تقديم
على الرغم من تعدد المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية التي عرفتها مصر منذ نهضتها الحديثة، لايزال الأزهر هو قاعدة الارتكاز الأساسية التي يقوم عليها الوعى المصري، وهو ما يجعل حاله أحد الهموم العامة للمصريين جميعا، بل والعرب والمسلمين في العالم، لا مجرد هم يخص علماءه وخريجيه.
ولأن الأزهر، رغم كل ما يوجه إلى بعض القائمين عليه، أو إلى بعض منتسبيه، من ملاحظات أو انتقادات، يظل المؤسسة الدينية الأهم في العالم الإسلامي (السني)، وإحدى منارات الإسلام الزاهرة، فقد أولى موقع «أصوات أونلاين» اهتماما خاصا بمناقشة أحوال هذه المؤسسة وخطابها بما له وما عليه، وتسليط الضوء على الرموز الكبرى من خريجي هذه المدرسة الإسلامية العريقة، وما قدموه من إسهامات معتبرة في خدمة الإسلام وصورته المبهجة، والامة ونهضتها.
وفي إطار هذا الاهتمام يأتي هذا الملف، الذي نشرنا الجزء الأول منه تحت عنوان «منارة العالم الإسلامي» وتضمن مجموعة من المقالات التي تناقش موضوع إصلاح الأزهر وفرص تجديد خطابه ليصبح قادرا على مواجهة تيارات الغلو والتطرف والعنف التي نشأت وترعرعت في مجتمعاتنا في العقود الأخيرة.
وفي هذا الجزء الثاني والأخير من الملف، والذي يأتي تحت عنوان «أزهريون وتنويريون» نسلط الضوء على عدد من أبرز علماء الأزهر والدارسين النابهين فيه، ممن امتلكوا الجرأة الفكرية وشجاعة مواجهة أقرانهم بأفكار جديدة تلتزم بأصول الشريعة ولكنها تمد هذه الأفكار على استقامتها فتعيد فهمها وتأويلها وفق ضوابط العلم الديني لتصبح قادرة على التعامل مع مشكلات الواقع المتغيرة مع العصر.
لماذا هم مجددون
تكشف مقالات هذا الجزء من الملف عن سمة مشتركة عند معظم المجددين، فهم عادة يتميزون بتنوع مصادر المعارف والخبرات ولا يقتصرون على مصدر وحيد – مهما كان ثراؤه – فهذا التنوع هو شرط انفتاح العقل وتقبله لفكرة التجديد. فشيخ الأزهر حسن العطار مثلا تأثر مبكرا بتقاليد فكرية من ثقافة إسلامية أخرى مختلفة بعض الشئ عن نظيرتها المستقرة في مصر، حيث نشأ في أسرة من أصول مغربية، كما تأثر فكره بعد مرحلة من النضج بالماتريدية، وهى مدرسة في الفكر الإسلامي السني نشأت شرقا فيما وراء سمرقند، وقامت على الجمع بين الشرع والعقل وتوسيع دائرة التفكير والاستنتاج.
أما الإمام محمد عبده فلا يمكن إنكار تأثره بما عاينه من أفكار وقيم وسلوكيات مدنية حديثة خلال رحلته في فرنسا فقال عبارته الشهيرة «وجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين وفي ديار الاسلام وجدت المسلمين ولم أجد الاسلام».
ينطبق الأمر ذاته على شيخ الأزهر مصطفى عبدالرازق الذي استوعب الفكر الغربي في السوربون، حيث درس علم الاجتماع الحديث على يد أحد مؤسسيه، إميل دوركايم، واستكمل دراسته لأصول الشريعة الإسلامية – بعد دراسته الأزهرية – من منظور البروفيسور إدوارد لامبير، وهناك أيضا درس الفلسفة الإسلامية كما لم يعرفها في مصر قبل أن يعود لوطنه ليرسي قواعدها بينما لاتزال مرفوضة ومُكفّرة من قبل قطاع لا يستهان به من عوام المسلمين وعلماء الدين على السواء في بلادنا.
أما أخوه الشيخ علي عبد الرازق، العالم الأزهري والقاضي الشرعي، فلم يكن ليتسنى له صياغة رؤية «إسلامية» تعيد النظر في مسألة «الخلافة» وأنها ليست من مرتكزات الدين، إلا في ضوء المناخ الفكري الذي تأثر به خلال دراسته في انجلترا وتشبعه بأفكار نظرية «الحكم بالعقد الاجتماعي» بين الشعب والحاكم كما صاغه الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي جون لوك.
ضد التيار
وتكشف إعادة قراءة السير الفكرية لهؤلاء المجددين الأزهريين عن سجالات ومعارك اضطروا اضطرارا لخوضها مع التيار السائد في الأزهر الذي اعتاد غالب علمائه الركون إلى الموروث دون أدنى اجتهاد أو تجديد. كما تكشف القدرة الذهنية لهؤلاء المجددين وما توصلوا إليه من تجديدات غير مسبوقة عن ثروة فكرية وعملية خسرنا الكثير منها نتيجة هزيمة فكر التجديد أوبسبب مرض النسيان الذي أصاب مجتمعاتنا، بحيث أصبحنا نكرر كل فترة نفس الجدل القديم حول ذات المشكلات ونلوك العبارات نفسها تقريبا.
