تقديم:
تتجلى خطورة الدراسة التي يتصدى لها كاتب المقال، ليس فقط في أنها تتهم الشاعر الراحل محمود درويش في عقيدته وأخلاقه وحتى وطنيته، بل لأنها نتاج مؤسسة أكاديمية يفترض في دراساتها الانتصار لمعايير البحث العلمي الموضوعي. فهي ليست مجرد وجهة نظر أو رأي لكاتب أو صحفي، إذ أن معد هذه الدراسة، الذي كال على مدى صفحاتها، كل صنوف الاتهامات الخطيرة لدرويش، هو استاذ بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بالجامعة الإسلامية في غزة. كما أنها منشورة في مجلة الجامعة ضمن «سلسلة الدراسات الإنسانية لمادة اللغة العربية» والتي يفترض أنها مجلة علمية محكمة تتحرى المعايير العلمية الرصينة. وهنا تتضح خطورة استغلال العمل البحثي والأكاديمي لملاحقة المبدعين وتصفية الحسابات معهم. إذ كيف يمكن تقييم الشاعر وأشعاره من منظور ديني بحت وبتناول سطحي كما ذهب الباحث؟.. أما الدلالة الأخرى لهذه الدراسة فهي أنها صادرة عن جامعة فلسطينية بهدف اغتيال صورة وشخصية شاعر فلسطين الأول. كما أنها لا يمكن تجاوز حقيقة أن هذه الجامعة تقع في غزة، حيث تسيطر حركة حماس على القطاع منذ سنوات، وتشرف على كل ما فيه، بما في ذلك جامعاته، وهو ما يطرح تساؤلا حول ما إذا كان حكم حماس للقطاع، قد أنعكس بصورة ما على أجواء العمل الاكاديمي وتوجهاته في غزة؟
“أصوات أونلاين”
طوال مسيرته الإبداعية، لم يسلم الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش «1941- 2008»، الذي تحل ذكرى عيد ميلاده الثامنة والسبعون هذا الشهر، من النقد والنقض، من الهجوم والتهجم، من الخلاف والاختلاف معه، من الرمي بالخيانة وحتى التكفير، داخل وخارج فلسطين. لكن الجديد هذه المرة هو خروج جامعة فلسطينية برسالة عملية تكّفر شاعر فلسطين الأول.
واجه الشاعر الكبير محمود درويش، الذي ولد في منطقة الجليل، شمال فلسطين المحتلة، على مدى حياته ورحلته الشعرية والسياسية، تهمًا عدّة، وكان كل اتهام أغرب من سابقه. فمنهم من رماه بالخيانة، ومنهم من زعم بـ«سطو» صاحب الجدارية وانتحاله قصائد لشعراء آخرين، بل ذهب البعض أبعد من ذلك حين أشاروا إلى تورطه في التخطيط لاغتيال رسام فلسطين الأشهر “ناجي العلي”، الأمر الذي نفته لنا أسرة «العلي» على لسان خالد العلي، نجل رسام الكاريكاتير.
ناجي العلي
كما لم ينج درويش بالطبع من تهم بالتكفير وازدراء الأديان، لعل أبرزها حين كتب «أنا يوسف يا أبي» وغناها الموسيقي اللبناني مارسيل خليفة.
لم تتوقف الاتهامات التي لاحقت درويش حيا، حتى بعد وفاته في أغسطس 2008، بل تواصل سيل هذه الاتهامات التي تطعن الرجل في دينه وتعتبر الشيوعية تهمة دينية، تستوجب محاكمة صاحبها. وفي مارس 2014، قررت إدارة معرض الرياض الدولي للكتاب، منع مشاركة المجموعة الكاملة لدواوين درويش البالغة 33 ديوانًا داخل أروقة المعرض، بعد اعتراض جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على بعض قصائد درويش التي رأوها «تعديًا على الله ورسوله»، ووصفها بعضهم بـ«الكفر والزندقة». وقطعًا عرجوا على حياة الشاعر المليئة بمنعطفات كبرى من الجليل إلى بيروت ثم باريس والعودة لرام الله، واصفين إياه بـ«عضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي» ومعتبرين حبه لفتاة يهودية أسماها في قصائده «ريتا» «عارًا وعيبًا».
