ما بين مارس 1892 ومارس 1919 كانت مصر تمتلئ رفضا وثورة، وكانت شوارعها حبلى بمشاعر الغضب والتمرد على محتل لا يفي كلما وعد. مصر التي خرجت من الثورة العرابية تبحث عن هويتها وجدت ضالتها في ثورة شعبية عارمة في 1919.. ثورة مدنية بامتياز تنهى جدل الهوية الذى أشعل جنبات صالونات الافندية ومقاهي المثقفين. في هذه الأجواء بدت المحروسة وكأنها كانت تنتظر سيد درويش وقد أتى في اللحظة المناسبة.. إنه القدر الذى منحه تلك الفرصة ليغنى مصر وتغنيه في لحظات توهج وطني استثنائية.
معاناة صعبة
فى 17مارس 1892 وفى حى كوم الدكة بالأسكندرية وُلد «سيد» للأب «درويش البحر» والأم «ملوك عيد»، وكان الأب قد أنجب ثلاث بنات قبله، هن «فريدة» و«ستوتة» و«زينب» ما جعل اهتمام الأسرة بطفلهم الوحيد أكثر وأكثر رغم ضيق الحال وصعوبة الحياة.
رحل الأب وترك بينما لم يتجاوز عمر «سيد» سبع سنوات، فوجد نفسه فجأة مسئولا عن الأسرة، ولا بديل عن تحمل تلك المسؤلية، فاضطر الطفل إلى العمل والدراسة في اّن واحد. والتحق بمدرسة يملكها حسن أفندى حلاوة وفيها تعرف الطفل «سيد درويش» على سامي أفندي مدرس الموسيقى، الذى تعلم على يديه بدايات العزف على العود وحفظ الاناشيد. ثم انتقل بعد ذلك الى المعهد الدينى العلمى وكان يرتدى زيا أشبه بزي رجال الأزهر، ولهذا السبب أُطلق عليه لقب «الشيخ سيد درويش»
سيد درويش
تزوج سيد درويش مبكرا جدا، وكان عمره لا يتجاوز 16 عاما وأنجب طفلين هما محمد وحسن البحر، ونظرا للأوضاع الاقتصادية القاسية اّنذاك اضطر للعمل بالغناء لأول مرة فى فرقة «جورج داخور» التي كانت تعمل في مقهى «إلياس»، وبعد حل الفرقة قام بالغناء فى مقهى «أبو راضى»
وفى عام 1908 بدأ سيد درويش رحلته مع احتراف الغناء، تلك الرحلة القصيرة التى تغير معها وجه الموسيقى العربية تماما، حيث نقلها درويش من تأثير العثمانيين والتطريب والتليِيل إلى موسيقى تنبض بحياة المصريين ومعاناتهم وأحلامهم.
كانت رحلة سيد درويش الفنية الأولى إلى الشام في العام 1909 بصحبة فرقة «الأخوين سليم وأمين عطا الله» و استمرت عشرة اشهر تعرف خلالها على «عثمان الموصلي» أحد أهم الموسيقيين فى بلاد الشام. وفى عام 1912 أرسل له سليم عطا الله يدعوه مرة اخرى الى رحلة الشام، وكان سيد درويش يعانى معاناة شديدة بسبب سوء الاحوال الاقتصادية وحالة الكساد وعاد بعد عامين قضاهما يغنى ويتعلم اصول الغناء.
رفيق المشوار
ومن جديد يعود «سيد درويش» إلى الاسكندرية، لكنه هذه المرة كان حلمه الفنى قد سيطر عليه، وضاقت به عروس البحر المتوسط فنصحه الاصدقاء بالترحال الى القاهرة حيث الاضواء والفن ورموزه، وبالفعل ينتقل سيد درويش الى قاهرة المعز ويقدم أولى حفلاته فى كازينو «البسفور» عام 1917 بينما كانت الحرب العالمية الاولى لا تزال مشتعلة. عقب هذه الحفلة تعرض «الشيخ سيد» لهجوم عنيف من رواد الموسيقى التقليدية الذين وصفوه ب«المخرب والمتفرنج» الذى جاء ليفسد الموسيقى الشرقية العريقة التي توارثها الموسيقيون الاوائل. بعدها التقى مع جورج أبيض الذي يتفق معه على تلحين مسرحية «فيروز شاه» التى أحدثت دويا هائلا فى الوسط الفنى وكانت سببا فى تعرفه برفيق دربه ومشواره الفنى والوطنى الشاعر «بديع خيرى» «1863- 1966» الذى كان يشاهد العرض وسأل عن صاحب الموسيقى وتعرف على سيد درويش واحتضنه فى أول لقاء وكأنه وجد ضالته. ويتعاقد سيد درويش مع نجيب الريحانى الذى كانت تربطه صداقة وطيدة ببديع خيرى ويتفقا ن على أن يتولى درويش تلحين كافة مسرحيات فرقة الريحانى.