ويكفي هنا أن نورد مثالا واحدا من أمثلة كثيرة تطرحها مقالات الملف؛ فقبل شهور شن علماء أزهريون ودعاة سلفيون حملة على شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب لمجرد أنه شدد على الشرط «القرآني» الأساسى قبل إقدام الزوج على تطليق زوجته – وهو العدل- وهو ما يجعلنا نصاب بالدهشة حين نقرأ مقالات هذا الملف، فنعرف أن شيخ الأزهر مصطفى المراغي ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير قبل قرن كامل من الزمان، حين أخذ مبكرا برأي المذهب المالكي في حق المرأة في الطلاق لأسباب أخرى غير الضرر، وبتقييد حق الزوج في الزواج الثاني إذا كان غير قادر عليه، واشتراط موافقة القاضي علي هذا الزواج، وحق المرأة في وضع شروط في عقد الزواج تتعلق بمصلحتها.
ولا عجب ألا نجد في زمننا هذا أفضل مما كان كتبه مجدد آخر عظيم أهدره تيار التشدد والجمود أيضا، هو الشيخ عبدالمتعال الصعيدي في كتابه «نقد نظام التعليم الحديث في الازهر الشريف» الصادر عام 1924 حيث يقول:
«كان من الواجب أن يكون لنا أزهر حديث كمصر الحديثة لتنسجم مصر المدنية مع مصر الدينية ولا تعوق إحداهما الأخرى في طريق النهوض، نعم كان من الواجب أن يكون لنا أزهر حديث له قدرة علي حل المشكلات الدينية الحديثة فلا يتركها حجر عثرة في سبيل نهوض مصر بل في سبيل نهوض العالم الإسلامي كله»
«أصوات أونلاين»
أضواء كاشفة
لهذا كله يبدو استحضار هذه القامات الأزهرية الرفيعة وإلقاء الضوء الكاشف على ما دعوا إليه من فكر مستنير يقاوم ظلام الجمود والتشدد، أمرا مهما وضروريا ومحمودا ومطلوبا، ما أحوجنا إليه ونحن نريد دورا أكثر استنارة للأزهر الشريف، وأكثر مقاومة لقوى التخلف والرجعية، من هنا تأتي أهمية ما يتضمنه هذا الملف من مقالات عن هؤلاء المجددين العظام فى تاريخ الازهر.
ففي مقاله (الإمام حسن العطار مجدد علوم الدنيا والدين) يرصد الدكتور كمال حبيب التحولات الأهم لأحد أبرز منظري النهضة العربية من الأشعرية إلى الماتريدية عقديا، ومن التصوف إلى ميادين العقل والعمل كموقف من الحياة، كما يقدم سردا لأهم اسهاماته في العلوم المختلفة كما في مؤلفه (راحة الأبدان في نزهة الأذهان)، وإذا كان مشروع حسن العطار لم يؤت ثماره في حياته، فإنه سيكون له أكبر الأثر في تلاميذه وعلى رأسهم رفاعة رافع الطهطاوي وكذلك الشيخ محمد عبده، الذى يعد واحدا من تلاميذ العطار النابهين. وفي الجزء الثاني من مقاله يناقش حبيب رؤية المستشرق الأمريكي بيتر جراند الذي اعتبر العطار باكورة جذور رأسمالية محلية نمت في نهاية القرن الثامن عشر، وهي رأسمالية انعكست على خطاب التحديث والتنوير الذي سيقدمه العطار حتى وفاته عام 1835.
وفي مقاله (محمد عبده.. الأستاذ المعلم) يناقش الكاتب محمد السيد الطناوي أهم العوامل التي ساهمت في التكوين الفكري للأستاذ الإمام محمد عبده، والأسباب التي أدت إلى إيمانه بالإصلاح المتدرج عبر التعليم، فهو لم يتبن ثورية الأفغاني، وهو ما سينعكس في مواقفه من بعض الأحداث الكبرى كالثورة العرابية التي رفضها في البداية، ثم أغرته بإمكانية تنفيذ المشروع الإصلاحي عن طريق الثورة دفعة واحدة، وإن عاد من جديد إلى رؤيته القائمة على ضرورة الإصلاح المتئد بعدما ذاق ويلات النفي ومحاصرة الخطاب.
يعود الدكتور كمال حبيب ليقدم لنا عرضا كاشفا لوجه آخر من وجوه الإصلاح عند الأستاذ الإمام محمد عبده، الذي غلب عليه في قراءته لشخصيته ما ذهب إليه العقاد باعتباره (شخصية ولا شخصية) لما لحق بشخصيته ومواقفه الإصلاحية من تحولات هضمت الواقع المتجدد واستوعبته نتيجة تغيرات وتحولات السياق الاجتماعي والسياسي والفكري من حوله، وهو ما دفع حبيب إلى تقصي أثر مشروع محمد عبده في الحركات الإصلاحية التي ظهرت بعده بحيث يمكن اعتبار كل محاولة تجديد داخل الأزهر انبعثت من مشروع محمد عبده، كما انبعثت الحركة الوطنية المصرية كأحد روافده لاسيما التيار الوفدي وزعيمه سعد زغلول.
في السياق الذاته يقدم الكاتب (صلاح الدين حسن) قراءة في مذكرات (الأستاذ الإمام) ليرصد من خلالها عددا من المحطات الهامة في مسيرة التنوير التي قدمها الإمام محمد عبده، أما المحطة الأولى التي يتوقف عندها الكاتب فهي تلك المقدمة البديعة التي تعكس روح التواضع وإنكار الذات التي وضحت تماما في مذكرات الإمام، التي كتبها بناء على نصائح بعض أصدقائه الأوروبيين، وهو الأمر الذي لا يخلو من دلالة واضحة، بالإضافة إلى ما يذكره الإمام عن نفسه من كراهية مبكرة للاستبداد والظلم الذي أحاط بأسرته.
أما المحطة التالية التي يتوقف عندها الكاتب في مذكرات الشيخ محمد عبده فهي تجربة التحاقه بالجامع الأحمدي في طنطا، وتعرفه على بعض الأدبيات الصوفية في تربية النفس ومجاهدتها، وهو ما سيسهل عليه قياد نفسه وكبحها لتتحول إلى حب المعرفة والمطالعة، ثم توجهه إلى القاهرة لاستكمال دراسته في الأزهر، حيث يلتقي جمال الدين الأفغاني الذي يغير وجهته من التحليق في سماء المعرفة الصوفية إلى الاشتباك مع الواقع الأليم ومحاولة تغييره بالنقد ورسم خطوات التجديد والإصلاح.
وجوه إصلاحية
واستكمالا لمسيرته يكشف الدكتور كمال حبيب عن الوجه الإصلاحي للشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر مستعينا بما قدمته «فرنسين كوستيه تارديو» في كتابها «إصلاحي في جامعة الأزهر.. أعمال مصطفي المراغي وفكره» والذي حاول إعادة بنية المدرسة الإصلاحية في الأزهر التي أسسها محمد عبده من خلال عدم الصدام مع السلطة، و إعادة (دار العلوم) و (مدرسة القضاء الشرعي) إلى تبعيته، باٌلإضافة إلى إنتزاع علماء الأزهر من ساحات اللغط السياسي، ومن خلال مقاله الثاني (مصطفى المراغي.. مسار مبتسر نحو التجديد) كشف حبيب عن صعوبة الظروف المحيطة بالأزهر وخريجيه كمؤسسة في الوقت الذي تولى فيه المراغي مشيخته، ما جعله يستنفذ جهده في مواجهة الآثار السلبية، بالإضافة إلى استئنافه بعض خطوات التيار الإصلاحي في الأزهر كإنشاء لجنة للافتاء بالأزهر، واستئناف البعثات العلمية إلى الهند، وإيفاد خريجي الأزهر إلى بعض الدول الافريقية للقيام بواجب الدعوة، وهو ما أعطى للأزهر تلك المسحة العالمية، وأصبح للأزهر بفضل المراغي حضور قوي في الحياة العامة في مصر منذ عهد الملك فاروق، كما تطرق حبيب إلى جهود المراغي الإصلاحية والتنويرية فيما يتعلق بتطوير عمل المحاكم الشرعية، وفي العديد من بنود قانون الأحوال الشخصية الذي أثار الجدل الكثير.
من منطلق التجديد ذاته يتناول الدكتور محمد السيد اسماعيل تجربة الشيخ (علي عبدالرازق…الأزهري المتمرد على سلطة المشايخ) حيث يعرض لتجربة علي عبدالرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، والذي كان بمثابة ثورة فكرية في المجالين الديني والسياسي على السواء، بعد إقراره بأن الإسلام دين لا دولة، وأن سلطة النبي في المجتمع الإسلامي كانت سلطة روحية لا سياسية، وهو ما أقض مضاجع العديد من الملوك الذين داعبت مخيلاتهم فكرة تنصيب أنفسهم خلفاء بعدما أعلن أتاتورك عن حل الخلافة في عام 1924.
في المقال الأخير من الملف يعرض الكاتب محمود صالح لكتاب الشيخ عبدالمتعال الصعيدي «المجددون في الإسلام»، والذي اعتبره بمثابة كنز مخفي، وأخطر ما أُلف في مسألة تجديد الخطاب الديني، وحيث استعرض الصعيدي خطابات التجديد والإصلاح ابتداءً من زمن الخلفاء الراشدين، بالإضافة إلى استثناء عدد من الشخصيات – استثناء صادما – من الإصلاح والتجديد كبعض أئمة المذاهب الأربعة.
وتجدون هنا الروابط الخاصة بالمقالات المشار إليها:
الإمام حسن العطار مجدد علوم الدنيا والدين
مصطفى المراغي.. مسار مبتسر نحو التجديد
علي عبدالرازق…الأزهري المتمرد على سلطة المشايخ