إذن لم تكن تهمة تكفير محمود درويش بالأمر الجديد، لكن ما يدعو للتوقف هنا هو أن التكفير في المرات السابقة خرج من جهات «شعبوية» مرة أو «أصولية» مرات، لكنه جاء هذه المرة من جهة أكاديمية فلسطينية، ومن أكاديمي فلسطيني، وفي ورقة تتزين بالدراسة، وتتحصن برفع لافتات البحث النقدي، ما يكسب التكفير «قناعًا علميًا».
دراسة جامعية فلسطينية تتهم درويش بالكفر
في العدد الأول من المجلد التاسع عشر، من مجلة الجامعة الإسلامية في غزة «سلسلة الدراسات الإنسانية»، نشر الباحث “يوسف شحدة الكحلوت”، الأستاذ بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بالجامعة، دراسة من 45 صفحة من قطع المجلة تحت عنوان «الانحراف العقدي والأخلاقي في شعر الشاعر الفلسطيني محمود درويش، من خلال دواوينه الأول والثاني وديوان الأعمال الجديدة» على حد قول الباحث.
يوسف شحدة الكحلوت
الحقيقة، وقبل التوقف أمام بعض «الخرافات» الواردة في ثنايا هذه الورقة، ينبغي التأكيد على أنها تبدو كوثيقة للتكفير، أكثر من كونها دراسة تدعي المنهجية والموضوعية. وربما لا تستحق حتى عناء الالتفات إليها، لكن كونها ورقة علمية نُشرت في مجلة علمية محكمة، ما يعني اكتسابها نوعًا من السلطة المعرفية، ومؤشرًا معبرًا عن تيار داخل أعضاء هيئة التدريس في الجامعة الكائنة بقطاع غزة فإنها بالطبع كان لابد أن تلفت النظر وتستوجب التوقف عندها
ووفقا للمثل الشعبي القائل «الجواب يبان من عنوانه»، فإن عنوان الدراسة «جوانب الانحراف العقدي والأخلاقي في شعر محمود درويش» جاء شديد الفجاجة في الانحياز المناهض للبحث ومنهجيته، وشديد الخصومة مع الهدف العام للدرس النقدي. فمنذ اللحظة الأولى- كقارئ -عليك الاستعداد للكشف الخطير الذي توصل اليه هذا الباحث ألا وهو «فساد عقيدة درويش وأخلاقه».
ورقة من الدراسة
يُقسم «الكحلوت» حكمه المبني على التفتيش في النيات، والمترصد والمجافي لطبيعة اللغة عامة واللغة الأدبية على نحو خاص، كما سنوضح فيما بعد، إلى محاور أو أقسام خمسة، بالأحرى لوائح اتهام وأحكام قطعية. وتتمثل هذه اللوائح الخمس في «انحرافات متعلقة بالربوبية» و«انحرافات متعلقة بالألوهية» و«انحرافات متعلقة بالأنبياء والكتب المنزلة والغيبيات والمقدسات» و«انحرافات متأثرة بالوثنيات والرموز النصرانية» و«انحرافات متعلقة بالأخلاق والسلوك الاجتماعى».
الجهل بالشعر
ويبدأ «مكفراتي شاعر فلسطين» دراسته التي يجهل فيها كيفية قراءة الشعر، بالنزوع المباشر نحو الإقرار بأن «تبنى الشاعر محمود درويش الفكر الشيوعي، منذ نعومة أظفاره كان له الأثر الكبير في انحرافه في مجال الربوبية، وظهر عدم إقراره بأن الله جل وعلا الخالق، فنسب الخلق لغيره -عز وجل-، كذلك الإحياء والإماتة والتدبير والتغيير وغيرها من الأفعال التي لا تنسب إلا الله».
المجاز هو قدر اللغة في مستوياتها كافة، وحتى ما كان يعرف بالمستوى الحقيقي في مبحث منطق اللغة، تبين من خلال تطور الدراسات اللسانية واللغوية أنه لا فكاك من وجود المجاز والمستويات الاستعارية باللغة فيه، جملا ومفردات وتراكيب. لكن هذا الباحث الجاهل بهذه القواعد ينطلق في حكمه على درويش من اعتبار جملة شعرية ما انحرافًا خاصا بالربوبية «الاعتقاد الجازم بأن االله هو خالق كل شيء، والمالك له والمتصرف فيه، وكل شيء سوى الله مخلوق، خلقه الله من عدم، وأوجده بعد أن لم يكن. وأي تصور يخالف ذلك، يعد انحرافًا عن هذا المفهوم، وهو الذي وقع فيه درويش عندما رأى أنَّا “خُلقنا غلطة حدثت في غفلة من الزمان”».
كما يرى «الكحلوت» أن «درويش» يغالط الهدف الرباني من خلق البشر، معتبرًا عبارة «ولدتُ كي أحبك» التي جاءت عنوانا لإحدى قصائده، عبودية لغير الله، حيث يقول :«يوجه الشاعر عبوديته لغير الله من خلال لازمة مترددة في قصيدته، مع أن الله قال “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”.. ويمزج الشاعر عبوديته لغير الله بنشوته الجنسية الممزوجة بالخمر، ليشفى وليقرر في هذا الجو الإباحي ترك مزامير أمه، أي ترك قرآن أمته المسلمة، وهو ما نضحت به أعماله الشعرية الجديدة».
ومن المغالطات الربوبية إلى انحرافات الألوهية، يعتبر “الكحلوت” أن محمود درويش « أنكر التوجه بالعبادات لله واستهزأ بمن يقوم بذلك، مع أنه قدم طقوساً تعبدية لغيره، كذلك لم يثبت الله ما يليق به من أسمائه وصفاته العلا، كما وردت في القرآن والسنة، بل إنه نسب بعض هذه الأسماء والصفات إلى غيره من المخلوقات، وكان همه أن يؤنسن الله..(..).. معرجًا على عبارات مثل «ليس الرب من سكان هذا القفر» و«كنت الذي يتدحرج من شرفة الله».
وقد ساق الباحث حكمًا مفاده أن شعر درويش «ينضح سخرية من الله ودينه وعبادته في الوقت الذي ينظر فيه إلى الغرب وحياته وحضارته بتفاؤل وإشراق وأمل، وقد أعطاه رموزا مثل السفر، القمر، البحر، وهي التي كان يُمنع من قِبل والده من التعاطي معها؛ خوفًا على دينه وفكره، لكنه أبى وسافر وركب البحر وذهب إلى القمر، فكان منه هذا الشعر الذي ينضح بالانحراف العقدي والانحراف الأخلاقي، قبل أن يتحدث عن مظاهر جنسية فاضحة، ويسخر من الإله ومن الصلاة والدعاء حين يجعل حبيبته ريتا معبودة الإله الذي له الانحناء وله الصلاة في عينيها العسليتين، بقوله: بين ريتا وعيوني.. بندقية/ الذي يعرف ريتا، ينحني/ ويصلي/ لإله في العيون العسلية!».
الباحث لا يفرق بين «الله والرب»
يجهل المؤلف التفرقة بين الله والرب، كمفهومين مستقلين، يمكن أن نجد بينهما تقاطعات لكن تظل التباينات واضحة وجليّة، فكلمة الرب في اللغة العربية مثلما تشير إلى الربوبية ،تشير أيضا إلى الملكية بمعنى الصاحب، كذلك إلى السيادة، وهو معنى موجود في القرآن على نحو مجازي أيضًا بقوله «يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا»، وتعنى هنا أنه يسقى «سيده»، لكن بتطبيق منهجية «الكحلوت» وإسقاط المعاني المتعددة للمفردة العربية والدلالات التي تصل حد التناقض أحيانًا في طبيعة اللغة وجوهرها، قد نقول إن القرآن يقول بأن أحد البشر يسقي الله خمرا، وحاشا لله سبحانه وتعالى.
غياب المفاهيم النقدية
بدلًا من المفاهيم النقدية، التي غابت على نحو كلي من الدراسة، يلجأ «الكحلوت» إلى مفاهيم محاكم التفتيش، فهذا الشطر انحراف وذاك البيت إساءة لله، وهنا وثنية وهناك كفر، إلى آخر هذه المفاهيم التي لا علاقة لها بالبحث العلمي النقدي، مستطردًا بأن «انحراف الشاعر وصل إلى الغيبيات، فلم تسلم الملائكة من ذلك فقد صورها بإنسان يقترف الخطأ، وتحاكَي ممارساته، وهو ما لا يليق بطبيعة خلقها وعملها»، ومن هنا ينتقل إلى الاتهام بالسخرية من الأنبياء و«استهزاء الشاعر بهم، بإطلاق الصفات السيئة والأوصاف المشينة» ولا يختلف الأمر بالطبع عن تعاطى درويش – فى نظر الباحث- مع «الحضارة الإسلامية، التي استهزأ بما انبثق عنها من رموز وشخوص وقلاع، وانبهر بحضارة الغرب وما أردفته من معتقدات وأعمال».
