* فيليب جيرالدي- المدير التنفيذي للمجلس الأمريكي للمصلحة الوطنية
*عرض وترجمة :أحمد بركات
هناك مقولة تنسب إلى المصرفي الفرنسي الشهير ناثان روتشيلد مفادها: «إمنحني السيطرة على أموال دولة ولن أبالي بعد ذلك بمن يشرع قوانينها». ولطالما شكك المحافظون في الولايات المتحدة في صحة هذه المقولة، وتعددت المطالبات بتدقيق ومراجعة حسابات وعمليات البنك الاحتياطي الفيدرالي ،بعد أن استقر في الضمير المحافظ أنه لم يكن يعمل دائما من أجل دعم المصالح الحقيقية للشعب الأمريكي.
اعطني إنترنت أغير لك وجه الحقيقة
من الممكن افتراض صحة تقدير روتشيلد في ضوء تلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي اجتاحت العالم بوجه عام – والعالم الغربي على وجه التحديد – في عام 2008، والتي قامت خلالها الحكومة الأمريكية بدور ’المنقذ‘ للمصارف والبنوك الوطنية الكبرى – التي تسببت مخالفاتها في وقوع الكارثة – مخلّفة وراءها المواطنين الأفراد وحدهم في مواجهة العاصفة بعد أن فقدوا الأخضر واليابس.
لكن فيليب جيرالدي، المدير التنفيذي للمجلس الأمريكي للمصلحة الوطنية ، يرى أنه لو كان لدينا نسخة حديثة من مقولة روتشيلد، فستكون “أعطني السيطرة على الإنترنت، ولن يعرف أحد الحقيقة على الإطلاق”. فالإنترنت الذي يُنظر إليه بالأساس على أنه منصة مفتوحة لتبادل المعلومات وتلاقح الآراء، يتحول بلا هوادة إلى آلة تتحكم فيها مصالح الشركات والحكومات، وتظل هذه المصالح سرا غير قابل للكشف أمام الغالبية العظمى من المستخدمين الذين يعكفون فعليا على استخدام المواقع الإلكترونية بطريقة مقبولة وآمنة للتواصل ومشاركة الآراء المختلفة.
فيليب جيرالدي
ففي بداية مقالته المهمة التي حملت عنوان«Goodbye to the Internet: Interference by Governments is Already Here» (ودعا للإنترنت تدخل الحكومات موجود فعليا) يؤكد جيرالدى – وهوضابط سابق بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) أن الكونجرس الأمريكي بدأ فعليا التلويح بوضع لوائح تنظيمية عندما قام باستدعاء الرؤساء التنفيذيين لمواقع التواصل الاجتماعي الكبرى في أعقاب انتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 2016.
وقد طلب الكونجرس تفسيرات تتعلق بأسباب وكيفية التدخل الروسي في هذه الانتخابات من خلال استخدام حسابات زائفة لنشر معلومات ربما أثرت على بعض المصوتين. وبرغم حالة الصخب والغضب التي شهدتها الجلسات، إلا أن الكونجرس لم يتمكن من فعل أى شيء أو اتخاذ أى موقف سوى إظهار أن القضية ضد موسكو كانت تستند إلى أسس واهية في أحسن الأحوال، بينما سعى في الوقت نفسه إلى تقديم أساس منطقي للاضطلاع بدور متزايد في الرقابة على الإنترنت مدعوما بالتهديدات التي تواجهها القوانين واللوائح الحكومية.
الإنترنت سلاح اليمين المتشدد
في ضوء هذه الخلفية، فإن عمليتى إطلاق النار في كنيس يهودي في مدينة بيتسبرغ الأمريكية في أكتوبر الماضي، وفي مسجدي مدينة كريستشيرش في نيوزيلندا في 15 مارس الجاري قد أفضتا إلى مطالب ملحة باتخاذ إجراء ما حيال الإنترنت، في ضوء افتراض قائم بأن وسائل التواصل الاجتماعي قد شجعت ومكنّت الهجمات التي قام بها مسلحون يؤمنون بنظريات تفوق الجنس الأبيض.
في هذا السياق، يؤكد مدثر أحمد، مستشار الحكومة البريطانية السابق لمكافحة جرائم الكراهية أن «وسائل التواصل الاجتماعي تمثل شريان حياة لليمين المتشدد؛ فتقديم بث مباشر عبر «فيسبوك» للهجوم الإرهابي الذي وقع في نيوزيلندا قبل أيام يكشف عن نمط جديد وفريد من نوعه لعنف صُمم خصيصا ليتماشى مع أدبيات الحقبة الرقمية. إن البنية التحتية لعمالقة وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد عامل مساعد للعمليات الإرهابية، وإنما تحولت مؤخرا إلى عامل مركزي في الوقت الذي يضطلع فيه عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي بمسئولية كبيرة لمنع انتشار خطاب الكراهية على الإنترنت. ومن الواضح أن عمالقة الإنترنت غير قادرين على النهوض وحدهم بهذه المسئولية، ونحتاج بشدة إلى حوار متجدد حول تنظيم الإنترنت … لقد حان الوقت لأن ينتقل المتخصصون في مكافحة الإرهاب إلى مكاتب عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي».
لكن جيرالدي، الخبير في مكافحة الإرهاب، يؤكد أن هذا الإجراء – في حال القيام به – سيمثل «خطأ جسيما»؛ لأن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية تقوم بالفعل على نطاق واسع ومكثف بمراقبة المحادثات على الإنترنت. كما أن الفرضية التي تقوم على أن أغلب الإرهابيين الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي يمكن وصفهم بأنهم الأعداء الذين يؤمنون بنظريات «تفوق الجنس الأبيض» لا أساس لها. ومن ثم، فإن استخدام حجة الأمن القومي لزرع أخصائيي مكافحة الإرهاب في مكاتب القطاع الخاص لن يكون حلا سحريا أو مطلبا عاما. وإذا كان ثم توجه لتحويل الإنترنت إلى خدمة تخضع للتنظيم الحكومي، فإن هذا يعني أن «ما سيحدث في الطرف الآخر سيكون بمثابة دعايا موجهة لتنميط الرأي العام وجعل الجمهور يفكر بطرق لا تتحدى سلطة البيروقراطيين والسياسيين».
