رؤى

«امبراطوريات متخيلة» الصعيد.. المتمرد أبداً

في كتابها “امبراطوريات متخيلة” تنتقد المؤرخة المصرية والأستاذة في جامعة جورج تاون الأمريكية زينب أبو المجد نظرة الكثيرين من المؤرخين العرب وغير العرب على حد سواء إلى صعيد مصر وتاريخه٫ خاصة تاريخ الثورات الشعبية فيه.

حيث سيطرت على هذه النظرة- كما تشير المؤلفة- فكرة “مركزية العاصمة” التي تعتبر أن تاريخ مصر ينحصر في عاصمتها ولا تعبأ كثيراً بصعيدها ، وهي نظرة صاغتها “البرجوازية القاهرية” على حد تعبيرها ولاقت استحسانا عند المؤرخين الاستعماريين الذين يعبرون عن مؤسسات الدول الاستعمارية التي توالت على حكم مصر.

فهذه الإمبراطوريات الاستعمارية على اختلافها سواء فرنسا أو الدولة العثمانية أو بريطانيا سعت – كما ترى المؤلفة – الى تهميش الصعيد بشتى الطرق ودعمت في الوقت ذاته إخضاع الصعيد وهباته الشعبية بقوة العاصمة المركزية.

لذلك تسعى المؤلفة عبر صفحات كتابها الذي كان رسالتها لنيل درجة الدكتوراه إلى إعادة الاعتبار لما تسميه التاريخ البديل الذي يقدمه أهل الصعيد٫ حيث اعتمدت على الوثائق الرسمية المتوفرة من مكاتبات ومراسلات وغير ذلك لترسم صورة مغايرة لهذا القسم من أرض مصر.

شيخ العرب.. همام

تنطلق المؤلفة من بداية القرن السادس عشر الميلادي لترسم صورة لصعيد بدا وكأنه يدير ذاته بذاته بعيداً عن سيطرة العاصمة٫ حيث أن تجربة الدولة التي أنشأها أمير الصعيد همام بن يوسف الشهير بشيخ العرب والتي تناولتها الدراما التلفزيونية في مسلسل ذائع الصيت٫ كانت دولة تتمتع بقدر لا بأس به من الحكم الذاتي مستندة الى الفاعل الاجتماعي الأبرز في صعيد مصر ألا وهو “القبيلة”.

وتصف المؤلفة دولة الأمير همام بأنها كانت “دولة عادلة تمتع فيها الفلاحون بشكل ما من الرفاهية الاقتصادية٫ وتمتع فيها الأقباط بدرجة عالية من المساواة” خاصة مع نجاح الأمير في بسط نفوذه ونفوذ قبيلته على كامل أراضي إقليم الصعيد.

وكانت هذه الدولة -أو قُل الدويلة- على درجة عالية من الاستقلالية والقوة أهلتها ليكون لها علاقتها الخاصة بالسلطان العثماني في مقره في اسطنبول دون المرور على الوالي المُعين من قبل السلطان في القاهرة والذي يصفه تقرير عثماني بأن سلطته على تلك الدولة ذات الجيش المُكون من أربعة آلاف مقاتل كانت شبه منعدمة.

إلا أن هذه الدولة٫ كما تؤكد المؤلفة٫ لم تكن أول تجربة لتكوين سلطه مستقلة عن القاهرة٫ بل كانت امتداداً لوضع استقر منذ عام ١٣٨٠ حين استطاعت قبائل الهوارة العربية فرض سيطرتها على الصعيد وحين دخل العثمانيون الى مصر بقيادة سلطانهم سليم الأول لم يكن أمام السلطان سوى إقرار الوضع القائم بالفعل مكتفياً بعقد معاهدات سلام مع قادة قبائل الهوارة.

ورغم القضاء على دولة “شيخ العرب” لصالح دولة علي بك الكبير المركزية والتي سعت للاستقلال عن الباب العالي إلا أن تلك التجربة ظلت بمثابة  محور قراءة مهمة لعدد من  المؤرخين المصريين والأجانب مثل دون دومينيك ديفانت العالم والفنان الفرنسي الذي أشار إليها في كتابه المرجع “رحلة الى مصر العُليا والسفلى”.

 ثورة ..شيوعية !

أما الدولة المصرية الحديثة التي أنشأها محمد علي باشا فترى المؤلفة أنها سعت إلى إخضاع صعيد مصر مستخدمة في ذلك جيش القائد إبراهيم باشا في مهمة استغرقت منه ست سنوات.

لكن  هذا “الإخضاع” لم يوقف الانتفاضات الشعبية في صعيد مصر٫ حيث خرجت من قنا أكبر الاحتجاجات ضد حكم الباشا وأسرته في عام ١٨٢٤.

ومع انهيار تجربة الباشا في أربعينات القرن التاسع عشر تحت وطأة الضغوط الأجنبية٫ واجبار أوروبا حفيده اسماعيل على فتح الأسواق المصرية أمام السلع الأوروبية ومنح الأوروبيين امتيازات خاصة في مصر٫ اشتعلت جذوة العصيان مرة أخرى لدى الفلاحين في صعيد مصر٫ فانطلقت انتفاضة شعبية عارمة جديدة من قنا عام ١٨٦٤ بزعامة شيخ يدعى أحمد الطيب الذي زعم لأتباعه انه المهدي المنتظر ودعاهم للخروج على الخديو وتوضح المؤلفة أن المنتفضين هذه المرة لم يسعوا لإسقاط الضرائب الباهظة عن كاهلهم فقط وانما “طوروا خطاباً اكثر تقدماً لثورة شاملة ضد طبقة اصحاب الأملاك وضد سيطرة الأجانب على التجارة”.

واللافت أن هذه الانتفاضة التي عانت من تهميش المؤرخين٫ ذكرت أحداثَها شاهدة عيان انجليزية هي الليدي لوسي دوف جوردون والتي لم تجد وصفاً لها خيراً من أنها “ثورة شيوعية” رغم أنها بقيادة شيخ مُعمم وذلك نظراً لأهدافها المشار إليها.

وبعيداً عن الانتفاضات الشعبية٫ ظل هناك شكل آخر من اشكال التمرد في الصعيد يؤرق مسؤولي السلطة المركزية في العاصمة ونخبتها وهي “عصابات الفلاتية” كما تسميهم المؤلفة أو “المطاريد” والتي وفرت لهم جبال الصعيد بيئة مناسبة للتخفي والاختباء من مطارديهم والذين بلغوا درجة من الجرأة في القرن التاسع عشر جعلتهم يشكلون “مجموعات خارجة عن القانون في كل قرية ومدينة تقريباً” في مديرية قنا٫ الأمر الذي “حرم النخبة الحاكمة من التمتع بثرواتها و النوم هانئة”.

إن سياسات تهميش صعيد مصر أدت بالضرورة – وكما تكشف المؤلفة في كتابها –  إلى أن يرتبط الصعيد ورجاله في الذاكرة الشعبية دوماً بالتمرد والثورة٫ من الأمير همام الى الشيخ أحمد  ومن زعيم عصابات الفلاتية هريدي الرجيل إلى “خُط الصعيد” الشهير في القرن العشرين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock