في الحلقة الفائتة استعرضنا تاريخ ونشأة التكفير، وكيف كانت التهمة سيفا يستخدمه دعاة الفاشية الدينية ضد المبدعين والإبداع، وفي هذه الحلقة نعرض بمزيد من التفصيل لأشهر المبدعين الذين مورست ضدهم خطيئة التكفير في تاريخنا الحديث، ولكتاباتهم التي كانت سببا لتكفيرهم، وللأجواء والمواقف التي صاحبت ضجة التكفير، وكيف واجه المبدعون هذه التهمة التي ظلت تطاردهم وتطارد أفكارهم حتى بعد غيابهم.
في هذا التحقيق نسلط الضوء على أربعة من كبار المبدعين والمفكرين تعرضوا لتهمة التكفير، وذلك من خلال قراءة لما مروا به وعاشوه من وقائع، ثم كيف انتصروا على من كفروهم وطاردوهم لسنوات، وكيف سقطت عنهم هذه التهمة لينتصر التفكير على التكفير.
على عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»
الشيخ علي حسن أحمد عبد الرازق، الشهير بالشيخ على عبد الرازق، ولد في قرية أبو جرج بمحافظة المنيا بصعيد مصر، في أسرة ثرية تملك سبعة آلاف فدان، حفظ القرآن في كُتاب القرية، ثم التحق بالأزهر، حيث حصل على درجة العالمية، ثم ذهب إلى جامعة أوكسفورد البريطانية، وعقب عودته عُين قاضيًا شرعيًا.
هو واحد من كبار مشايخ الأزهر الشريف، ومن قلب المؤسسة الدينية، جاء كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، بهدف إثبات أنّ الإسلام دين روحي، لا دخل له بالسياسة، وهو يرى أنّ نظام الخلافة الذي نُسِب للإسلام، ليس من الإسلام في شيء، إنّما هو من وضع المسلمين. كان هذا الكتاب سببا في أزمة عاصفة بين علي عبد الرزاق وبين مشايخ الأزهر .فقد أصدرت هيئة كبار العلماء في مصر، بيانا بتوقيع (24) عالما، ذكروا فيه أخطاء الكتاب البارزة من وجهة نظرهم، وحصروها في سبع مخالفات ظاهرة.
وقد ذهبت مواقف الأزهريين خلال هذه الأزمة، في اتجاهين، أولهما كان مشغولا بعزل الشيخ علي عبد الرزاق من منصبه كقاض شرعي بمحكمة المنصورة الشرعية، في 17 سبتمبر سنة 1925، تنفيذاً للحكم التأديـبي الذي أصدرته «هيئة كبار العلماء» في 12 أغسطس من نفس العام، والذي أخرجته بموجبه من «زمرة العلماء».. أما الاتجاه الآخر فقد انشغل بالرد على ما جاء في كتاب «الإسلام وأصول الحكم» مثل ما فعله شيخ الأزهر فيما بعد الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه، «نقض الإسلام وأصول الحكم». ثم توالت الردود العلمية، ومنها ما كتبه الطاهر بن عاشور: «نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم»، وألَّف الشيخ محمد بخيت المطيعي، وكان من كبار علماء الأزهر، رسالته، «حقيقة الإسلام وأصول الحكم»، وأرَّخ الدكتور محمد ضياء الدين الريس للتفاصيل السياسية المتعلقة بصدور الكتاب في رسالته: «الإسلام والخلافة».
الشيخ «علي عبد الرازق»
بعد هذه المحنة، خرج على عبد الرازق ليكمل تعليمه بلندن، وسافر إلى شمال إفريقيا، وعقب تولي شقيقه الشيخ مصطفي عبد الرازق مشيخة الأزهر عام 1945، عاد الشيخ على عبد الرازق إلى زمرة علماء الأزهر، ومن ثم عين وزيرًا للأوقاف عام 1948.
ظل كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، أحد أبرز وأهم الكتب في القرن العشرين، حيث انشغل بمفهوم الدولة المدنية، وظل موضوعه موضع معركة قائمة حتى لحظتنا الراهنة، بين التيارات الأصولية السلفية والتيارات المدنية الإصلاحية، المعنية بمفهوم الدولة المدنية وتحقيقها على أرض الواقع.
طه حسين «الشعر الجاهلي»
في عام 1926 نشر عميد الأدب العربي طه حسين كتابه «في الشعر الجاهلي» فأثار ضجة كبرى، ولم تكن ردود الأفعال قاصرة على المستوى الثقافي والديني بل امتدت لتصل إلى المستوى السياسي، وهذا ما لفت إليه طه حسين بعد سنوات طويلة، في لقاء له مع برنامج «كاتب وقصة» للمذيعة «سميرة الكيلاني»، حيث قال: إن الثورة التي فجرها الكتاب من خصومة مع بعض الأطراف لم تكن خصومة دينية ولا أدبية، وإنما كانت خصومة سياسية، وشارك فيها الأزهر باسم الدين، كما أشار طه حسين إلى موقف حزب الوفد أيضا الذى قدم نوابه استجوابا ضد الكتاب اعتبر طه حسين أن سببه كان سياسيا وليس دينيا ،نتيجة مقالاته التى كتبها فى جريدة السياسة التى أصدرها حزب الأحرار الدستوريين ،والتي أثارت حفيظة الوفد.
كما أثار كتاب «في الشعر الجاهلي» معارضة شديدة من قبل علماء الأزهر، الذين اتهموا طه حسين فى إيمانه وعقيدته. إذ رأى حسين أن معظم ما نسب إلى العصر الجاهلى من شعر قبل بعثة الرسول هو فى الحقيقة منحول ولا ينتمى إلى تلك الفترة، وأنه قيل في العصر الإسلامي.
وقد تم سحب الكتاب من الأسواق لتعديل بعض أجزائه. وقامت وزارة إسماعيل صدقى باشا عام 1932م بفصل طه حسين من الجامعة، فاحتج على ذلك رئيس الجامعة أحمد لطفي السيد، وقدم استقالته، ولم يعد عميد الأدب العربى إلى الجامعة إلا عام 1936 فى عهد حكومة الوفد، بعد أن تغيرت الأحوال، ولم يعد هناك ثمة خلافات بين طه حسين والوفد.
عميد الأدب العربي «طه حسين»
وكان من أبرز المعارضين الذين قاموا بالرد على كتاب طه حسين، مصطفى صادق الرافعي في كتابه «تحت راية القرآن»، ومحمد لطفي جمعة في كتابه «الشهاب الراصد»، وشيخ الأزهر محمد الخضر حسين فى كتابه «نقض كتاب في الشعر الجاهلي» و محمد فريد وجدي، في كتابه المسمى أيضا «نقض كتاب في الشعر الجاهلي»، إلى جانب محمد أحمد الغمراوي، في كتابه «النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي»
ووصل الأمر إلى حد تكفير طه حسين والتهديد بقتله، فكان اللجوء إلى المحكمة أحد الجوانب المنصفة لقضية طه حسين وقضية التنوير، وقد كان من حسن حظ عميد الأدب العربي أن محمد نور وكيل النيابة الذى تولى التحقيق في القضية، كان هو الاّخر رجلا تنويريا يتمتع بقدر كبير من الثقافة والإطلاع، فبرأ طه حسين ليبقى ويظل أسم «طه حسين» عميدا للأدب العربي وواحدا من كبار التنويريين.
فرج فودة ..المناظرة التى قتلت صاحبها
فرج فودة هو أحد أبرز الكتاب الذين خاضوا حربا شرسة مع التيارات الأصولية عبر كتابة مغايرة ومختلفة ومنشغلة بالتاريخ كوثيقة رئيسية لدحض الأفكار المتشددة وقد حصل فرج فودة المولود بمدينة الزرقا بمحافظة دمياط في 20 أغسطس 1945، على ماجستير العلوم الزراعية ودكتوراه الفلسفة في الاقتصاد الزراعي من جامعة عين شمس. أثارت كتاباته جدلا واسعا بين المثقفين والمفكرين ورجال الدين، واختلفت حولها الآراء وتضاربت ،فقد كان أبرز المفكرين الذين طالبوا بصورة علانية بفصل الدين عن السياسة والدولة وليس عن المجتمع.
الكاتب «فرج فودة»
بعد المناظرة الشهيرة التى شهدها معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1992 بين فرج فودة والشيخ محمد الغزالي والدكتور محمد عمارة، خرج بعدها الشيخ محمد الغزالي ليكفّر فودة ،وخرجت فتوي جماعة الجهاد لتصفه بالمرتد وتقول علنا إن من الواجب قتله . جاءت هذه الفتوى لتفتح الباب للجماعات المتطرفة للقتل باسم الدين ،وفي الثامن من يونيو 1992 تم اغتيال فرج فودة، “عقب خروجه من مكتبه بمدينة نصر حيث أطلق شخصان الرصاص عليه من بندقية آلية ، فأصيب بإصابات بالغة أدت إلى وفاته.
الغريب أن قاتل«فودة» عندما سأله المحقق لماذا اغتلت فودة؟ قال لأنه كافر، فسأله المحقق سؤالا اّخر هو: من أي من كتبه عرفت أنه كافر؟ فجاء رد المتهم بانه لايجيد القراءة والكتابة، لكن كفّره نتيجة فتوى إحدى الجماعات الإسلامية وفتوى الشيخ الغزالي. والمثير للدهشة أن «الغزالي» في شهادته أمام المحكمة التي أدلى بها بناء على طلب دفاع المتهمين، قال «إن فرج فودة قال وكتب ما يخرجه عن دينه ويضعه في حكم المرتد، وهو مستحق للقتل، وأن التهمة التي ينبغي أن يحاسب عليها الشباب الواقفون في القفص ليست القتل ،وإنما هو الافتئات على السلطة في تطبيق الحد، ولا توجد عقوبة في الإسلام للافتئات على الحاكم. إن بقاء المرتد في المجتمع يكون بمثابة جرثومة تنفث سمومها بحض الناس على ترك الإسلام، فيجب على الحاكم أن يقتله، وإذا لم يفعل يكون ذلك من واجب آحاد الناس»
هذه احدى وقائع القتل الكاملة للأفكار التي يحملها فرج فودة، حيث قابل خصومه أفكاره بالتكفير ومن ثم القتل، وهي التهمة الجاهزة لغلق أي باب للاجتهاد ولطرح أي أفكار مخالفة ومغايرة لما هو مطروح أوحتى مناقشتها بشكل علمي.
نجيب محفوظ «أولاد حارتنا»
كان قد مر عامان على اغتيال فرج فودة، ولم ترتدع بعد التيارات المتطرفة من الدفع بفتاوى التكفير ضد المبدعين، رغم ما شهده الواقع الثقافي المصري من حالة حراك حقيقي تجاه إعلاء قيمة المعرفة بين عموم الناس، ورفضهم التام عبر بيانات الرفض والتنديد بتلك الفتاوى التي تمثل أشخاصا وجماعات متطرفة ولا تمثل الدين. إلا أن هذا لم يوقف خطاب الجهل الذي أصاب هذه الجماعات، فجاءت فتوى جديدة تكفر نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل بسبب روايته الشهيرة «أولاد حارتنا».
بدأ محفوظ ينشر رواية «أولاد حارتنا» في جريدة الأهرام في عام 1959. وفيها استسلم نجيب لغواية استلهام الحكايات الكبرى في تاريخ الإنسانية لقراءة اللحظة السياسية والاجتماعية لمصر ما بعد الثورة ،ليطرح سؤالا على رجال الثورة عن الطريق الذي يرغبون في السير فيه (طريق الفتوات أم طريق الحرافيش؟.. وقد أثارت الرواية ردود فعلٍ قوية تسببت في وقف نشرها والتوجيه بعدم نشرها كاملة في مصر، ثم صدرت بعد ذلك في 1967 في بيروت عن دار الآداب اللبنانية. وللمرة الثانية جاءت ردود الفعل قوية، بسبب التفسيرات المباشرة للرموز الدينية في الرواية، وشخصياتها أمثال: الجبلاوي، أدهم، إدريس، جبل، رفاعة، قاسم، وعرفة. قد قوبلت الرواية باعتراض هيئات دينية على ما وصفوه بـ«التطاول على الذات الإلهية».
كانت «أولاد حارتنا» واحدة من أربع رواياتٍ تسببت في فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأدب، كما أنها كانت السبب المباشر في التحريض على محاولة اغتياله. وبعدها لم يتخل تماماً عن واقعيته الرمزية، فنشر ملحمة الحرافيش في 1977، بعد عشر سنواتٍ من نشر أولاد حارتنا كاملة.
الأديب «نجيب محفوظ»
بعد عقود من نشر رواية «أولاد حارتنا» مسلسلة بصحيفة الأهرام وصدورها عبر دار الآداب البيروتية عام 67، تعرض نجيب محفوظ لمحاولة لاغتياله بسبب هذه الرواية. ففي الخامسة من عصر يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994، كان نجيب محفوظ يستقل سيارة أحد أصدقائه متجهًا من بيته بحي العجوزة إلى مقر الندوة، التي يحضرها أسبوعيًا مع شباب الأدباء والكُتاب وسط القاهرة. فجأة يقترب شاب من الشباك المُجاور له، ويطعنه من الجهة اليُسرى لرقبته بسلاح أبيض، لينقل إلى مستشفى الشرطة القريب، ليبقى خمس ساعات كاملة في غرفة العمليات بين الحياة والموت، بعدما تسببت الطعنة في قطع شريان رئيسي في رقبته.
بعد خروجه من الغيبوبة التي استمرت عدة أيام قال نجيب محفوظ في حديث لـ«الأهرام»: «الشاب الذي رأيته يجري كان شابًا يافعًا في ريعان العمر، كان من الممكن أن يكون بطلًا رياضيًا أو عالمًا أو واعظًا دينيًا، فلماذا اختار هذا السبيل؟ لست أفهم»،
قُبض على أربعة من الجُناة، الذين اعترفوا بأنهم خططوا لقتل نجيب بالتزامن مع الذكرى السادسة لحصوله على نوبل. وفي اعترافاته أمام النيابة أدلى «محمد ناجي» مُنفذ عملية الطعن بمعلومات مدهشة وصادمة فقال «عندما خرج محفوظ من منزله ليُقابل صديقه وجدت الفرصة سانحة لأنال شرف تنفيذ شرع الله فيه، فتقدّمت نحوه وأخرجت مطواة قرن الغزال من تحت ملابسي وطعنته في رقبته طعنة قاتلة». كما أكد أكثر من مرة أنه لم يقرأ أي رواية لنجيب محفوظ، وأنه حاول قتله تنفيذًا لفتوى عمر عبد الرحمن، مفتى الجماعة الإسلامية آنذاك، بإهدار دمه لاتهامه بالكفر وارتداده عن الإسلام بسبب رواية «أولاد حارتنا»
نجا نجيب محفوظ من محاولة الاغتيال، بعد أن مكث في المستشفى سبعة أسابيع، لكن مصر ومثقفيها لم ينجوا من صدمة الحادث، ومن تهمة التكفير، التي بقيت بعد رحيل محفوظ تطارد غيره من المبدعين والمفكرين والكتاب حتى اليوم.
(يتبع).