تقف الأمم أمام أزماتها وهي تستند إلى تاريخها، وما تحمله تجاربها السياسية والاجتماعية والفكرية من حمولات معرفية، وحضارية تؤهلها للصمود أمام تلك التحديات، فضلا عن سعيها الدائم لتجديد حيويتها في إطار تبلور ظروف ومسارات جديدة. وتبدو الحالة المصرية حاضرة في ذلك، وهي تحاول أن تطرح تأويلاتها المعاصرة في قضية المواطنة، التي تلقي لنا بإشكالياتها دوماً، كلما حاولنا القطيعة مع مفرداتها في إطار التطور السياسي.
استلهام هذه الحالة واستحضارها فى التاريخ المصرى الحديث يقودنا إلى الحديث عن ثورة 19التى تجلى فيها مفهوم المواطنة -وبقوة – وهو ما تناوله الباحث «أبو سيف يوسف» فى كتابه المهم: «الأقباط والقومية العربية»: الذى يقول فيه: «يميل الباحث إلى تقرير أن ثورة 1919 قد ارتفعت بقضية التكامل القومي بين المسلمين والأقباط إلى مستوى لم تبلغه من قبل، إضافة إلى المفاهيم التي طرحتها؛ الشعب الواحد، الجامعة الوطنية، الجامعة القومية، المواطنة».
الباحث «أبو سيف يوسف» وكتابه «الأقباط والقومية العربية»
هذا يعني أن مصر، وهي تحتفل بمرور المائة عام الأولى على ثورة 19، والتي خبرت خلالها تبلور جملة من القيم الفكرية والحضارية، تملك تاريخا حافلا من خبرة المواطنة، وقيمها وخطابها المعرفي والتطبيقي في نواح عديدة، كلها تتعلق بكفالة حقوق وواجبات الجميع على حد سواء، وما زالت تضطر إلى اللجوء لذلك التراث باعتباره أحد المرتكزات التي ترتكن إليها، كلما وقع طارئ في العلاقة بين المسلمين والأقباط.
بيد أنها تفتقر إلى خلق تيارات عذبة تتدفق في أوردة وشرايين الوطن التي تتصلب بفعل عوامل الانسداد السياسي، وتديين السياسة المصرية الذى خبرته مرات عديدة ،خاصة عقد السبعينات، حين عقد الرئيس الراحل أنور السادات صفقته مع الإسلام السياسي، المتمثل في جماعة الاخوان المسلمين، وهي الصفقة التي يرى كثيرون أنها سلبت من قيم المواطنة مقوماتها وعناصرها الفاعلة.
سياسات استعمارية
تبدو قضية المواطنة في الحالة المصرية، رهينة لحظة تاريخية؛ تتشكل وفقا لظروفها وطبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها. وعلى ضوء ذلك تتموضع أطر المواطنة طرديا مع ظروف ومتغيرات الحالة السياسية والتاريخية التي تعيشها مصر. ففي ظرف تاريخي شديد الخصوصية من الناحية السياسية، كانت البلاد فيه خاضعة للاحتلال البريطاني، وما كرسه من سياسات تعمل على ضرب الحركة الوطنية، وفصل الأقباط عن المسلمين، ومحاولة عزلهم عن تيار الحركة الوطنية المناوئة للاحتلال، استطاع المعتمد البريطاني سير «الدون جورست» اقناع الخديوي عباس حلمى بتعيين بطرس باشا غالي رئيسا للوزراء في العام 1908. وكان يهدف من وراء ذلك إلى خلق فجوة بين أبناء الأمة المصرية، خاصة وأن بطرس باشا كان على رأس محكمة دنشواي (التي أصدرت أحكاما بالإعدام على عدد من الفلاحين المصريين)، كما كان مؤيدا لمد امتياز قناة السويس، بالرغم من معارضة الرأي العام الوطني لذلك.
المؤتمر القبطي
وفي خضم هذا التوتر يقرر ابراهيم الورداني طالب مدرسة الحقوق اغتيال بطرس باشا غالي ليتحقق للمعتمد البريطاني بعضا من أهدافه في شق الصف الوطني. وفي سياق ذلك، يدعو عدد من وجهاء الأقباط إلى عقد ما سمي حينها «الجمعية العمومية للقبط » وعرف تاريخيا «بالمؤتمر القبطي»، والذي انعقد في أسيوط بصعيد مصر، في السادس من مارس 1911. في هذا المؤتمر أعلن أن للأقباط، خمسة مطالب رئيسية، منها مطلبان لا يزالان حتى الآن على رأس أولويات الأقباط، وهما: تبوء المناصب الإدارية في جهاز الدولة، دون تمييز، والتمثيل في المجالس النيابية.
وردا على «المؤتمر القبطي» انعقد في منطقة «هليوبوليس» مع نهاية شهر أبريل 1911 «المؤتمر المصري» الذي شارك فيه عدد كبير من كبار ملاك الأراضي وعلماء الدين، وكانت القيادة الفعلية في أيدي شخصيات بارزة من حزب الأمة مثل أحمد لطفي السيد وعبدالعزيز فهمي. خلص هذا المؤتمر إلى رفض تقسيم الحقوق السياسية في مصر بين طوائفها الدينية، على أساس أن الامة المصرية في مجموعها كل لا يقبل التجزئة في الحقوق السياسية، والأخذ بمبدأ الكفاءة كقاعدة للتعيين في وظائف الحكومة.
