الثقافية للأغلبية. أما حالة تعدد نظم التعليم الأساسية التي تفاقمت في مصر في العقود الأخيرة (عام وأزهري ودولي) فقد كانت ولاتزال بيئة مواتية لإعادة انتاج حالة الانقسام الثقافي والمجتمعي لا نظير لها. في الفترة ذاتها وفي أعقاب وصول الإخوان للسلطة تغيرت الأسئلة لتصبح: لماذا بادر الرئيس الإخواني للسعى لهيمنة جماعته المحافظة على مؤسسة الأزهر؟ لماذا يتمسك بذات السلوك السياسي لأى سلطة تسعى للهيمنة على كافة مؤسسات المجتمع؟
مرحلة ما بعد ثورة 30 يونيو 2013
تعرضت مؤسسة الأزهر خلال هذه المرحلة لضغوط مجتمعية ودولتية لإصلاح البيت من الداخل. والحق أن الأزهر أقدم بالفعل على تعديلات لبعض المناهج الدراسية في التعليم ما قبل الجامعي واستثنى المرحلة الجامعية من التطوير. ويلاحظ أن بيانات وتصريحات علماء الأزهر الذين قادوا عملية التطوير سيطرت عليها حالة من الارتباك، فهنالك من ذكر أن تعديل المناهج اقتصر على المرحلة الإعدادية، بينما صرح آخرون بأن التعديل شمل المرحلتين الإعدادية والثانوية، قبل أن يعلن الدكتور محمد أبو زيد الأمير، رئيس قطاع المعاهد الأزهرية أن مناهج وكتب الأزهر لم تتغير ولن يستطيع أحد المساس بها، وهو تصريح يتناقض مع ما أعلنته لجنة التطوير من انها أتمت تنقية مادة «الفقه الشافعي» بإلغاء الأبواب التي تتناول موضوعات بعينها كالرق والعبودية…إلخ. كذلك تضمنت التعديلات ترحيل الموضوعات الخاصة بالجهاد من المرحلة الإعدادية إلى المرحلة الثانوية. في المقابل، أضيفت معالجات لقضايا معاصرة مثل الإرهاب والإلحاد، وحُدّثت مفاهيم الدولة، والمواطنة، ونظم الحكم، والجهاد. وأكدت اللجنة أنها حرصت على تبسيط مناهج المرحلة الإعدادية وشرح المتون والعبارات التراثية بأسلوب سهل مع الحفاظ على المحتوى الأصلي.
إذن بدت محاولات مؤسسة الأزهر للإصلاح الجوهري من الداخل مترددة، أو لنقل إنها لم تصل للمدى الذي كان يطمح إليه قطاع من المصريين وكذلك الدولة، والأهم أنه بدا عاجزا عن مواجهة نفوذ السلفيين والإخوان، سواء في الجامعة أو المعاهد الأزهرية بسبب المشكلات التي تراكمت عبر عقود. ناهيك علي أنه لم يستطع حتي تحقيق تقدم جوهري في تطوير المناهج حتى الآن.
الدولة تدخل على الخط
في مرحلة ما بعد 30 يونيو 2013 ومع تصاعد موجة الإرهاب الأخيرة إلى مستويات غير مسبوقة كما ونوعا تحولت مسألة إصلاح الأزهر من قضية تتعلق بالنهضة المصرية وأحد أضلاع التغيير المنشود للبلاد إلى سؤال سياسي وأمني بامتياز، بل إنه أصبح الهاجس الرئيسي الكامن وراء توجه الدولة للهيمنة على الأزهر والأوقاف والحرص على توجيه شبكة منابرهم ودعاتهم، كما أن الافتراض النظري القديم بأن تعليم الأزهر ومناهجه وفكر دعاته المتشدد هو القاعدة الفكرية للتطرف والإرهاب، هذا الافتراض تحول خلال السنوات الأخيرة إلى قناعة عميقة لدى جزء من المجتمع والنخبة المصريين ولدى العديد من مؤسسات الدولة، بينما انبرى علماء الأزهر لتفنيد هذا الافتراض بدلا من تأمل بعض جوانب الخلل الحقيقية سواء في بنية المؤسسة أو في خطابها الديني.
وعندما تم انشاء المجلس القومي لمكافحة التطرّف والإرهاب قبل فترة أعلن أن الهدف منه هو وضع استراتيجية شاملة للمواجهة تضمنت النص على “«التنسيق مع المؤسسات الدينية والأجهزة الأمنية لتمكين الخطاب الديني الوسطي المعتدل ونشر مفاهيم الدين الصحيح بالمجتمع في مواجهة خطاب التشدد بكافة صوره»، وإضافة لنهج حشد كافة طاقات وخبرات المجتمع ضمن استراتيجية شاملة منسقة موحدة، بدا أن الدولة قد حسمت أخيرا قناعتها بأن مواجهة تيارات التشدد والتطرف والعنف يتطلب بالضرورة نوعاً من الإصلاح للمؤسسة الدينية الأكبر، الأزهر، وبطبيعة الحال وزارة الأوقاف ايضاً. لكن يبدو أن هذه القناعة بالإصلاح قد اختزلت لدي مشرعين في البرلمان على هدف وحيد هو تحقيق المزيد من هيمنة الدولة على الأزهر وذلك من خلال محاولة إعادة صياغة القانون المنظم لعمل الأزهر وإعادة هيكلة تركيبته الراهنة. وعلى العكس من مسار إعادة هيكلة مؤسسة القضاء بقرارات رئاسية، فضلت الدولة مسار تعديل قانون الأزهر عبر البرلمان، دون إدراك من المشرعين البرلمانيين لخطورة إفقاد الأزهر وعلمائه لاستقلالهم حتى يكونوا قادرين بالفعل على مواجهة افكار التشدد والتطرف والعنف، وحتى لا يفقدوا مصداقيتهم امام الجمهور ، وأن الأفضل دعمهم ووضع إمكانات الدولة والمجتمع تحت تصرفهم لإنجاز المهمة بالطريقة التي يرونها وتشجيعهم للعمل على تطوير المناهج بجدية وإن بشكل تدريجي.
لهذا تكن مهمة تعديل بعض مواد قانون تنظيم الأزهر سهلة كما توقع البعض، إذ فشل النائبان محمد أبو حامد والدكتور عمر حمروش، المرة تلو الأخرى خلال الدورة البرلمانية السابقة، في الحصول على دعم وتأييد أعضاء مجلس النواب لمشروعهما( المثير للجدل)، لدرجة أن المحاولة مرت دون أن يشعر بها المجتمع.
صمود الأزهر
وإضافة الي الاعوجاج التشريعي يلاحظ هنا أن الأزهر قد حقق نجاحاً أكبر – بالمقارنة مع السلطة القضائية – في مقاومة هذه التغييرات، فعلى الرغم من أن القضاء مؤسسة نافذة، إلا أن التأثير الثقافي والامتداد الاجتماعي للأزهر أوسع نطاقاً بأشواط بما يمتلكه من سلطة معنوية ورمزية علي المصريين وبما يمتلكه من الاف المدارس في مختلف أنحاء البلاد إضافة الخريجين الأزهريين الموزَّعين في كافة مؤسسات الدولة، إلى جانب دعم الشبكات الصوفية، وكذلك قطاع كبير ممَن هم خارج الفلك المباشر للمؤسسة الذين ينظرون إليها باعتبارها رمزاً دينيا ووطنياً في ذات الوقت، ما يرسّخ النظرة القومية إلى قيادة مصر للمسلمين السنّة. وهكذا أطلق الاقتراح التشريعي لتعديل قانون الأزهر ما يمكن اعتباره حملة ضغوط (معنوية) مناوئة لهذا الاقتراح، في حين أدت علاقات الأزهر القوية مع النواب وأهميته الاستراتيجية لمصر، إلى رد فعل رافض من غالبية أعضاء مجلس النواب، وهو ما أدّى فعلياً إلى سقوط مشروع القانون قبل مناقشته. وقد سلّط رد فعل مجلس النواب الضوء على وجود رأس مال اجتماعي كبير للأزهر كمؤسسة لدى قطاع واسع من المصريين ، ومن البرلمانيين، خاصةً القادمين من بيئات ثقافية تقليدية .