فن

في ذكرى ميلاده: عبد الرحمن الأبنودي.. جامع الحكاوي ودفتر أحوال الغلابة

عاشق التراث الشعبي العربي حتى الثمالة، دفتر أحوال البسطاء والفقراء والغلابة الطيبين، الناقل الأمين لعذاباتهم وآمالهم وأحلامهم البسيطة الطيبة كقلبه وقلوبهم، ربما أكثر ما ميز عبد الرحمن الأبنودي من بين شعراء جيله، قدرته الفائقة على التعبير عن مشاعر المصريين في لغة سهلة سلسة تسمو على العامية المبتذلة وتتخفف من الفصحى المٌقعرة، لغة كان لها عامل السحر في مدً شرائح جمهوره وتنويعهم.

ثقافة الأبنودي لم تشكلها سنوات من القراءة والمطالعة، وآلاف من الكتب المتراصة فقط، وإنما شكلتها حساسية مرهفة، وذائقة رائقة، ووجدان امتزج بكيان وأحلام وآمال وتطلعات المصريين منذ ستينيات القرن الماضى حين أطل علينا الأبنودى بموهبته الشعرية المتدفقة الفطرية المتألقة القادمة من الجنوب، وبلهجته الصعيدية الصافية الناصعة الآسرة وبحضوره المشع المتوهج.

المندوه للشعر وللحكاوي

فجًرت حالة من الطرب صنعتها ربابة رواة السيرة الهلالية في جنوب مصر موهبة الأبنودي طفلا، فصار مخطوفا  ومندوها إلى  قصصها وحكاياتها، وما لبث أن خاض رحلة جمعها وتوثيقها من على ألسنة الرواة الشفهيين كجابر أبو حسين، والسيد الضوي وغيرهما إلى أن نجح في جمع مئات الآلاف من الأبيات الخاصة بتلك السيرة الشعبية العربية الخالدة التى حفظها عن ظهر قلب، لكنه كثيرا ما ظهر إلى جانب منشديها كمجذوب هائم في محراب فاتنته.

كانت للأبنودي طريقته الخاصة في التعبير والتعاطي مع كل يمس وجدان الشعب المصرى فى أفراحه وأتراحه، انتصاراته وانكساراته، ليظهر وجه الشاعر الغنائي صاحب الغنوة الأبرز التي تٌسري عن أفئدة المصريين في أحزانهم، أو تحتفل معهم في أفراحهم، في عام 1967 كان الأبنودي يقف على جبهة النضال الشعبي بمبنى الإذاعة المصرية أثناء العداون الإسرائيلي ليثير حماسة المصريين بأغانيه التي يرتجلها من فوره ويلحنها كمال الطويل، ويغنيها ثالتهم حليم، هكذا ظهرت أغنية (ابنك يقولك يا بطل هاتلي انتصار)، وما إن تدفقت أنباء الهزيمة التي حلت بالجيش المصري في سيناء حتى ارتجل حزينا بأغنيته الخالدة (عدى النهار) تلك التي غناها عبدالحليم حافظ بألحان الموسيقار بليغ حمدي.

وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها.. جانا نهار مقدرش يدفع مهرها

يا هل ترى الليل الحزين.. أبو النجوم الدبلانين.. أبو الغناوي المجروحين

كانت الأغنية تعبيرا عن حالة الحزن واليأس التي ألمت بالمصريين وانعكست في كلمات الأبنودي، وظلت الأغنية «تٌسري»  عن و«تطبطب» على الشعب المفجوع وكان لها تأثيرها الهائل فى رفع الروح المعنوية للشعب المصرى بعد النكسة حتى أن عبد الناصر كان يطلب إذاعة الأغنية على موجات أثير محطة صوت العرب كى يسمعها الشعب العربى كله، ولما خرجت مصر من سنوات الانكسار وجاء نصر أكتوبر 1973، سارع عبدالحليم بالاتصال بشريك أحزانه الأبنودى وطلب منه أغنية عن النصر العظيم، فارتجل الأبنودي أغنيته الرائعة «صباح الخير يا سينا» والتي غناها حليم من ألحان الموسيقار كمال الطويل.

https://youtu.be/A78aYvpiTq4

في 11 إبريل 1938م ولد عبد الرحمن الأبنودى في قرية أبنود بمحافظة قنا في صعيد مصر لأسرة فقيرة أجبرته بساطة حالها على رعي الغنم في طفولته وواصل الأبنودي دراسته الابتدائية حتى المرحلة الثانوية التي درس بعض فصولها الدراسية في مدينة قنا حيث استقر مع والده وأمه فاطمة قنديل، التي يقول عنها «إن العلاقة بيني وبين أمي تخترق أشعاري جميعا جيئة وذهابا، وهي ملهمتي ومعلمي الأول التي أرضعتني الأشعار والطقوس والأغنيات والتراث»، تخلى الأبنودي عن عمله كموظف حكومي لأن العمل الحكومي الروتيني لم يكن يناسب ميوله وطبيعته الشخصية، وغادر قنا متجها نحو الشمال حيث القاهرة التي كانت تشهد آنذاك زخما فنيا وثقافيا واسعا.

بدايات

في القاهرة التحق الأبنودي برفيقه وابن بلده الشاعر أمل دنقل، فأقاما فترة يسكنان داخل «عوّامة» كتب فيها الأبنودى أوائل أغانيه الناجحة، مثل «تحت الشجر يا وهيبة» التي غناها (محمد رشدي)، و«بالسلامة يا حبيبي بالسلامة» التى (غنتها نجاح سلام).

في البداية لم يفلح الشاعر الجنوبي الشاب -وفق ما رُوي عنه- في لفت أنظار كبار المطربين أو الملحنين، الذين لم يبدوا اكتراثا بهذا الشاب النحيل الذي يتحدث لهجة جنوبية صعبة الفهم على آذانهم، لكن مع نجاح تجربة الأبنودي مع رشدي ونجاح سلام، راح المغنون والملحنون يبحثون عنه في المقاهي وملتقيات الأدباء، خاصة بعد أن نشر له الشاعر صلاح چاهين أولى قصائده في مجلة «صباح الخير». وبدأت الشهرة تطرق بابه بقوة في الوسط الغنائي بعد نجاح أغنية «تحت الشجر يا وهيبة»، التي حققت انتشارا كبيرا في وقتها، ثم جاء نجاح أغنية «عدوية» التي كتبها الأبنودي ولحنها بليغ حمدي وغناها رشدي أيضا  ليلفت أنظار الجميع، وهو ما دفع عبد الحليم حافظ إلى التعرف عليه عام 1965، ليشكل معه ثنائيا فنيا جميلا وينضم لهما بليغ حمدى ليشكل الثلاثة فريقا قدم كثيرا من الأغنيات العاطفية والوطنية، التي ساهمت في تشكيل وجدان ملايين في مصر والعالم العربي.

https://youtu.be/cO7itDLGXec

ثنائى الجنوب المبدع

في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته شكل الأبنودي «ثنائيا مميزا» مع الفنان محمد منير ليبدع هذا الثنائى الجنوبى أغنيات تشهد بعظم موهبتهما. منير يصف الأبنودي بالأب الروحي له، بينما وصفه الأبنودي في آخر حديث له بـ«قرموط النيل الشقي».. يكتب الخال كلمات رائعة فتمتزج بصوت منير الدافئ؛ ليستمع الناس لحالة فنية فريدة تظل خالدة في التاريخ.

تسع أغنيات رائعة كانت ثمرة العلاقة الفنية التي ربطت ما بين منير والخال عبدالرحمن الأبنودي، فكانت البداية مع ألبوم «شيكولاته» عام 1989، حيث سيطر الخال على كلمات معظم أغانيه، من خلال 4 أغنيات الأولى حملت اسم الألبوم، والثانية كانت بعنوان «في حبك مش جرئ»، إضافة إلى أغنية «كل الحاجات»، والرابعة حملت اسم «بره الشبابيك»، التي اكتسبت شهرة عريضة.

وفي عام 2004 عاد التعاون بين الأبنودى ومنير ليسفر عن أجمل ما غنى منير كأغنية «والليلة ديّة» في ألبوم «حواديت»، وبعد أربع سنوات أخرى شهد ألبوم «طعم البيوت» أقوى أغنيات الثنائي المتميز «يونس»، التي قال عنها الأبنودي «أجمل ما غنى منير»، كما قدم الأبنودي ثلاثا من أبدع أغاني منير هم «قلبي ما يشبهنيش» و«ياحمام« و”يارمان».

القصيدة السياسية

لم تشغل كتابةُ الأغاني الأبنودي عن القصيدة السياسية التي كانت مبتدأه ومنتهاه، فكتب مئات القصائد خاصة عن  فلسطين وأطفالها ومقاوميها، فرثى ناجي العلي، وحاكى قمر يافا، ودعم أطفال الحجارة، وكانت أشهر قصائده في هذا المضمار «الموت على الأسفلت»، وتفاعل الأبنودى مع ثورتىْ المصريين في 2011، و2013، ففي الأولى كتب قصيدته الشهيرة «ضحكة المساجين» التي غناها الفنان على الحجار الذى كان من أكثر الفنانين غناء للأبنودى، وفي الثانية كتب قصيدته (آن الآوان يا مصر) حيث احتفى فيها مع المصريين بالتخلص من حكم المتلاعبين بمشاعر المصريين بإسم الدين،  وفى السينما كتب الأبنودي حوار وأغاني فيلم «شىء من الخوف» وسيناريو وحوار فيلم «الطوق والإسورة»  وإن كان هو لم يعتد كثيرا بتجاربه فى كتابة السيناريو والحوار على أهميتها. وفي الحادي والعشرين من أبريل 2015 لحق الأبنودي برفيق الشعر العامي صلاح جاهين الذي توفي في التاريخ نفسه من عام 1986.

الفيديو جرافيكس:

تحريك ومونتاج: عبد الله إسماعيل

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock