يجدد هجوم نيوزيلندا الحديثَ حول خطر اليمين المتطرف، ويدفع الباحثين للتساؤل عن عوامل صعود خطاب اليمين المتطرف، وتحوله إلى تطرفٍ عنيف، ويبحث عن جدوى، تصاعد طروحات المفاضلة: بين إرهاب داعش واليمين المتطرف؟
عوامل صعود اليمين… واليمين المتطرف
تتنافس العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية، والدينية، في تبرير صعود التيارات السياسية الجديدة، ومن بينها اليمين المتطرّف، الذي تعززه حزمة قيمٍ اقتصادية نشأت استجابةً للنيوليبرالية أو على أنقاضها، تنضم إليها أجوبة ما بعد حداثية تائهة؛ ترتد بالإنسان المرعوب إلى دفء وأمان الهويّة والوطن الخالي من الغرباء!
تطل الأزمة المالية العالمية، في مقدمة التفسيرات للعوامل، أو هكذا ذهب “سيزاريو رودريغيز أغيليرا” أستاذ العلوم السياسية في جامعة برشلونة، حينما قال: “على الرغم من وجود تداخلٍ، في العوامل المؤدية إلى صعود اليمين المتطرف، في مختلف البلدان الأوروبية، ما بين عوامل: سياسية، وثقافية، واجتماعية، واقتصادية، فإن الحدث الأهم، الذي أثّر في صعود اليمين المتطرف: تمثل في الأزمة المالية العالمية 2008، وما تبعها من سعي حثيث، اتبعه الاتحاد الأوروبي، والسلطات الوطنية، لتدابير ضبط العجز، وتبعات السياسات النيوليبرالية؛ والتقشف.
زادت هذه السياسات الاقتصادية من الفجوة بين طبقات المجتمعات الأوروبية، ومن ثم وفرت لليمين المتطرف الفرصة لاستغلال استياء المتضررين؛ والترويج لأفكاره[1].
علينا الانتباه -هنا- إلى أنّ هذه الطبقات التي تزيد الفجوة بينها، يُشَكِل المُهاجِرون، عنصرًا مهمًا في المنافسة والتقارب، وفي صناعة المواقف.
لذا لا نخطئ إذا قلنا: إنّ ملف الهجرة؛ يحتل المنصة الأولى؛ لدى من يعتمد التحليل الاجتماعي والديموغرافي، إذ شَكّلت الهجرة عاملاً رئيسًا لصعود اليمين المتطرف في أوروبا، وتراجع دعم الناخبين لمن يدعم سياسات الهجرة. كما عارض الناخبون القوانين التي تسهّل الهجرة… وبالإجمال، استطاعت الحركات اليمينية الصعود على ظهر المخاوف، في وقتٍ بدت الأحزاب العمالية التقليدية وكأنها ستسمح للمهاجرين بالتدفق دون ردع[2].
ذهب “هانز جوج بتز” إلى أن بعض التحليلات، لأسباب صعود اليمين المتطرف في أوروبا تمثلت في تأكيد الربط بينها وبين ارتفاع أعداد المهاجرين. بوصف الأحزاب اليمينية الموصوفة “بالتطرف” على أنها خيار سياسي مضاد للهجرة، مثل حزب الأزمة الواحدة بأستراليا، وحزب نيوزيلندا أولاً، بنيوزيلندا[3].
هنا ملاحظة: إن اختزال هذه الأحزاب كلها في سلّة واحدة، وتسميتها باليمينية، قد يكون فيه إشكال متسرّع؛ يذكرنا بإشكال الخلط بين الحركات الإرهابية: السنية والشيعية، والإسلام السياسي الشعبي والتقليدي والسياسي و”الجهادي”. وهو خلط يؤخر فهم المشكِل، ويؤجل الحل، وربما يزيد التعقيد.
بالنظر في نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية في الفترة من (2002-2017) يلاحظ ارتفاع نسب التصويت للأحزاب اليمينية المتطرفة مع ارتفاع أعداد المهاجرين في الفترة نفسها. وهذا ما رصدته دراسة أعدها “لويس ديفيس وسميث س. ديول” بعنوان “الهجرة وصعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا”[4].
الإسلاموفوبيا
مثّل انتشار الإرهاب والأفكار المتطرفة عالمياً دعماً للفكر اليميني. فأدى ظهور داعش لإثارة المخاوف لدى الرأي العام الأوروبي، والشك في قدرة الحكومات الأوروبية[5] على حماية مواطنيها، وسمَح هذا الأمر، لقوى اليمين المتطرف بأن تروج لكون الإسلام يمثل تهديدًا رئيساً لشعوب أوروبا ونيوزيلندا وكندا وحتى أميركا، بتعدد هويتها وقيمها، ولربما وظّفت هذه المخاوف لتحقيق أهدافها.
