نشرت أسبوعية “أخبار الأدب” يوم الأحد الثالث من شهرنا الجاري – مارس 2019- ملفًا طالعته بقلب مرتجف. كاتب الملف هو الدكتور “ممدوح فراج النابي”، وهو أديب من أدباء صعيد مصر يحمل درجة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث ونقده بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، من كلية الآداب بجامعة القاهرة، وكانت رسالته تحت عنوان “رواية السيرة الذاتية في مصر.. دراسة في أنماط التشكيل وطرائق السَّرد“.
ممدوح فرج النابي
تخصص الرجل يشير إلى متانة علاقته بملفه، كان الملف عن تشويه متعمد قامت به مجلة “المجلة العربية” التي تصدر بالمملكة العربية السعودية لمذكرات عميد الأدب العربي طه حسين. بعد مطالعتي للملف توقعت قيام تلاميذ العميد- وما أكثرهم – بشن حملة ضد هذا التزوير الفج لمذكرات أستاذهم، ولكن خاب ظني فلم أقرأ لأحد منهم كلمة تستنكر ما قامت به المجلة، وكأن مذكرات العميد شىء هين، يخوض فيه العالم والجاهل.
كان طه حسين قد نشر الجزء الأول من سيرته الذاتية ذائعة الصيت، تحت عنوان “الأيام“ في العام 1929، فحققت نجاحًا منقطع النظير، وبعد الجزء الأول نشر العميد الجزء الثاني تحت العنوان نفسه، ثم توقف سنوات عديدة حتى نشر الجزء الثالث تحت عنوان جديد وهو “مذكرات طه حسين” وقد صدرت أوّل مرة عن دار المعارف المصرية عام 1962، ثم أعادت نشرها دار الآداب اللبنانية في 1967.
كل العارفين بطه حسين يتعاملون مع المذكرات بوصفها الجزء الثالث والأخير من سيرته الذاتية، ثم جاءت المجلة العربية في نوفمبر من العام 2018 لتصنع شيئًا عجيبًا.
كانت المجلة تريد الاحتفال بالذكري الخامسة والأربعين لوفاة العميد، فوقعت في فخ المثل الشعبي القائل: “جه يكحلها فعماها”.
عهدت المجلة إلى الناقد المغربي صدوق نور الدين بإعداد المذكرات للنشر، لكي تصدر في كتاب مع عدد المجلة هدية لقرائها. فقام نور الدين بإعداد لا يمكن السكوت عليه، فقد عبث الرجل بصورة المذكرات بطريقة غير مسبوقة.
صدوق نور الدين
هاتفت الدكتور “ممدوح النابي” لكى يشرح لي تفاصيل القضية، فكأنه ابتسم وهو يرد عليّ قائلًا :” هذه ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن هذا العبث، لقد كتبت مقالًا نشرته في جريدة “العرب” التي تصدر من لندن، ولم يلتفت إليه أحد، فأعدت كتابة المقال بإضافات مهمة ونشرته في أخبار الأدب، ولم يلتفت أحد، وظني أن الأمر سيمر كما مر غيره.
عن ملف الدكتور النابي أنقل ما قامت به المجلة بمساعدة صدوق نور الدين، وأضعه في النقاط الآتية.
أولًا: غيرت المجلة عنوان الكتاب من “مذكرات طه حسين” إلى “من العمامة إلى الطربوش”.
هكذا نحن أمام كتاب جديد لطه حسين لم يكتبه.
ثانيًا: قامت المجلة بوضع عنوان فرعيّ للمذكرات هو “فصول مختارة من مذكرات طه حسين”.
يعلق النابي على هذا التجاوز قائلًا: إذا كانت فكرة المختارات تجوز في الشعر، فإنها لا تجوز في النثر، لأسباب تتعلق بالتسلسل الزمني للأحداث، وتراتبها، فأي انتزاع لأي جزء يُفقد الحكاية تسلسلها وترتيبها.
ثالثًا: قامت المجلة باختزال الفصول من عشرين فصلا، إلى خمسة عشر فصلا حيث أسقط من الطبعة الجديدة الفصول التالية: السادس “أساتذتي” والثامن “ثلاث تجارب” والثاني عشر “الصوت العذب” والثامن عشر “أطول الناس لسانا”، والتاسع عشر “رفضت أن أحضر مؤتمرا للعميان”. فتمّ حذف الفصول من داخل المذكرات الجديدة، دون إبداء أسباب.
رابعًا: طال التحريف المذكرات، حيث قام مَن أعدّ المذكرات بتغيير أسماء عناوين الفصول، ما بين تغيير العنوان كليّا كما في الفصل الأول، الذي جاء بعنوان “بين العمامة والطربوش” في حين كان في المذكرات الأصلية بعنوان “على باب الأزهر”. وهو الأمر الذي تكرّر في عناوين الفصل الرابع والخامس والسابع إلى آخر الفصول. أو تغيير جزئي كما في عنوان “كيف تعلمت الفرنسية” الذي صار “دروس الفرنسية”.
خامسًا: يقول النابي: أما الجريمة الأبشع فكانت في سياسة الحذف والبتر التي قام بها معد المختارات. حيث قام بحذف أجزاء من الفصول. فعلى سبيل المثال، انتهى الفصل الأول في المختارات عند ” منذ افتتاح الجامعة حتى تغيرت حياته تغيرا فجائيا كاملا”. ولكن في الحقيقة يسقط صاحب المختارات رؤية الفتى للدراسة في الجامعة، بعد ذهابه مع رفيقيه واستماعه إلى دروس الأستاذ أحمد زكي باشا عن الحضارة ، وهي المقارنة التي تنسحب إلى تفضيل طه حسين الدراسة الجامعية على الدراسة في الأزهر. حيث يحذف صاحب المختارات كل ما يتعلّق برؤية الفتى للأزهر مقارنة بدروس الجامعة التي انصرف ذهنه كليّا إليها، وأغرق فكره في التفكير في دروسها وأساتذتها.
سادسًا: الحذف لا يقف عند فقرة أو صفحة، بل يتجاوز الأربع صفحات، كما في الفصل الثالث. وقد عنونه “طه حسين بدايات الكاتب” في حين في نص المذكرات جاء بعنوان “أثر اختفاء المرأة”، فالحذف يبدأ من الثلث الأخير من صفحة 29 من جملة “كانوا يقصدون إلى الأزهر ليلهوا ويلعبوا، لا ليعملوا ويجدوا….” وصولا إلى الثلث الأخير من صفحة 32. حيث يعاود وصل الفقرات من جديد. وفي الفصل الخامس “محنة الكفيف” يحذف الفقرة الأولى التي استهل بها طه حسين فصله. وهي فقرة طويلة يتحدث فيها عن عهد المصريين بالجامعة الذي كان بمثابة العيد.
انتهت النقاط التي أشار إليها الدكتور النابي في مقاله في صحيفة “العرب” وملفه بأخبار الأدب، ولكن تبقى الأسئلة المقلقة التي لن تجد جوابًا ..ما الذي دفع المجلة لاقتراف هذا التشويه الذي يمكن وصفه بالتزوير؟، وهل أصبح طه حسين هينًا على الجميع ؟، ثم أين أمانة العلم ؟
لقد كتب طه حسين ما كتب، وليس لناشره سوى نشر ما كتبه كاملًا غير منقوص أو الامتناع عن النشر، أما الاجتزاء والتحريف فأمران لا يليقان بالمشتغلين بالعلم أي علم كان.
وأخيرا: لماذا هذا الصمت المريب على تشويه مذكرات ذائعة الصيت، خصوصا بعد أن قام باحث مدقق بكشف القضية من مختلف زواياها ،مخففًا عنا أعباء البحث والمقارنة؟
لو كان قد بقي لنا من الوفاء لذكرى العميد شيء لطالبنا المجلة بإعادة نشر مذكراته كما كتبها هو.