الوفد والمواطنة
ثمة استجابة لقيم المواطنة في الحالة المصرية لتيار الجامعة الوطنية، حين يضم عناصر المجتمع الى حاضنته ويأخذ بأيديهم نحو التكامل. نجد ذلك واضحا حين التف المصريون جميعا حول حزب الوفد وسعد زغلول الذي كان يجري مشاورات مع رفاقه في تشكيل الوفد الذي سيقابل المعتمد البريطاني «ريجنالد ويجنت». فقد اجتمع نفر من الأقباط في نادي رمسيس بالقاهرة عام 1918 وقرروا انتداب ثلاثة من الحاضرين للذهاب لمقابلة سعد زغلول ببيت الأمة، وهم فخري عبدالنور، ويصا واصف، وتوفيق اندراوس، حيث دار الحوار حول اختيار عضو أو أكثر من الأقباط في الوفد. واستقر الرأي على اختيار واصف غالي، ثم ارتأى الوفد ضم سينوت حنا، وجورج خياط. وارتفعت وتيرة أحداث الثورة مع الثامن من مارس 1919، حينما بلغ الشعب المصري نبأ نفي سعد زغلول ورفاقه الى مالطة، وارتفعت مع الثورة مقولات «يحيا الهلال مع الصليب»، والدين لله والوطن للجميع.
كما تجلى مفهوم المواطنة على أبهى ما يكون، حين رفض الأقباط التمثيل النسبي عند وضع دستور 1923، إذ أدلى «ويصا واصف» بك المحامي وعضو الوفد ببيان صحفي قال فيه: «ليس في مصر إلا مصريون ،وأنهم جميعهم سواء على غير تمييز بين أكثرية وأقلية، وعلى هذا فإن الإدعاء بأن الأقباط يكونون أقلية هو فى حكم اعتبارهم أجانب عن القطر المصري، وأنى لمتأكد أنه لن يكون فى البرلمان إلا أحزاب سياسية بمعناها العصري، وأن الأقباط سيكونون مبعثرين فى جميع هذه الأحزاب ،وهم ما كانوا أبدا فى أي وقت من الأوقات موضوع أي قانون استثنائي، بل هم قد عوملوا تماما معاملة المصريين، وتمتعوا بجميع الحقوق حتى كان تمتعهم بها قبل الاحتلال البريطاني بأحسن من تمتعهم بها بعده».
ويصا واصف باشا رابع رئيس للبرلمان وأول رئيس قبطي للبرلمان
وكان ممن رفضوا هذه الفكرة أيضا الدكتور طه حسين الذى كتب مقالا يقول: «إنه إما أن نقطع الصلة مع الماضي لإيجاد دولة عصرية تقوم على وحدة سياسية صحيحة، وإما أن نستبقيه فنحتفظ بوحدتين سياسيتين ليس حظ إحداهما من السيادة بأوفر من حظ الأخرى»
توظيف الدين
في الوقت الذي تبلورت فيه قيم المواطنة خلال ثورة 1919 كواحدة من أهم القيم التي تجلت خلال أحداث الثورة، ودور سعد زغلول في ذلك، تغير الظرف التاريخي في اتجاه مغاير مع رحيل سعد زغلول في العام 1927، والسعي الدؤوب من قبل الملكين فؤاد ثم فاروق نحو تحقيق هدف تجاوز شعبية حزب الوفد من خلال استثمار وتوظيف الدين ومؤسساته في السياسة والحكم، وهو ما ترك آثاره الواضحة على المواطنة طيلة العقود التي تلت ثورة 1919 وحتى قيام ثورة 23 يوليو 1952.
كان لسقوط الخلافة العثمانية ونشاط المبشرين الأجانب في ظل استراتيجيتهم الجديدة نحو التنصير، دوره الواضح في تنامي التيار الاصولي الذي تبلور مع أواخر العشرينات بظهور جمعية الشبان المسلمين وجماعة الاخوان المسلمين بقيادة حسن البنا الذي انطلق في مسارات جديدة مع النصف الثاني من ثلاثينات القرن الماضي، حينما أطلق رسالة المؤتمر الخامس التي أسست لظهور تيار الاسلام السياسي من خلال نشاط الاخوان.
في ذلك التوقيت كان الملك فاروق يجلس على عرش مصر بعد وفاة والده الملك فؤاد، وكان مصطفى النحاس باشا قد أتم معاهدة 1936، وكان فاروق يرقب رئيس ديوانه الملكي علي ماهر وهو يسعى نحو توظيف دور الاخوان المسلمين لتجاوز حزب الوفد وشعبيته باسم الدين؛ الأمر الذي سمح لهم بنشاط واسع خلال تلك الفترة للطعن في حزب الوفد بأنه يخضع لسلطة الأقباط، وأن مكرم عبيد هو من يقود الوفد ورئيسه مصطفى النحاس.
في اطار ذلك كله تنامي رفع شعارات الخلافة الاسلامية من قبل الملك فاروق على حساب شعارات الجامعة الوطنية، مما كان له أثره الواضح في انحسار تراث ثورة 1919 الذي تشكل من خلال مفاهيم الجامعة القومية، وقيم المواطنة خلال عقود سبقت ثورة 1952. وبعد مائة عام على ثورة 1919، لاتزال مصر تتحرك على هامش سؤال المواطنة، وتتشابك مع عدة خطابات تتعلق بهذا المفهوم وتتركه هائما في فضاء المجهول.