شكّل لقاء «بديع خيرى – سيد درويش» حدثا فارقا فى تاريخ الموسيقى والغناء بل والمسرح المصرى أيضا، حيث استطاعا أن يشكلا ثنائيا فنيا ساهم في نقل الأغنية إلى كل مستويات الشعب المصرى وجعل لها دورا فى حياة المصريين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى «1914-1918» قدّم سيد دوريش وبديع خيرى واحدة من أنجح اغنياتهما وهى أغنية «سالمة يا سلامة» التى كتُبت للجنود المصريين الذين عادوا من «الجهادية» وتقول كلماتها:
«سالمة يا سلامة آه يا سالمة يا سلامة
سالمة يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة
سالمة يا سلامة
صفر ياوابور واربط عندك نزلني في البلد دي
بلا أمريكا بلا أوروبا مافيش احسن من بلدي
دي المركب اللي بتجيب احسن من اللي بتودي يا سطى بشندي
يا سالمة يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة
سالمة يا سلامة
طرته ما طرته اهو كله مكسب حوشنا مال وجينا
شوفنا الحرب وشوفنا الضرب وشوفنا الديناميت بعنينا
ربك واحد عمرك واحد ادحنا اهه روحنا وجينا ايه خس علينا
ياسالمة يا سلامة روحنا وجينا بالسلامة
سالمة يا سلامة»
قوم يا مصرى
ويرفض الانجليز الوفاء بوعودهم للمصريين بالاستقلال، فينفجر الغضب الشعبي الذى يتزايد مع نفى سعد زغلول ورفاقه وتشهد مصر ملحمة وطنية استثنائية فى تاريخها الحديث، وتجد فى عود سيد درويش وحنجرته وكلمات بديع خيرى ومسرحه، صوتها الذى يعبر عنها ،وضميرها الحي اليقظ.. إنه المُحرّض والمُقاوم سيد درويش الذى خرج خلال المظاهرات بصحبة رفيق دربه وقادا المظاهرات ويهتف «قوم يا مصري مصر دايما بتناديك» لتمثل هذه الأغنية نشيد الثورة الأروع والأبرز الذى ردده كل من شارك في ثورة الحرية 1919. هذا اللحن الذي قدّمه سيد درويش من كلمات بديع خيرى خصيصا ليتواكب مع الثورة المصرية وتقول كلماته:
«قوم يا مصري، مصر دايما بتناديك
خد بنصري، نصري دين واجب عليك
يوم ما سعدي راح هدر قدام عينيك
عد لي مجدي اللي ضيعته بإيديك
شوف جدودك في قبورهم ليل نهار
من جمودك كل عضمة بتستجار
فين آثارك ياللى دنست الآثار
دول فاتوا لك مجد وانت فوت عار»
وتشتعل الثورة ويشتعل صوتها ويلتف المصريون حول ضميرها وقلبها الحى الذى وجدوه فى صوت سيد درويش، وكأن مصر كانت تنتظر صوته وموسيقاه لكى تنطلق فى ثورتها خلفه، ويسقط شهداء من أجل الحرية فى صدامات مع المحتل ويغنى سيد درويش
وعندما يقرر الاحتلال منع تداول أسم سعد زغلول يلجأ صوت الثورة للتحايل ويقدم اغنية «يا بلح زغلول يا حلاوتك يا بلح ..يا بلح زغلول يا زرع بلدي.. عليك انادى في كل وادى» وهي الأغنية التي غنتها «نعيمة المصرية»، لينطلق اسم سعد زغلول على كل الألسنة ،ويفشل الاحتلال فى السيطرة على مشاعر المصريين التى عبر عنها فنان الشعب.
