منذ الخمسينات شهدت العلاقات المصرية السوفيتية العديد من التطورات، ويعتقد الكثيرون أن هذه العلاقات مرت بثلاث مراحل يمكن ترتيبها على النحو التالى: علاقات قوية في عهد ناصر، ومتقلبة في عهد السادات، وعادية وباردة في عهد مبارك – كـ (سمة كل شىء فى عهده) – و هنا ربما يساعدنا كتاب الدكتور سامى عمارة الباحث والإعلامى والخبير فى الشأن السوفيتى (القاهرة – موسكو.. وثائق وأسرار) – الذى نعرض فى هذه السطور الحلقة الثانية من قراءته – على فهم واستيضاح كثير من الوقائع والأحداث التى مرت بها العلاقات المصرية السوفيتية وحيث يكشف خلاله الكثير من الوثائق ويركز بشكل أكبر على أحداث كثيرة جرت خاصة حينما كانت تلك العلاقات قوية وراسخة بين عبد الناصر والاتحاد السوفييتي.
اقرأ أيضا:
«موسكو- القاهرة.. وثائق وأسرار» (1-3): التطورات الأولى للعلاقات المصرية السوفيتية
د. سامي عمارة وكتابه «القاهرة- موسكو.. وثائق وأسرار»
رسائل خروشوف
فى نهاية الحلقة الأولى من عرضنا لكتاب الدكتور سامى عمارة عرجنا إلى بداية الخلافات والمشاحنات بين خروشوف وعبد الناصر خاصة بعد اعتقال الشيوعيين المصريين حينها وإعلان الوحدة مع سوريا، التي رفضها قادة السوفييت باعتبارها، متعجلة ومندفعة، وكان أبرز ما فيها ما ورد في الكتاب على لسان خروشوف حين قال في بداية عام 1959، أمام المؤتمر العام للحزب الشيوعي: «إن بلادنا شأن البلدان الاشتراكية الأخرى دعمت وتدعم حركة التحرر الوطني. ولم يتدخل الاتحاد السوفيتي ولا يعتزم التدخل في الشئون الداخلية للبلدان الأخرى،. لكننا لا نستطيع التزام الصمت تجاه ما يحدث في بعض الدول وما يجرى من حملات ضد القوى التقدمية تحت شعارات زائفة معادية للشيوعية، ولما كانت صدرت في الجمهورية العربية المتحدة منذ زمن غير بعيد أفعال مضادة للأفكار الشيوعية، وجرى توجيه الاتهامات ضد الشيوعيين، فإنني وكشيوعي في مؤتمرنا للحزب الشيوعي أرى أنه من الضروري إعلان أنه من غير الصحيح توجيه الاتهام للشيوعيين بأنهم يعملون من أجل إضعاف أو فرقة الجهود الوطنية في النضال ضد الإمبريالية. وعلى العكس.. فليس هناك أناس أكثر ثباتا وصمودا من القوى الشيوعية في النضال ضد المستعمرين، كما أنه لا يوجد من هو أكثر ثباتا وصمودا في النضال ضد الامبريالية من القوى الشيوعية». وقد ظل هذا الخلاف بين ناصر وخروشوف لفترة من الزمن، ألقى خلالها بظلاله على العلاقات بين القاهرة وموسكو.
وعقب ذلك ونحن لا نزال في الفصل الرابع من الكتاب تحت عنوان «الخلاف بين عبد الناصر وخروشوف» ساور القلق عبد الناصر لأنه كان يخشى أن يصبح عدوا للسوفييت – كما عدائه للغرب – خاصة أن شبكات الإذاعات الغربية الموجهة لمنطقة الشرق الأوسط، أبرزت الخلاف بين الصديقين وعزفت على أوتاره كثيرا، ويكشف الكتاب رسائل خاصة مرسلة من خروشوف إلى عبد الناصر جاءت بعد رسائل تهدئة من الجانبين، فيقول خروشوف في رسالته التي أرسلها في فبراير 1959، والمحفوظة في أرشيف الخارجية الروسي، «والتى أرسلها بعد حوالى شهر من رسالته المطولة التى عرضناها آنفا»: أود في هذه الرسالة المفعمة بالصراحة التي أبعث بها إليكم مشاطرتكم بعض التصورات حول الموضوعات التي جرى التطرق إليها منجانب رجال الدولة في الجمهورية العربية المتحدة في أحاديثهم مع المسئولين السوفيت.
من واقع حديثكم مع السفير السوفيتي قبيل سفره إلى موسكو وكذلك أحاديثكم وتصريحاتكم الأخيرة إلى الصحافة في «الجمهورية العربية المتحدة» يظهر لدينا انطباع حول أن الأحداث المعروفة خلال الفترة الأخيرة أثارت لدى حكومة «الجمهورية العربية المتحدة» ولديكم شخصيا القلق تجاه آفاق تطور العلاقات بين بلدينا. كما أن ما يصدر من شكوك عما إذا كان هناك تغير في مواقف الاتحاد السوفيتي نحو حركة التحرر الوطني العربية. واعتقد من وجهة نظرنا انه يجب أن يسود الوضوح الكامل تجاه مثل هذه القضايا المهمة.
انتم تعلمون سيادة الرئيس أن علاقات طيبة تجمع بين الدولتين وان ذلك لعب دورا مهما في الذود عن مصالح السلام والأمن لدول المشرق مثلما حدث إبان أزمة السويس أو خلال أيام الإعداد للهجوم ضد سوريا، حين عمل بَلَدانا سويا من أجل صد هجوم القوات المشتركة للمستعمرين ضد حرية الشعوب العربية التي كانت قد حصلت عليها من خلال الكثير من الصعوبات والتضحيات. كما أن تعاوننا المشترك ساعد كذلك على تقويض الاحتكارات القديمة لرؤوس الأموال الأجنبية الكبيرة في الحياة الاقتصادية لبلدان الشرق الأوسط، ونحن سعداء بصدق لما تحققه هذه الشعوب من نهضة في الاقتصاد الوطني.
لقد حدث مثل هذا التعاون المثمر رغما -وكما يعلم الجميع- عن اختلاف توجهاتنا الأيديولوجية. وحين نتحدث عموما عما يجمعنا في النضال من أجل السلام وضد قوى الامبريالية والاستعمار فإننا نسعى في الاتحاد السوفيتي – وبطبيعة الحال – نحو عدم تأكيد الخلافات الإيديولوجية القائمة. لكنكم آثرتم في بور سعيد ضرورة الإفصاح عن رأيكم تجاه هذه القضايا. ولذا فقد كنا مضطرين إزاء ذلك وفى مؤتمرنا الحزبي أن نقول رأينا. ومن الواضح أن كلا منا بقى عند رأيه. وليس في ذلك أى شيء مفاجئ.
ولما كنت أعرفكم كشخصية سياسية على مدى العديد من الأعوام فإنني أود أن أعرب عن أملى في ألا يستطيع الامبرياليون العثور على ثغرة بيننا يستطيعون من خلالها ضرب وحدة شعوب بلدينا في النضال ضد الاستعمار. وهل يوجد أساس لاعتبار انه لم تعد هناك أخطار تهدد الجمهورية العربية المتحدة والبلدان العربية الأخرى من جانب البلدان الامبريالية التي تسن سكاكينها اليوم مثلما كانت تفعل بالأمس، ضد حريات واستقلال البلدان العربية؟. وهل من الممكن اعتبار انه قد تحققت بالفعل المهمة الصعبة لنهوض اقتصاد هذه البلدان، وتصفية التبعات المريعة التي خلفها الاستعمار في السنوات الماضية؟ وهل من الممكن القول انه لم تعد هناك حاجة إلى توحيد الصف ضد القوى الامبريالية من أجل تقرير مهمة النضال ضد الاستعمار التي لا تقل اليوم أهمية عن الأمس، وبالدرجة الأولى توحيد جهود البلدان المستقلة في الشرق مع الاتحاد السوفيتي وكذلك البلدان الاشتراكية الأخرى؟
رد عبد الناصر
ورغم أن كل تلك الخلافات التى تجلت -أكثر ما تجلت – فى مساجلات لفظية بين عبد الناصر وخروشوف، صاحبت توقيع اتفاق السد العالي في يناير من العام نفسه إلا أنه بالطبع كان لعبد الناصر رد على ما هو معلن وغير معلن من قبل خروشوف، وكان أبرز رد هو ما قاله في خطاب دمشق 22 مارس 1959، «إننا حينما نعبر عن قوتنا فنحن نستمد هذه القوة من بلدنا لا من بلد أجنبي، وفى جميع أطوار كفاحنا كنا نعتمد على أنفسنا أولاً بعد الله.. كنا نعتمد على أنفسنا ولم نكن بأي حال نعتمد على قوة أجنبية.. وقد كافحتم في الماضي الطويل ضد السيطرة الأجنبية وضد الاستعمار، ولم نكن في هذا – أيها الإخوة – نعتمد على دولة تساندنا أو قوة تشد من أزرنا، ولكنا كنا نعتمد اعتماداً كلياً على الله وعلى أنفسنا وإننا – أيها الإخوة – لم نكن بهذا نعبر عن صغر السن أو الحماس أو الاندفاع – كما يقول خروشوف- لكننا نعبر عن إيماننا بوطننا، وإن خروشوف تكلم منذ أيام وعلق على غضبتنا من أجل حريتنا ومن أجل بلدنا، من أجل قوميتنا ومن أجل عروبتنا.. علق ببساطة، وقال: إن عبد الناصر رجل صغير السن متحمس ومندفع! وأنا أحب أن أقول اليوم – أيها الإخوة – إن عبد الناصر ليس وحده المتحمس المندفع، ولكن الشعب العربي كله متحمس ومندفع، ولولا هذا الاندفاع لما استطعنا – أيها الإخوة – أن نحقق هذه المعجزات الكبار».