الطعن في المسيحية
لا تكتفى الدراسة بالطعن في عقيدة محمود درويش الدينية، بل إنها تطعن المسيحية من جهة، وتدين الشعراء المسلمين المتعاطين مع الموروث المسيحي ودلالته من جهة أخرى، حيث تتهمهم بالترويج لعقائد مخالفة للدين الحنيف. و هنا نجد أن “الكحلوت” – وهو أستاذ فقه اللغة – «ممتطيًا شعر محمود درويش» يضرب عصفورين بحجر واحد: تكفير درويش ،وتمرير الطعن في المسيحية ،فيقول: «تطرق الشاعر أيضًا إلى الرموز النصرانية، وقد أكثر منها في دواوينه، ونظر إليها في أغلب استخداماته نظرة إيجابية، وقد أكثر درويش وشعراء الحداثة من ذكر ألفاظ مستمدة من العقيدة النصرانية وخاصة أربعا منها وهي “الخطيئة، والفداء، والصلب، والخلاص”، وهذه الألفاظ تمثل عقيدة كاملة تقوم عليها العقيدة النصرانية».
المدهش فيما ذهب إليه الكحلوت أنه يعتبر أن احترام عقائد الاّخرين تهمة أو جريمة، حيث يقول «أعجب بالرموز النصرانية التي وردت في شعره بطريقة تبين احترامه للدين النصراني، وإقباله عليه، واعتباره مصدر الأمل، وطريق الخلاص»، فالتهمة الموجهة لدرويش هنا هي احترامه للمسيحية أو «الدين النصراني». وبعيدًا عن الشعر فما الجريمة التي يرتكبها من يحترم معتقدات الآخرين؟
الطعن في الأخلاق
ولكي تكتمل المصيبة، فلابد من الاتهام في الأخلاق، حيث تطلق الدراسة رصاصها على درويش بالقول: «انحطت أخلاق الشاعر في دعوته للإباحية الجنسية، ومعارضته للزواج، وقد مارس ذلك قولاً وفعلاً، كما يظهر واضحاً في شعره» .وتشير إلى أن أبرز جوانب الانحراف الأخلاقي والسلوك الاجتماعي للرجل هي «احتفاؤه بالمرأة صاحبةً وعشيقة ،لا زوجة وعفيفة، لذا يهاجم النساء اللواتي يرتدين الزي الشرعي، وينظر إليهن نظرته لكل ما انبثق عن الإسلام، لذا يرى أنهن قادمات من الخريف، فقال “تقول شيئاً ما عن النهر/ المخبأ في عباءات النساء القادمات من الخريف».
ولا ينتهى الأمر عند هذا الحد، بل يصل إلى حد اتهام درويش بزنا المحارم حيث يقول الباحث: «في إطار الإباحية الجنسية التي يؤمن بها الشاعر، يطلب ممارسة الجنس مع ابنته كي تلده، “لا أم لي يا ابنتي فلديني هنا”».
رغم أن الرؤية التي حملتها هذه الدراسة، لا تستحق عناء المناقشة لوهنها ومجافاتها لأبسط قواعد البحث النقدي، إلا أن ما جاء فيها من اتهامات مفجعة للشاعر محمود درويش، لا يجب أن يمر مرور الكرام، حتى ولو بعد سنوات من نشرها. فآثارها جد عظيمة، ويجب التنبه إليها، مذكرين- فقط للتذكرة- بما قاله قاض بليغ، وناقد عربي قديم عن علاقة الشعر بالأخلاق أو الدين، وهو القاضي عبد العزيز الجرجاني في كتابه «الوساطة بين المتنبي وخصومه»، وهي تذكرة لا تعني اتهام درويش أو الوقوف في صف المدافعين عنه في الوقت ذاته. فالشعر لا يحتاج إلى كل هذا. يقول الجرجاني «فلو كانت الديانة عارًا على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر لوجب أن يُمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات، ولكن الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر».
النظر إلى محمود درويش بقدسية بحتة يجعل القارئ الجاهل والقارئ الناقد سواء … فلا مقدس إلا ما قدسه الإسلام… ولا بشر منزهون عن الخطأ، وخطأ هذا الشاعر بات عظيمًا لا تخطئه عين ولا يجافيه كل ذي بصيرة، فإذا ادعينا مجازية اللغة فلفظ الجلالة مقدس تعالى عن كل نقص وتنزه، لا يغفل ولا يقع في الغلط ولا ينام وإن كان للشاعر قصد بريء آخر فلمَ أكثر من استخدامه للمقدسات الإسلامية ضد أوصافها التي نؤمن بها؟!!
كالملائكة التي نزهها الله عن التأنيث لا بل تجاوز الشاعر كثيرا حين نسب إليها الفاحشة… وكأن اللغة انقطع لسانها وجف مدادها…
أما لو قارنّا بين ذكره لمقدساتنا الإسلامية والمقدسات النصرانية مع احترامنا لما يؤمنون به، فقد نظر إليها بالنور المشع ومصدر الإلهام… بينما مقدسات دينه ضدّ ذلك، وكأن الشاعر هنا يعيش أزمة نفسية وصراعا فكريا حادا بينه وبين هويته المسلمة ويتمنى لو يستطيع التخلص من هذا الثوب الذي ولده به أبواه.
وإن أظهر بعض النقاد مآرب أخرى فهي ترجع لتقديرهم وظنهم إذ قرروا أن يحسنوا النية في كل مخالف للدين وداع للتحرر .
فكيف نقدس شخصًا أهان مقداساتنا ورأى فيها الظلم والعتمة… أم أصبحنا عُبّاد أصنامٍ من صنعنا في زمنِ فصلِ الدين عن كل شيء متعلق برغبات نفوسنا وأهوائها وشهواتها… ما لكم كيف تحكمون؟!!
إلى السادة في الإارة تحية طيبة وبعد
لقد كتبت تعليقا ولم يتم نشره إلى الآن. ارجو التكرم بالرد.
تحية طيبة وبعد
تمنيت على الأستاذ صفوت أن يتحلى بقدر معقول من الموضوعية وطول البال في نقده للدكتور الزميل يوسف الكحلوت، فلا يتعرض له بأوصاف تتناقض مع ما يدعيه الأستاذ صفوت من موضوعية، وعلمية ينفيهما عن الزميل الكحلوت، حيث راح الأستاذ صفوت يكيل التهم للدكتور بالجهل في أكثر من موضع، وهذا مالا نقبله في حق زميل محترم حصل على أعلى الدرجات العلمية، والأكاديمية، وهذا -حقيقة- زهدني في قراءة ما كتبه الأستاذ صفوت على الرغم من قراءتي لما كتبه كاملا.
بداية أستاذ صفوت لقد وقعت حضرتك في خلل منهجي كبير (ولا أتهمك بالجهل كما فعلت مع الزميل الكحلوت) هذا الخلل المنهجي أنك لم تعرفنا بأي الجرجانيين الذي قال عبارة: “فلو كانت الديانة عارًا على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر لوجب أن يُمحى اسم أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذكره إذا عدت الطبقات، ولكن الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر».. فعندنا في عالم النقد القديم جرجانيان، هما عبد العزيز وعبد القاهر، فأيهما تقصد؟ أنا سأقول للقارئ إنه القاضي عبد العزيز الجرجاني في وساطته، ولكننا لم نلاحظ من كلامه أنه أجاز التعدي على قيم الدين والأخلاق العامة، ولكنه ركز على جانب صغير ألا وهو أن الشاعر يحتفظ بشاعريته، وبموقعه كشاعر، حتى وإن كان كافرًا وهذا لا غبار عليه، وكلنا مجمعون عليه، لذا يجب علينا أن نقرأ عبد العزيز الجرجاني قراءة منصفة، ولا نجتزئ فكره وكلامه، ويجب ألا نخلط بين الأمور ، وخصوصًا إذا ما علمنا أن عبد العزيز الجرجاني هو قاض وذو خلفية دينية، فهو لم ينف شاعرية المتنبي من جهة، ولكنه لم يجزه في بعض تجاوزاته، ولنا في هذه المسألة دراسة وافية سوف نقوم بنشرها إن شاء الله. و أعتقد أن هذه المسألة لم تكن موضع خلاف عند د. الكحلوت، فالدكتور الكحلوت ركز على قضايا الفكر والاعتقاد فقط ولم يتعرض لشاعرية درويش، فالكلام الذي أوردته للقاضي الجرجاني ركز على نقطة مهمة وهي: أن الكفر لا يؤثر على شاعرية الشاعر، وهذا ما لم يتطرق له د. الكحلوت، وكان تركيزه على قضايا الفكر والعقيدة عند درويش، وإن كانت مسألة شاعرية درويش بحاجة لإعادة نظر في سياق التعريف العام للشعر.
وفي المقابل أستاذ صفوت نرى علما ومن أعلام القرن الخامس الهجريّ، الذين كان لهم حضورٌ بارزٌ في هذه القّضيّة وهو عبد القاهر الجرجانيّ تـ (471ه)، الذي ذمّ تلك الفئة من الشّعراء؛ الذين يعبثون بالعقيدة، وبأصول الدّين الإسلاميّ، أمثال أبي الطّيّب المتنبّي، وأبي نواسٍ، وينسحب رأيه -كذلك- على شعراء العصر الحديث، حيث يقول: “وأبعد ما يكون الشّاعر من التّوفيق، إذا دعته شهوة الإغراب، إلى أن يستعير للهزل والعبث من الجدّ”( )، على الرّغم من أنّ عبد القاهر ليس مع الّذين يحكمون على الشّاعر من الزّاوية الدّينيّة، إلاّ أنّه عندما لمح العبث، والاستهتار، ذمّه وازدراه.
على العموم أستاذ صفوت فإن درويش وغيره من شعراء الحداثة ليس فوق النقد، وكل ما قاله د.الكحلوت من حيث لب دراسته التي ركزفيها على قضايا الفكر والعقيدة- هو موجود عند درويش، فعندما يقول (رأيت الله يموت في شوارع عمان) ثم يروح من يزينون له سوء أفعاله أن هذه رموز ، ويتهمون الآخرين بعدم القدرة على فهم مرادالشاعر…فهذا هراء وهرطقة، فهلا يستطيع درويش أوغيره مثلا أن يقول ذلك في حق الملك حسين في حينه؟ لا أعتقد ذلك لأنه سيدخل تحت طائلة العقاب والقانون، أما عندما يتعلق الأمر بالذات الإلهية فهو أمر مباح!!! يا سيدي هذا كله نتاج طبيعي لما يعانيه الفكر العربي من تبعية للفكر الغربي ، والحداثة الغربية، ونظرياتها التي تخلى عنها الغرب نفسه، مثل نظرية موت المؤلف وما أفضت إليه من موت الإله، حيث راح مبدعونا يتغنون به في كل إبداعاتهم، وراح الكل يجهر بهذه السخافات فها هو نزار يقول: رأيت الله مذبوحا على أيدي رجال البادية، وبسيسو يرى أن الله في المخفر والشرطي يستجوبه:
ما اسمك ؟
ما عنوانك؟
ما مهنتك؟
وكانت مهنته…الله!!!
وها هو أنسي الحاج يتطاول بسفاهة غير معهودة على الذات الإلهية، عندما يتهم الذات الإلهية بالجهل فيقول:
اسألني يا الله ماذا تريد أن تعرف
أنا أقول لك:
كلُّ اللعنات تغسلها أعجوبة اللقاء!
وجمْرُ عينيكِ يا حبيبتي يُعانق شياطيني.
صورة قبيحة، وألفاظ كفرية غير معهودة، لقد أزعجنا أنسي الحاج بـــ (قصيدة) طويل تكاد تكون معلقة، لم نفهم منها مراده، أو الفكرة التي يريد أن يوصلها، سوى أنه كلام فارغ من أي مضمون.
أستاذي الكريم
ليس الهدف هو تجريح أحد، ولكن إذا تعلق الأمر بالدين فيجب أن يكون للنقاد والمفكرين كلمتهم، وبنظرة موضوعية لا أظنك توافق على ما تفوه به أمثال هؤلاء (الشعراء) فالمرء محاسب على كل كا يتفوه به، فرب كلمة قالت لصاحبها دعني، والكلمة في الإسلام ذات أهمية بالغة، وسنحاسب عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وأخيرا. لم يقف د. كحلوت وحده في هذا المضمار، فقد شاركه طائفة كبيرة من النقاد وجهة نظره، ولا أحد يستطيع مصادرة فكرهم، ولننقارع الرأي بالرأي، فهل التهم الموجهة لدرويش وغيره موجوده عنده أم لا؟.
وعلى العموم درويش بحاجة لدراسة فنية موضوعية أيضا، ولنا معه وقفة فنية موضوعية إن شاء الله.