تل أبيب وواشنطن تهيمنان على «فيسبوك»
ويؤكد جيرالدي أنه «يتم بالفعل تنفيذ حجب المعلومات من قبل العديد من الدول من خلال إجراءات تعاونية، حيث يمكن للحكومات أن تتقدم بطلب إلى شركات محركات البحث لحذف مواد معينة. وتوثق شركة «جوجل» فعليا هذا الإجراء في «تقرير الشفافية» الذي تصدره سنويا».
ويكشف هذا التقرير عن أن الطلبات الحكومية لحذف معلومات قد تضاعف من 1000 طلب سنويا في عام 2010 إلى 30000 طلب سنويا في الوقت الراهن، وليس من المستغرب أن تتصدر إسرائيل والولايات المتحدة قائمة الدول من حيث عدد طلبات حذف المعلومات. فمنذ عام 2009، طلبت الولايات المتحدة وحدها 7964 عملية حذف ،شملت 109936 معلومة، بينما طلبت إسرائيل 1436 عملية حذف، شملت 10648 معلومة، وقد تمت الموافقة تقريبا على 70% من هذه الطلبات.
لكن ما يحدث في الكواليس يفوق هذا بكثير. فمنذ عام 2016، يعقد ممثلو «فيسبوك» اجتماعات دورية مع ممثلين عن الحكومة الإسرائيلية لحذف حسابات لفلسطينيين تزعم إسرائيل أنها تمارس التحريض ضدها. كانت إسرائيل قد هددت «فيسبوك» بأنه في حالة عدم الانصياع لطلبات الحذف المقدمة من قبل حكومة تل أبيب، فإن ذلك سيدفع بإسرائيل إلى سن حزمة قوانين تجبر «فيسبوك» على القيام بذلك تجنبا لتكبد غرامات فادحة، أو حتى حجب الموقع بالكلية داخل البلاد. وقد اختار «فيسبوك» الانصياع لطلبات تل أبيب، ومنذ ذلك الحين يفاخر المسئولون الإسرائيليون علانية بفروض الطاعة التي يبديها «فيسبوك» عندما يتعلق الأمر بأوامر رقابة إسرائيلية. ويلفت جيرالدي إلى أنه «في المقابل لم تخضع المنشورات التي تدعو إلى قتل الفلسطينيين على «فيسبوك» لأي شكل من أشكال الرقابة».
وتعمل الرقابة أيضا على مستويات أخرى غير مرئية تتضمن حذف ملايين المنشورات ومقاطع الفيديو القديمة لتغيير السجل التاريخي وإعادة كتابة الماضي.
ولتغيير السردية الحالية، تعرضت شركات «مايكروسوفت» و«جوجل» و«يوتيوب» و«تويتر» و«فيسبوك» جميعها لضغوط قاسية للتعاون مع جماعات خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية موالية لإسرائيل، مثل «رابطة مكافحة التشهير» (ADL)، وهي منظمة يهودية غير حكومية تعمل على مكافحة معاداة السامية في جميع أنحاء العالم عن طريق رصد ما تنشره وسائل الإعلام العالمية، وخاصة العربية، عن اليهود، وتصدر به نشرات دورية ترفعها إلى الساسة الأمريكيين ونواب الكونجرس. وتعمل هذه المنظمة مع وسائل التواصل الاجتماعي «لهندسة حلول جديدة لوقف ما يعرف بالكراهية السيبرانية عن طريق حجب ’لغة الكراهية‘ التي تتضمن أي نقد لإسرائيل يمكن تأويله على أنه معاداة للسامية بتعريفها الجديد الفضفاض الذي تروج له إدارة الرئيس ترمب ويعززه الكونجرس».
وفى مجال النشر أيضا
تعمل رقابة المعلومات أيضا بصورة متزايدة في مجال النشر. فمع زوال العديد من المكتبات الكبرى، يتجه معظم القراء إلى شراء كتبهم إلكترونيا. في هذا السياق يبرز اسم «أمازون» كأحد أكبر عمالقة تسويق الكتب عبر الإنترنت. وتعتمد «أمازون» سياسة تقديم الكتب في صورة مطبوعة وليس إلكترونية. ولكن، في 19 فبراير 2019، تم الكشف عن أن «أمازون» ستتوقف عن بيع الكتب التي تعتبر «مثيرة للجدل».
إن التنظيم الحكومي المقترن بالرقابة الذاتية لشركات وسائل التواصل الاجتماعي يعني عدم دراية المستخدم بما تم فقده، لأنه لن يكون موجودا بالأساس. وبمجرد ضياع حرية مشاركة المعلومات دون قيود فإنها لن تعود مجددا. وعلى مستوى التوازنات، فإن أهمية حرية التعبير في جوهرها تفوق بكثير أي شعور بالارتياح قد ينتج عن تدخل حكومي لجعل الإنترنت أقل تمكينا للعنف.
وإذا كنا قد تعلمنا شيئا من التاريخ فهو أن ضياع حق واحد أساسي سيتبعه حتما وسريعا ضياع حقوق أخرى، وأنه ليس هناك حرية تعدل قدرة الإنسان على أن يقول أو يكتب ما يختاره وقتما شاء وأينما شاء.
*يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا ?