كانت شخصية ومؤلفات الكاتب الصحفي القديم «كريم ثابت» قد شغلتني لسنوات، وكنت كلما هممت بالكتابة بإسهاب عن الرجل وعصره ومؤلفاته، صرفني أمر من الأمور، وظلت تلك الأمنية قائمة في نفسي إلى أن تكرمت دار «الشروق» وساهمت في الاحتفال بمئوية ثورة 1919 ونشرت لكريم ثابت كتابًا مهمًا منسيًا هو «سعد في حياته الخاصة» وسعد المقصود هو الزعيم سعد باشا زغلول، فلما فرغت من قراءة الكتاب عقدت العزم على تحقيق أمر طال انتظاره، فكان هذا المقال الذي جعلته على قسمين: أحدهما لكريم وعصره ومذكراته القديمة، والثاني سيكون لكتابه الذي صدر حديثًا.
ابن رئيس تحرير «المقطم» الموالي للإنجليز
بحثت عن تاريخ ميلاد كريم فلم أصل لشيء وإن كان عام وفاته معروفا، فقد توفي في العام 1964. ولد كريم لأسرة شامية تمصّرت بالهجرة من الشام إلى مصر في أواسط القرن التاسع عشر.
جمعت الظروف السياسية كريم والانجليز في حبل واحد، فوالد كريم هو خليل ثابت كان صحفيًا وكان رئيسًا لتحرير جريدة «المقطم». وعن هذه الصحيفة أنقل ما جاء كتاب «الصحافة المصرية في مائة عام» لعبد اللطيف أحمد حمزة الذي يقول: «صدرت المقطم في ظل الاحتلال البريطاني في 18 أبريل 1888، تعجب الرأي العام من سهولة الحصول علي ترخيص من وزارة الداخلية آنذاك, الأمر الذي كان متعسرا بل ومستحيلا علي باقي الصحف الأخرى».
وقد ذكر فارس نمر أحد مؤسسي الجريدة أن يعقوب صروف وشاهين مكاريوس ساهما معه في تأسيس «المقطم» التي تعاقدت مع اللورد كرومر المعتمد البريطاني، الذي أمدها بالمال والأخبار والإعلان وكافة المواد الصحفية التي تكفل لها الرواج.
غير أن المصريين أدركوا أنها صحيفة إنجليزية فتصدوا لها وحاولوا تعطيلها, ولكن سرعان ما كان يتدخل المعتمد البريطاني لحمايتها وحال دون تنفيذ أي حكم عليها, وأكثر من هذا، فإن وزارتي الداخلية والحربية كانتا تخصان المقطم كل عام بمنحة مالية, تشجيعا لها علي أداء رسالتها.
زاد عداء الشعب للمقطم وتُرجم هذا العداء لمظاهرات شعبية قذفت مقر الجريدة بالحجارة ومع هذا صمدت الصحيفة في الميدان تساندها الحكومة والاحتلال, وجاء ردها علي تلك الهجمات فقالت المقطم:«إن الإنجليز لن يخرجهم أحد بالقوة وإنهم إن خرجوا سيخرجون برضائهم».
ثورة يوليو ونهاية «المقطم»
انتهى النقل عن حمزة وأعود لأقول: إن فارس نمر مؤسس المقطم كان خال كريم ثابت، وقد تولى فارس رئاسة تحرير الجريدة ثم جاء بعده والد كريم خليل ثابت، ثم كريم ثابت، ثم أنطون مطر.
وظلت الجريدة في خدمة الاحتلال وتثبيت أقدامه حتى قيام ثورة يوليو التي الغت ترخيص الصحيفة. وقد جاء في كتاب «تاريخ الصحافة في مصر» للدكتور خليل صابات أنه «في 26 مايو 1954، أصدر الصاغ صلاح سالم، وزير الإرشاد القومي، قرارا بإلغاء ترخيص جريدة المقطم، لقد ظهر أن الصاغ ارتكز في قرار الإلغاء، على عدم انتظام صحيفة المقطم في الصدور، خاصة أن العدد الأخير منها صدر في نوفمبر 1952، أي بعد قيام الثورة بثلاثة أشهر، وهو الأمر الذي يعطى الحق لوزير الارشاد في سحب الترخيص إذا توقفت الصحيفة ثلاثة أشهر».
