زوجي الحبيب: الآن فقط أدركت أني لم أحقق حلمك، وأعترف أمامك في هذه اللحظة التي أكتب فيها رسالتي إليك أنني لم أستطع أن أكون واحدة من نسائك المفضلات، أذكرك وأنت تحدثني ـ حتى قبل الزواج ـ عن نوعيات من النساء يربط بينهن رابط واحد، كنا مخطوبين تحاول من جهتك أن تبحث عن نقاط التقارب بيننا، وأحاول من ناحيتي أن أفتش عن نقاط الاختلاف، كنت خرجت من تجربة عاطفية عرفت معك أنها كانت فاشلة بكل المقاييس، حتى المشاعر الجميلة التي عشتها فيها كانت سطحية، لم تكن عميقة مثل العمق الذي عايشت بها المشاعر معك.
أذكر أحاديثك كلها في أمسياتنا الرائقة، كنت تجيد الحديث في كل شيء، في السياسة التي كنت أضجر من الحديث فيها أو حولها، وفي الأدب حيث تتألق ذاكرتك دائماً بما تحفظه عن ظهر قلب منذ طفولتك أو في شبابك الباكر، وفي الفن وكنت تسخر من مشاهداتي المتكررة لبعض أفلام الأبيض والأسود، كنت تقول أنت تحفظينها كلمة كلمة ومشهداً مشهدا فلماذا تعيدين مشاهدتها كأنها أنتجت اليوم.
وكانت لك صولات في الحديث عن التاريخ الذي دارت حوله أغلب كتاباتك، وقضايا الدين والحياة وهو الفرع الذي كنتَ توليه أغلب اهتماماتك، سواء في القراءة أم في الكتابة أو حتى في الحديث معي ومع أولئك الذين كانوا يتحلقون حولك مساء كل خميس في بيتنا المتواضع.
رغم كل هذا التنوع في أحاديثنا فقد كان للنساء اللائي تفضلن حديث محبب إلى قلبك، لم يكنّ يفارقن ذاكرتك، وبقين على لسانك طول الوقت، أولهن السيدة عائشة رضي الله عنها، وأذكر كيف كررت على مسامعي كثيراً اعجابك بدورها في نقل الكثير من السنة المحمدية إلى المسلمين، وأذكرك وأنت تنبهني إلى أن الحديث المنسوب إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء) ليس له أصل، وأنه من الأحاديث الموضوعة، إلا أنك كنت تقول هذا ما حدث بالفعل، فقد كانت السيدة العظيمة واحدة من أهم الرواة الموثوقين عنه صلى الله عليه وسلم.
نقلت إلينا حاله في بيته ومع أهله وفي نومه وفي استيقاظه وفي كل ما يتعلق بحياته الخاصة، وقدمت صورة طبق الأصل عن الرسول الأب والزوج والانسان، قبل أن تخبرنا بأقواله وأفعاله وسنته صلى الله عليه وسلم.
والأخرى، تقف على الجانب الآخر، أو الضفة المقابلة، أو العكسية، كانت هي زوجة سقراط، التي لم تكن لها أي فائدة تذكر في حفظ تراث الفيلسوف الكبير أو في نقل ميراثه الفكري والفلسفي، بل كانت تنغص عليه حياته كلها، وظلت تتذمر من أفكاره، وتتهمه بالحماقة، وترميه بالقاذورات والمياه المتسخة، حتى ذهب البعض من الساخرين إلى القول: إذا أردت أن تصبح فيلسوفاً فتزوج امرأة سقراط.
أضحك الآن وأنا أكتب إليك هذه الرسالة حين تذكرتك وأنت تحكي لي أن شاباً استشار سقراط طالباً رأيه أيهما أفضل: الزواج أم العزوبية، فكانت نصيحة الفيلسوف الكبير تضع الشاب أمام اختيارين: إما أن يقع فريسة للوحدة، وإما أن يقع فريسة لزوجته.
امرأة ثالثة كنت تكن لها ولموهبتها تقديرا عظيماً، ولا زلت أذكر لمعان عينيك وأنت تتحدث عنها بكل التقدير والاحترام، ثم وأنت تحدثني عنها لأول مرة وعن زوجها الكاتب والفيلسوف الكبير نيكوس كازانتزاكيس وجعلتني أهرع إلى قراءة ما وجدته في مكتبتك من مؤلفاته.
أمسك الآن كتاب “تقرير إلى جريكو” الذي نشرتْه زوجتُه بعد وفاته وجمعت فيه رسائله ومذكراته، وأقرأ التقديم الذي كتبته “هيلين” وفيه بعضاً من أمنياتك في أيامك الأخيرة:
“كان نيكوس يطلب من ربه أن يمد في عمره عشر سنوات أخرى يكمل بها عمله، يقول فيها ما كان عليه أن يقول و(يُفرِّغ نفسه). وكان يريد أن يأتيه الموت فلا يأخذ منه إلا كيسًا من العظام. عشر سنوات تكفي. أو هذا ما كان يظنه”.
الآن أتذكر كل هؤلاء النساء وغيرهن وأدرك أنك كنت دائم الحديث عنهن، بمناسبة وبغير مناسبة، كأنك تقول لي: كوني واحدة مثلهن، وافعلي مثل ما فعلن.
ولكني أعترف لك يا حبيبي أني لم أستطع حتى اليوم أن أتخلص من وجودك معي، أشعر بوجودك الدائم إلى جانبي، لا تفارقني كلماتك في كل موقف مر في حياتنا معاً، أشم رائحتك في الأماكن التي كنت تجلس فيها دائماً في بيتنا، أتحدث معك، وأشكو إليك، وأناقشك وأحياناً أضحك لبعض نكاتك التي كنت تقولها وضحكتك تسبق نهايتها، وما زلت أسمع صوتك حولي ونداءاتك عليَّ تطلب مني قهوة الصباح.
ما زال الأمر يستعصي علي يا حبيبي، ولست أخشى إلا اليوم الذي أتخلص فيه من وجودك معي، فتنفرط عقدة لساني، ويستطيع القلم يومها أن يكتب عنك ما تستحقه كما توقعت مني، كل أمنياتي ألا تأتي تلك الساعة قبل أن ألحق بك. فإلى اللقاء.