جاءت العمليات الإرهابية التي تعرضت لها الدول الأوروبية من قبل جماعات داعش والقاعدة، وسيلة تبريرية للعمليات الإرهابية المحسوبة على اليمين المتطرف، في الداخل الأوروبي، وهذا ما تفسره العلاقة بين عدد العمليات المرتبطة بالطرفين في السنوات الماضية.
داعش أم اليمين المتطرف؟!
أظهر تقرير أعده مجموعة من الباحثين في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية “CSIS” ديسمبر (كانون الأول) 2018 بعنوان (من الجيش الجمهوري الأيرلندي إلى الدولة الإسلامية: تطور تهديد الإرهاب في أوروبا)[6]، أظهر تنامي العمليات الإرهابية لليمين المتطرف والإرهاب الداعشي، بتناسب طردي، على مدار السنوات السابقة. فعدد العمليات الإرهابية التي شهدتها أوروبا منذ عام 2012 حتى عام 2017، بلغ نحو (158) عملية إرهابية، وبلغ عدد العمليات الإرهابية المرتبطة بداعش والقاعدة وأتباعهما منها نحو (71) عملية، في حين بلغ عدد العمليات المتربطة باليمين المتطرف (87) عملية إرهابية!
المصدر: تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية “CSIS”
بخلاف عامي 2012 و2013، بدت منحنيات الصعود والهبوط في عدد العمليات الإرهابية المرتبطة بكل من “داعش والقاعدة” وأتباعهما، و”اليمين المتطرف” في أوروبا متشابهة؛ حيث إنه في عام 2014 شهدت العمليات المرتبطة بالطرفين زيادةً لتسجل (2)و(4) لـ”داعش”، و”اليمين المتطرف” على التوالي، ثم ارتفعت في 2015 لتسجل (17) و(23) لـ”داعش”، و”اليمين المتطرف” على التوالي، وبالعام 2016 انخفضت العمليات المحسوبة على الطرفين لتسجل (13) و(21) لـ”داعش”، و”اليمين المتطرف” على التوالي، ثم عاودت الارتفاع بالعام 2017 -الذي مثل العام الأول منذ 2012 الذي تسجل فيه داعش والقاعدة في أوروبا عمليات أكثر من اليمين المتطرف- لتسجل (33) و(30) لـ”داعش والقاعدة”، و”اليمين المتطرف” على التوالي. كما يوضح المخطط التالي:
المصدر: تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية “CSIS”
من ناحية الأهداف، فقد جاء تركيز “السلفية الجهادية” بالأساس على المواطنين والجيش والشرطة ومؤسسات الأعمال، إلى جانب استهداف الطائرات والمطارات، أما اليمين المتطرف، فركز بصورة أساسية على المواطنين ودور العبادة والشركات.
المصدر: تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية “CSIS”
نيوزيلندا… صفعة في وجه الجميع
نهاية يناير (كانون الثاني) 2019، اعترضت حركة “نيوزيلندي السيادة” على موقف الحكومة النيوزيلندية الداعم لاتفاق الهجرة العالمي؛ إذ هدد مئات التابعين للحركة من الكيويين –لقب يطلق على مواطني نيوزيلندا- بمسيرة مناهضة لدعم الحكومة لاتفاق الهجرة. ونشرت في ذلك الصدد إعلانات في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي. الإعلانات لم تكن الأولى بشأن معارضة موقف السلطات النيوزيلندية من الاتفاق، بل نشرت مواد على مواقع إلكترونية عدة مثل ديلي ستورمر ” Daily Stormer” وبريتبار ” Breitbart”.[7]
“تود ماكلاي” عضو البرلمان عن روتوروا والمتحدث الرسمي باسم الشؤون الخارجية والتجارة والسياحة، كتب مقالاً بعنوان “الأسباب الحقيقية لمعارضة الميثاق العالمي للأمم المتحدة بشأن الهجرة” أوضح فيه الأسباب الدافعة نحو رفض الاتفاق بشأن الهجرة في نيوزيلندا. رأى “ماكلاي” أن صياغة مواد وبنود الاتفاق بشأن الهجرة من الأمم المتحدة أمر ليس مناسباً، فلكل دولة ظروفها وأوضاعها الخاصة: ومن ثم لا يمكن أن تكون البنود المصاغة من قبل الأمم المتحدة مناسبة للجميع. وتناول فشل تمييز الاتفاق بين الهجرة الشرعية والهجرة غير الشرعية. واعترض على المادة (17) من الاتفاق، حيث رأى أنه في الوقت الذي يدعو فيه الاتفاق لاحترام حرية الرأي والتعبير، فإنه يضع سياسات من شأنها توجيه الإعلام فيما يتعلق بقضايا الهجرة[8].