وما بين تاريخ صدور المقطم وتاريخ توقفها الأبدي، عاش كريم ثابت حياة، قلما يحظى بها صحفي. في بداية أمره عمل كريم صحفيًا بالأهرام وكان رفيقاه في المكتب هما الصحفيين البارزين محمود أبو الفتح ومحمد التابعي، ثم رأى الثلاثة أن يؤسسوا مشروعهم الخاص، فاستقالوا ثلاثتهم من الأهرام ليؤسسوا جريدة المصري.
كريم ثابت محمود أبو الفتح محمد التابعي
يقول موقع ويكيبيديا :«باع الشيخ أحمد أبو الفتح فدانين، دفع ابنه بثمنهما حصته في الجريدة، كما وضع التابعي وكريم ثابت مدخراتهما في مشروع الجريدة الجديدة، التي صدرت سنة 1936، وكانت ندًا قويًا للأهرام، ولم يلبث التابعي أن باع حصته في الجريدة لحزب الوفد وتفرغ لمجلته الأسبوعية «آخر ساعة»،ثم كريم ثابت حصته لأبي الفتح، ثم اشترى أبو الفتح حصة الوفد التي أخذها من التابعي، فصار أبو الفتح المالك الوحيد للجريدة».
ما لم يقله موقع ويكيبيديا قاله النحاس باشا في مذكراته فما كانت الجريدة ستصدر لولا مباركة النحاس باشا لها، وكان النحاس وقتها هو زعيم الأمة وحزب الوفد ورئيس الوزراء، وقد ذهب الثلاثة إليه طالبين معونته، فقدم لهم المعونة نظير أن تكون المصري من جرائد الوفد التي تعبر عنه وتخوض معاركه.
المستشار الصحفي للملك
عندما جاء العام 1942 حمل معه مكافأة استثنائية لكريم ثابت، الذي كان قد ترك الأهرام والمصري ورئاسة تحرير المقطم التي كان قد ورثها عن خاله فارس نمر وعن أبيه خليل ثابت. ففي مطلع ذلك العام اختار الملك فاروق كريم ثابت مستشارًا صحفيًا له، وهو منصب لم يكن له وجود قبل ذلك.
اختيار الملك لكريم جعل الشعب يضرب أخماسًا في أسداس، فالمنصب جديد لا عهد للمصريين به، ثم الملك في ذلك الوقت لم يكن يكره أحدًا ولا شيئًا كما يكره الإنجليز الذي حاصروا قصره بالدبابات لإجباره على إسناد رئاسة الوزراء لمصطفى باشا النحاس، فكيف يأتي بربيب المقطم جريدة الاحتلال ويختلق له منصبًا رفيعًا؟.
ظل الأمر محل نقاش وتخمين، حتى حسمه الأستاذ الأشهر محمد حسنين هيكل.. ففي تقديمه لكتاب «ملك النهاية» لكريم ثابت يقول الأستاذ هيكل ما ملخصه: «كان كريم ثابت صحفيًا معروفًا ولكنه لم يكن أكثر الصحفيين شهرة، وكان متمرسًا ولكنه لم يكن أكثر الصحفيين كفاءة، فكان السؤال: «لماذا كريم ثابت بالذات؟».
محمد حسنين هيكل
وظل السؤال قائمًا حتى سمعت الإجابة من خبير موثوق به هو «حسن باشا يوسف» آخر رئيس للديوان الملكي، الذي سمح لي بتسجيل شهادته على مدار ثلاثين ساعة مشترطًا عدم إذاعتها قبل مرور ثلاثين عامًا على رحيله.
وفي تلك الشهادة قال يوسف لهيكل: «كان فاروق يكره «مايلز لامبسون» سفير الاحتلال في القاهرة كره العمى، فرأى أن يستعين بقناة اتصال مع خارجية العدو المحتل من خلف ظهر سفيرها، فكان السير «والترسمارت» المستشار الشرقي لسفارة الاحتلال هو قناة الاتصال، ولكي يصل فاروق إلى والتر رأى ضرورة الاستعانة بكريم ثابت، وذلك لأن والتر كان زوجًا للسيدة «إيمي نمر» وهى ابنة خال كريم فارس نمر».
انتهى الاقتباس من الأستاذ هيكل، لنرى كيف لعبت المصاهرة العجيبة دورًا خطيرًا في رسم السياسات المصرية في أيام عصيبة للغاية. وعلى ما سبق فقد بدأ كريم عمله مستشارًا لفاروق الأول والأخير من 1942 وإلى 1952.
الملك فاروق و على يمينه المجاهد المغربي محمد عبد الكريم و على يساره مستشاره الصحفي كريم ثابت
سنوات السجن والمذكرات
بعد قيام ثورة يوليو سُجن كريم ثابت لسنوات لا نعرف عددها، وكان سجنه ليس على خلفية علاقته بالملك فاروق فحسب ولكن لأنه كان متورطًا في فضيحة مالية في مطلع سنة 1950. وأصل هذه الفضيحة أنه حصل من مستشفى المواساة على مبلغ خمسة آلاف جنيه بدون وجه حق ولا مستند، فقام رئيس ديوان المحاسبة «محمود محمد محمود» بالتحقيق في القضية، ولم يصل إلا إلى مزاعم من مدير المستشفى قال فيها: لقد قدمنا لكريم باشا المبلغ نظير دعاية قام بها للمستشفى.
وعن سنوات سجنه قال كريم ثابت إنه استغلها ليكتب مذكراته، وهي المذكرات التي تستحق الرواية ومن ثمّ الفحص والتدقيق. فهي مكونة من كتابين، الأول يحمل عنوان «ملك النهاية / فاروق كما عرفته / مذكرات كريم ثابت»، وهذا الكتاب قدم له الأستاذ هيكل.
أما الكتاب الثاني فعنوانه «نهاية الملكية /عشر سنوات مع فاروق / مذكرات كريم ثابت»
في تقديمه للمذكرات كتب الأستاذ هيكل كلامًا بلغ غاية الإنصاف، نذكر منه: «إن ما جرت كتابته عن أسرة محمد علي وهى على العرش، جاء انتقاصًا من الحق ، ثم إن ما كُتب بعد نزولها عن العرش جاء انتقاصًا من العدل ، وفي السنوات الأخيرة ظهرت مجموعة من الكتابات جاءت انتقاصًا من العقل».
وبعد هذه الرؤية التي أظنها أصابت كبد الحقيقة، حكى الأستاذ هيكل قصة العثور على المذكرات فقال :«لم يكن هناك من يعرف أن الأستاذ كريم ثابت قد كتب مذكراته، وقد حدث في أوائل عام 1998 أن ليلى ابنته الوحيدة ، التي تعيش مع زوجها منذ سنوات في لندن ( وهو من أسرة سبيروسكوراس اليونانية التي كانت تملك عدة دور للسينما قبل الثورة في مصر) ، كانت ترتب أوراقها وإذا هى تعثر في أحد الصناديق القديمة على عدة مئات من الصفحات ، بخط يد والدها ، وكانت الأوراق في مجموعتين ولفت نظرها ، أن المجموعة الأولى مهداة لها ، حين تكبر ، ويهمها أن تعرف عن والدها ، وقد حاولت ليلى أن تقرأ ، وكانت المهمة صعبة عمليًا بعائق اللغة ، واستشارت أصدقاء لها ، ثم كان أن أتصل أصدقاء لها بدار الشروق التي طلبت أن تطلع على الأوراق قبل أي ارتباط».
الرواية الأخرى
معنى كلام الأستاذ هيكل ، أن المذكرات ظلت سرًا لا يعرفه أحد،
فهل الأمر كان كما كتب الأستاذ هيكل أم أن للقمر وجهان ؟
وقعت على رواية ثانية لأصل المذكرات وجدتها منشورة في كتاب الساخر العظيم محمود السعدني «ملاعيب الولد الشقي» وقبل أن أنقل نصها، لابد من الإشارة إلى أن السعدني في مطلع الخمسينات كان يشرف على مجلة التحرير، وكتب مقالًا نال فيه من المطرب فريد الأطرش، وتناول فيه بطريقة ما طائفة الدروز التي ينتمي إليها الأطرش، وهو الأمر الذي أغضب السادات الذي كان رئيسًا لمجلس إدارة دار التحرير ،فقام بفصل السعدني، الذي حُرم من العمل لستة أشهر مع تقاضيه لكامل راتبه على مدار أشهر الفصل.