وتمثل المرحلة الفنية التى عاش فيها سيد درويش تَجليا هاما وشديد الدلالة فى تشكيل فن مصرى خاص يعبر عن المصريين ويتفاعل معهم. فقد كانت لحظة ثورة 1919 كاشفة لامكانيات مصر وطاقات شعبها ،سواء على مستوى النضال وسبله ووسائله، أو على مستوى الفنون والثقافة التى لعبت دورا هاما فى التهيئة للثورة وتفاعلت معها.
وخلال مسيرته الفنية القصيرة زمنيا، الغنية فنيا ، قدّم درويش حوالي 432 عملا غنائيا ، توزعت ما بين الأغنية والطقطوقة والتلحين ،وقدم 31 مسرحية غنائية ما بين عام “1917 حتى وفاته 1923” .وتمثل هذه الفترة قمة العطاء فى حياة سيد درويش الفنية وهى الفترة التى استقر بها فى القاهرة وصار محترفا تماما للموسيقى.
أهو ده اللى صار
تقول الدكتورة سمحة الخولى فى كتابها «رحلتي مع الموسيقى» :قبل سيد درويش كانت الموسيقى المصرية لا تعرف غير الشجن والوجد والهيام، وبعد سيد درويش كانت الموسيقى تغني للوطنية وتعبر عن طوائف العمال وتوحي بجو الريف وتسخر من الحكام الطغاة. فقد كان عن حق باعثا جديدا للوطنية المصرية، الذى التقط عبارة مصطفى كامل «بلادي بلادي لك حبى وفؤادي» ليستكملها الشاعر محمد يونس القاضي وتتحول الى واحد من أهم الحان سيد درويش، والذى صار نشيدا وطنيا لمصر منذ 1979 بعد أن قام الموسيقار محمد عبد الوهاب بإعادة توزيع اللحن.
ولم يكن الدور العظيم الذى قام به «سيد درويش» فى ثورة 1919 بمعزل عن مواقفه الوطنية التى ظهرت فى أعماله، خاصة فى معالجة مشاعر المصريين تجاه الحرب العالمية الأولى، ولا يمكن أن نرصد تلك المواقف التى شكلت هوية مصر الفنية خلال القرن العشرين بمعزل عن التأثير الكبير لعلاقة سيد درويش بالشاعر بديع خيرى الذى يمثل أحد أهم الركائز المهمة في تجربة وانحيازات سيد درويش الاجتماعية والقومية، وقد وساهم الشاعر بيرم التونسي أيضا في تعزيز نفس التوجه وذات الانحيازات.
وقد عبّر «سيد درويش» عن تلك المواقف في اغنياته للمهمشين والمقهورين، وفى دعمه للمرأة المصرية وتقدير دورها الوطني، كما عبر عن استيائه من وضع مصر تحت الاحتلال في أروع اغنياته وأخلدها حتى اليوم وهي أغنية «أهو ده اللي صار»، والتي تمثل واحدة من أيقونات الرفض والتمرد ضد كل شكل من أشكال التردي والتراجع في كل زمان وقد كتبها بديع خيرى وقال فيها:
«تلوم عليّ ازاى يا سيدنا وخير بلدنا ما هوش فى ايدنا
قلي عن أشياء تفيدنا وبعدها أبقى لوم عليّ
مصر يا أم العجائب شعبك أصيل والخصم عايب
خلي بالك من الحبايب دولا أصحاب القضية »
مائة عام تمر على ثورة 1919 ويبقى سيد درويش هو صوت هذه الثورة المصرية الدائم، بدأ معها ولايزال حاضرا حتى الان في وجدان الحركة الوطنية المصرية والموسيقى العربية التي لعب دورا رئيسيا في تجديدها، ليظل أغنية وطنية خالدة.
صورة الغلاف بريشة الفنان: سعد الدين شحاته
الفيديو جرافيكس
نص: بلال مؤمن
مونتاج وتحريك: عبد الله إسماعيل
مقال ممتاز عن فنان رائع يجسد أحد الروافد التأسيسية للوعي الوطني المصري الذي تعثر نهوضه حتي ماقرب انتهاء القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ، الجديد هنا ابراز دور بديع خيري في مسيرة سيد درويش وعلاقة ذلك بسياق هام جداً وهو ثورة 1919 بل وفي تقديري ان مشروع سيد درويش يعد احد هو احد اهم الملامح التأسيسية للثقافة الوطنية المصرية ..