شهد اليمين المتطرف في نيوزيلندا نشاطاً على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة على موقع “facebook”، عبر مشاركة مواد ومقالات تتعلق باليمين المتطرف عالمياً، ومنها مجموعة “Yellow Vest New Zealand” التي يديرها “جيسي أندرسون” زعيم حركة “نيوزيلندي السيادة”. والتي تحتوي في داخلها على دعوات لحظر أو تقييد الأديان الوافدة ومن بينها الإسلام في نيوزيلندا. ويصف البعض لغتها بأنّها متطرفة. وقد تناولت أعداد المسلمين ومساجدهم بصورة مفزعة، فقد عبر البعض عن أن “وجود (9) مساجد في ويلينغتون، وانتشار الطعام الإسلامي، أمور تهدد الهوية النيوزيلندية”.
بينما يرى “بول سبونلي” (نائب رئيس كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ماسي) أن المجتمع النيوزيلندي عرضة لليمين المتطرف. حيث أطلق على بعض المعارضة اسم “الموجة الجديدة من سياسة المؤامرة المحافظة”، ورأى أنهم وإن لم يشكلوا جزءًا من اليمين المتطرف، إلا أن ناشطيهم قادرون على ترجمة معارضتهم للدولة، إلى سياسات يمينية متطرفة[9].
ظهرت آثار تحركات اليمين المتطرف في نيوزيلندا في قضية المهاجرين؛ على “برينتون تارانت” منفذ هجوم كرايست تشيرش Christchurch، “اللاجئون، أهلا بكم في الجحيم؟”[10]
خلاصة
تبدو قضيّة اليمين المتطرف لافتة في ساحة دراسات العنف، ولكن الدراسات الجديدة فيه فقيرة؛ ومتجاوزة للدراسات القديمة التي اهتمت بتطرفاته وتأسيسه لعنفٍ تاريخي انتهى، ولكنّ الأسماء غير الأسماء؛ لذا تبدو التسمية اليوم ناقصة، وتحتاج إلى تدقيق. وهذه الملاحظات العاجلة حول الدراسات المستعجلة، مهمة؛ إذ تقدّم خدمةً لدراسات العنف السياسي والأيديولوجي والإرهاب؛ ذلك أنّها تكشف أنّ صدمة العنف، ربما تجرّ أجوبة متسرعة عن أسئلةٍ في غير محلها.
فلربما تكشف بشاعة حادثة نيوزيلندا، أنّ أنماطاً جديدة من اليمين، تتأدلج بسرعةٍ في اتجاهٍ عنفي يتجاوز “صناعة السخط” والخوف، ويعبر الدول، ويحتاج إلى أدوات تحليلٍ جديدة، ولربما تمهّد لدرس أعمق!
[1]– Cesáreo Rodríguez-Aguilera, The Rise of the Far Right in Europe, European Institute of the Mediterranean, 2014:
[2]– Christine Coester, RISE OF THE RIGHT Europe’s left turns right on immigration, handelsblatt, JULY 24, 2018:
[3]– ريناس بنافي، صعود اليمين المتطرف الأسباب والتداعيات: دراسة تحليلية، المركز الديمقراطي العربي، مايو (أيار) 2017:
https://democraticac.de/?p=46400
[4]– Lewis Davis and Sumit S. Deole Immigration and the Rise of Far-Right Parties in Europe, CESifo Group Munich, 2017:
https://www.cesifo-group.de/DocDL/dice-report-2017-4-davis-deole-december.pdf
[5]– مروة نظير، تداعيات مقلقة: مؤشرات وأسباب صعود اليمين المتطرف في أوروبا، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، يونيو (حزيران) 2016:
[6]– Seth G. Jones, Boris Toucas, and Maxwell B. Markusen, From the IRA to the Islamic State: The Evolving Terrorism Threat in Europe, Center for Strategic and International Studies (CSIS), December 2018:
https://csis-prod.s3.amazonaws.com/s3fs-public/publication/190103_EuropeanTerrorism_interior.pdf
[7]– Marc Daalder, The furious world of New Zealand’s far right nationalists, the spin off, FEBRUARY 2, 2019:
https://thespinoff.co.nz/politics/02-02-2019/will-the-far-right-movement-rise-in-new-zealand/
[8]– Todd McClay, The real reasons we oppose the UN Global Compact on Migration, the spin off, DECEMBER 11, 2018:
[9]– Marc Daalder, OP.
[10]– ماذا كتب منفذ “مذبحة نيوزيلندا” على سلاحه؟، سكاي نيوز:
نقلا عن: مركز المسبار للدراسات والبحوث