محمود السعدني
ثم تدخل الشاعر والكاتب الكبير كامل الشناوي فعفا السادات عن السعدني الذي أصبح الذارع اليمنى لكامل في تحرير جريدة الجمهورية التي أصبح كامل أحد رؤساء تحريرها، وقد كلف كامل السعدني بصياغة مذكرات كريم ثابت، وهو ما يعني أن كريم ثابت كانت له مذكرات في مطلع الخمسينات.
يقول السعدني:«كلفني الشناوي بصياغة مذكرات كريم ثابت باشا المستشار الصحفي للملك فاروق، بعد أن اعتذر عن عدم كتابتها هو شخصيًا بسبب مرض شديد في ذراعه، يعوقه عن الكتابة، وهى حركة ذكية من كريم، فقد كنا في بداية الثورة، وكان أغلب رجال العهد البائد، يأملون في عودة الملك مرة أخرى، وأعتقد أن كريم ثابت من هؤلاء، ولذا قَبِلَ أن ينشر مذكراته على أن يقوم أحد غيره بصياغتها بقلمه، حتى إذا حدث ما لا تحمد عقباه، وعاد الملك فاروق إلى عرشه مرة أخرى، يكون كريم في مأمن، من الانتقام، فهو لم يكتب، ولكنه أجبر على الكتابة، والدليل أن المذكرات مكتوبة بأسلوب وبخط يد صحفي آخر، المهم، أنني بعد أن انتهيت من كتابة المذكرات والتي قضيت من أجل كتابتها، ثلاثين ساعة كاملة مع كريم ثابت باشا، على مدى خمسة عشر يومًا، جاءني الباشا في آخر لقاء وقال لي: مذكراتك رائعة.. قاطعته قائلًا: ولكنها مذكراتك يا باشا. فقال: «طبعًا طبعًا، بس دا أسلوبك مش أسلوبي أنا، ولو أنا كتبتها، مكنتش كتبتها أحسن من كدا».
كامل الشناوي
انتهى كلام السعدني وهو منشور قبل نشر مذكرات كريم بسنوات ، فأي الروايتين هي الأصدق ؟!..ثم هل نشرت الجمهورية في الخمسينيات ما صاغه السعدني من مذكرات كريم ؟..الأمر يتطلب العودة إلى أعداد الجمهورية في ذاك الوقت ، وهو أمر فوق طاقتي
ويبقى المهم في القصة كلها أن لكريم مذكرات صاغها السعدني ـ نشرت أم لم تنشر ـ ثم له مذكرات كتبها بخط يده ، ونشرتها دار الشروق في كتابين من القطع الكبير .
ستقرأ المذكرات ـ فأن كنت منصفًا ـ حمدت الله كثيرًا لأنه تعالى بعث فينا أمير الفقراء أبا خالد ( جمال عبد الناصر ) لكي يخلصنا من ملك، هو كما تبدو صورته في مرآة مستشاره الصحفي ، طفل نضج جسده ولكن لم ينضج عقله ، وجد نفسه في غفلة من الزمن ملكًا متربعًا على عرش عريق لمملكة كبرى يشغل أمرها العالم كله ، وقع الطفل بين أنياب قسوة أبيه الملك فؤاد وعنف تربيته، وبين انفلات أمر أمه الملكة نازلي ، فقضى حياته متخبطًا لا يعرف لنفسه رأسًا من قدمين .
هذا ما كتبه كريم ثابت عن صديقه الملك فاروق، فكيف كتب عن زعيم الأمة سعد باشا زغلول؟.. الأسبوع القادم نرى معًا صورة الزعيم في مرآة الصحفي.
(يتبع )