على مدى القرن الماضي، عبًر عدد غير قليل من الكُتاب المرموقين عن قلقهم حيال مستقبل البشرية. ففي روايته الشهيرة The Iron Heel (الكعب الحديدي) (1908)، يرسم الروائي الأمريكي جاك لندن صورة لعالم ظلامي تتمكن فيه حفنة من الشركات العملاقة «الأليجاركيين» (الأقلية الحاكمة) من إقصاء الجماهير في قاع سحيق عبر مزيج وحشي من المكافآت والعقوبات.
جاك لندن وروايته The Iron Heel (الكعب الحديدي)
وفي ظل تلك الطبقية البغيضة، تعيش الغالبية الغالبة من البشر في أتون عبودية افتراضية، بينما يُشترى الأفراد المحظوظون بأجور مناسبة تكفل لهم شذرا من العيش الرغيد، لكن دون أي سيطرة حقيقية على حيواتهم. وفي النصف الآخر من العالم يرسم الروائي الروسي الفذ، “يفجيني زامياتين“، عالما آخر لا يختلف في تفصيلاته النهائية عن عالم جاك لندن. ففي سياق توقعاته لتجاوزات النظام السياسي في الاتحاد السوفيتي – حديث العهد بالوجود آنذاك – يصور زامياتين عبر روايته الشهيرة We (نحن) (1924) عالما خانقا يخضع فيه كل شيء لرقابة صارمة، حتى أن جدران البيوت تصنع من الزجاج الشفاف ليباح الجميع في جميع الأوقات لمسمع ومرأى الطغمة الحاكمة. لكن الروائي البريطاني ألدوس هكسلي يهرب من هذه العوالم الخانقة إلى عالم أرحب، ويقدم في روايته الشهيرة Brave New World (عالم جديد شجاع) (1932) رؤيته لمجتمع مثالي، يتمكن فيه العلم الحديث من محو التعاسة والعدوان من هندسة النفس البشرية عبر مزيج مبهر من الهندسة الوراثية والتكيف النفسي.
يفجيني زامياتين وروايته We (نحن)
وفي رواية 1984، التى صدرت عام (1949)، الأكثر مبيعا في القرن العشرين، يعود الروائي البريطاني جورج أورويل القهقري باتجاه العوالم السوداوية، حيث يرسم مجتمعا يتم فيه التحكم، ليس فقط في سلوك الأفراد وأفعالهم، وإنما أيضا في أفكارهم وعقولهم. ففي مدينة أورويل البائسة يتعلم الأطفال استخدام صورة مبسطة من اللغة الإنجليزية تسمى “نيوسبيك” (Newspeak) تضمن حصار أفكارهم في حلقة خانقة هي كل ما يجود به نظام الحكم الذي يقبع على رأسه “الأخ الكبير“.
ربما تكون كل هذه الكتابات محض خيال، لكن المشترك العام فيما بينها يكمن في استخدام القادة القابضين على تلابيب السلطة أشكالا بارعة من الهيمنة التي لم تقاومها سوى قلة قليلة. لكن عالم النفس الأمريكي وكبير الباحثين في المعهد الأمريكي للبحوث السلوكية والتكنولوجيا، “روبرت إبشتاين“، ينتقل بهذه الصورة الاستبدادية من عالم الخيال إلى عالم الواقع عبر مقالته التي حملت عنوان The New Mind Control. “Subliminal Stimulation”, Controlling People without their Knowledge (الهيمنة الجديدة على العقل. “التحفيز اللاشعوري”، الهيمنة على الناس دون علمهم)، ففي هذا المقال يتناول “أبشتاين” عبر مساحة هائلة من الوقائع أساليب ومحاولات الهيمنة على عقول البشر وأفكارهم منذ عشرات السنين ووصولا إلى وقتنا الراهن، حيث يحضر بشكل واضح محرك البحث جوجل بتأثيراته الهائلة ومحاولا ت التوجيه والهيمنة على الأفكار التى يمكن استخدامها اقتصاديا فى التسويق والترويج لسلع ومشروعات معينة وسياسيا فى التوجيه الانتخابى لصالح مرشح معين وهو أمر حدث ويحدث بالفعل وهناك نماذج وأمثلة دالة على حدوثه سنتعرض لها بالتفصيل فى الحلقتين القادمتين.
Robert Epstein
تأثيرات خفية
في مستهل هذه المقالة، يستدعي إبشتاين الكتاب الأكثر مبيعا The Hidden Persuaders (المُقًنَّعون الخفيون) الذي صد للمرة الأولى عام 1957 ، وأعيد نشره مؤخرا احتفالا بمرور 50 عاما على صدور طبعته الأولى. ويعرض هذا الكتاب لـ “نمط غريب وشاذ من الهيمنة على العقول بدأ يجتاح الولايات المتحدة بسرعة مخيفة”، حيث يصف ” فانس باكارد“، مؤلف الكتاب – هذا النمط الجديد بأنه أعظم خطرا وأشد تهديدا من ذلك الذي عرضت له الروايات؛ فقد شرع المديرون التنفيذيون للشركات والسياسيون في استخدام أساليب خفية وخبيثة ،من أجل التلاعب بأفكار الناس وعواطفهم وسلوكهم”.
الكاتب Vance-Packard وكتابه The Hidden Persuaders
ربما سمع أغلبنا عن واحد، على الأقل، من هذه الأساليب، وهو ما يُعرف في علم النفس بـ ’التحفيز اللاشعوري‘، أو ما يطلق عليه باكارد ’التأثيرات الخفية‘، التي تقوم على تقديم رسائل قصيرة تملي علينا ما نفعله، لكنها تومض بسرعة خاطفة، حتى أننا لا ندرك أننا رأيناها. واستجابة لهذا الخطر الداهم، قامت الرابطة الوطنية للإعلاميين – المسئولة عن وضع معايير العمل في التليفزيون الأمريكي – بتعديل قوانينها في عام 1958لحظر استخدام الرسائل اللاشعورية في الإعلام، وذلك نتيجة تفشي حالة من القلق العام بسبب قيام مسرح في نيو جيرسي باستخدام رسائل خفية عبر أحد الأفلام من أجل زيادة مبيعات الأيس كريم. وفي عام 1974، ارتأت اللجنة الوطنية للاتصالات أن استخدام هذا النوع من الرسائل يتعارض مع المصلحة العامة. كما ناقش الكونجرس مشروع قانون يقضي بحظر الرسائل اللاشعورية.
سيطرة لا شعورية
لكن باكارد يكشف عن مشكلة أكثر تعقيدا، وهي أن الشركات الكبرى لا تنفك تبحث عن – وفي كثير من الأحيان تطبق فعليا – أساليب متنوعة لممارسة سيطرة لا شعورية على الأفراد، ويميط اللثام عما يشبه عملا سريا يتعاون فيه المسوقون بصورة وثيقة مع علماء الاجتماع لدفع الناس دفعا إلى شراء أشياء لا يحتاجون إليها، ولتهيئة الأطفال ليكونوا مستهلكين جيدين، وهي التوجهات التي عرضت لها بجلاء رواية “عالم جديد شجاع“.
ألدس هكسلي وروايته عالم جديد شجاع
وباتباع نظريات علم الاجتماع، يتعلم المسوقون بسرعة مذهلة دغدغة المخاوف اللاشعورية واللعب على الإحساس بالضعف وعدم الأمان وتوظيف المشاعر العدوانية والرغبات الجنسية من أجل تغيير التفكير والعبث بالعواطف والتحكم في السلوك في خفاء تام.
وفي بداية خمسينيات القرن الماضي، تلقف السياسيون – كما يشير باكارد – الرسالة؛ فراحوا يروجون لأنفسهم باستخدام نفس القوى الخفية التي كانت تستخدم لبيع الصابون. ويقدم باكارد للفصل الخاص بالسياسة في كتابه باقتباس مثير للفزع لعالم الاقتصاد البريطاني “كينيث بولدينج“ كتب فيه: “يمكننا ان نتصور عالما من الديكتاتورية الخفية يستخدم أنماطا من الحكم الديمقراطي”.
كينيث بولدينج
في هذا السياق تطرح مقالة “إبشتاين” سؤالا ملحا، هو: هل يمكن أن يوجد هذا العالم فعلا؟ وإذا كان ذلك ممكنا، فكيف؟
وفي معرض إجابته يؤكد “إبشتاين” أنه على مر العقود، نجحت القوى التي عرض لها باكارد في تحقيق مزيد من الانتشار، بدءا من الموسيقى الهادئة التي تتسرب من فوق رؤوسنا في أروقة ’السوبر ماركت‘ وتجعلنا نسير ببطء شديد ونشتري مزيدا من الطعام ،سواء كنا بحاجة إليه أو لم نكن، وصولا إلى أغلب الأفكار العابرة والمشاعر الجارفة التي تعرِض للمراهقين آناء الليل وأطراف النهار، وتدار بعناية فائقة من قبل محترفي تسويق أكفاء ،يعملون في صناعات الموضة والترفيه.
وفي غمرة انتشارها تجاوزت هذه القوى الاقتصادي إلى السياسي، فالسياسيون أيضا يستعينون بأعداد كبيرة ومحترفة من المستشارين ليختبروا لهم كل ما يفعلونه، وذلك من أجل الهيمنة على عقول الناخبين ووجدانهم. فالملابس وتعبيرات الوجه ونبرات الصوت والمكياج وطرق تصفيف الشعر والخطب والتصريحات ،تخضع جميعها لعمليات تدقيق وتحسين، تماما مثل اختيار وجبة من الحبوب للإفطار.
ولحسن الحظ، تعمل مصادر الهيمنة بطريقة تنافسية، فإذا كان بعضهم يريد إقناعنا بشراء أو تصديق شيء ما، فإن آخرين يريدون إقناعنا بشراء أو تصديق شيء آخر. ويكمن السبب الرئيس فيما تبقى لنا من هامش حرية وتوازن نسبي في هذه الطبيعة التنافسية لمجتمعاتنا.
لكن.. ماذا يمكن أن يحدث إذا ظهرت مصادر هيمنة جديدة ليس لها هذه الطبيعة التنافسية؟ وماذا يمكن أن يحدث إذا تم تطوير وسائل جديدة للتسلط على الأفكار والمشاعر أشد قوة وأعظم خفاء من تلك التي استخدمت في الماضي؟ وماذا يمكن أن يحدث إذا سمحت أنماط جديدة من الهيمنة لحفنة من الأفراد بممارسة تأثير ساحق ،ليس فقط على مواطني الولايات المتحدة، وإنما على أغلب سكان هذا الكوكب من البشر؟
قد تذهلك قراءة هذه الحقائق حد الصدمة، لكن إبشتاين يؤكد أن هذا ما حدث بالفعل. وهذا ما سنوضحه في الجزء القادم من المقال.
يمكن الاطلاع على النص الأصلي للمقال باللغة الإنجليزية من هنا ?