خطاب التهدئة
وتكشف الوثائق أن خروشوف رد برسالة جديدة أقل حدة في الكلمات في أبريل تلاها محاولات دبلوماسية من الجانبين لتخفيف التوتر بين «الصديقين»، وأبرزها ما ذكر في رسالة فينوجرادوف القائم بأعمال السفارة السوفيتية بالقاهرة في أبريل أيضا إلى موسكو حول لقاء تم بينه وبين مجدي حسنين عضو مجلس قيادة الثورة، ويشير فينوجرادوف إلى أن حسنين قال «أنه انتقد بشدة في حديثه مع عبد الناصر نشاط الصحفي مصطفى وعلي أمين ومحمد حسنين هيكل وأنهم يبذلون كل ما يستطيعون من أجل تدمير العلاقات الودية بين مصر والاتحاد السوفييتي».
وفي تلك الرسالة قال حسنين: «إن عبد الناصر أصدر تعليماته بالتوقف اعتبارا من 27 مارس 1959 عن الحملات المعادية، وما تقوله حول عداء الاتحاد السوفييتي والشيوعية للإسلام، فيما أكد أن ناصر يعتزم التخفيف من حملاته المعادية للسوفييت وللشيوعية في مصر». وأخيرا أشار حسنين إلى أن عبد الناصر قام باستدعاء أنور السادات وكمال الدين حسين وقام بانتقادهما بسبب خطابهما المعادي للسوفييت «كما أكد انه وبوصفه صديقا حقيقيا للاتحاد السوفييتي يهمه إعادة الثقة بين الجمهورية العربية المتحدة والاتحاد السوفييتي».
وفي فصل بعنوان «رسالة عبد الناصر السرية وانحسار الأزمة» يشير سامى عمارة إلى أنه وبعد كل ذلك وبناء على رغبة ناصر في الحفاظ على علاقات أعمق مع الاتحاد السوفييتي قام بإرسال خطاب سري – لم ينشر- مكون من 63 صفحة، إلى خروشوف ومبرزا في نفس الفصل بعض اللقاءات التي كانت تتم بين مسئولين مصريين وسوفييت لإعادة التقارب بين البلدين، لنصل إلى مرحلة انتهاء الأزمة، في يناير 1960 بزيارة وزير المحطات الكهربائية في الاتحاد السوفييتي نوفيكوف إلى مصر، وطبقا للوثائق، فقد قدم عبد الناصر في ذلك اللقاء طلبا رسميا للإتحاد السوفييتي للمشاركة في المرحلة الثانية لبناء السد العالي، وهو الطلب الذي وافقت عليه الحكومة السوفيتية، وبالتالي انتهت تماما مرحلة الخلافات والمشاحنات بين البلدين.
أيام النكسة
يتعرض الكتاب بالطبع لتلك الفترة الخطيرة فى تاريخ مصر والثورة وعبد الناصر ويعرض –بالوثائق- لتلك الأيام التى سبقت نكسة يونيو ولأيام النكسة ولحدث إعلان عبد الناصر تنحيه وما أعقبه من وقائع وأحداث أخرى
ويقسم الكتاب وثائق التنحي إلى ثلاثة فصول، تبدأ بما يطلق عليه مقدمات 1967 ونتائجها مرورا بالإتصالات السرية بين عبد الناصر وموسكو في تلك الفترة وتنتهي بالهزيمة وإعلان التنحي وما تلاها من اتصالات تحث ناصر على البقاء.
يبدأ عمارة الفصل السادس بالإجابة على سؤال مدى مسئولية الاتحاد السوفييتي في التأثير على مصر بخصوص القرارات التي سبقت نكسة يونيو وخاصة سحب قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة من سيناء، مشيرا إلى أن وثائق هذه الفترة تؤكد أن وجود حشود إسرائيلية على الحدود السورية، أكدته جميع الرسائل المرسلة من الاتحاد السوفييتي بالإضافة إلى اللقاءات التي تمت مع العديد من مسئولي تلك الفترة في مصر.
ويؤكد الكاتب من خلال الوثائق التي اطلع عليها أن عبد الناصر لم يشر من قريب أو من بعيد إلى مسئولية موسكو عن تصعيد الأزمة بذكر معلومات غير حقيقية أو تضخيم وقائع تدفع فى اتجاه التصعيد ويبرز الكاتب التناقض بين رواية الوثائق ورواية محمد حسنين هيكل، الذي يقول أن ناصر أبلغ السفير السوفييتي في ذلك الوقت «أن الاتحاد السوفييتي مسئول عن تصعيد الأزمة بتأكيداته عن الحشود الاسرائيلية تجاه سوريا»،
أما وثائق المقابلة المهمة التي تمت في 22 مايو 1967، قبل أيام من النكسة والتي سجلها سفير الاتحاد السوفييتي ديميتري بوجيدايف فتقول «استقبلني ناصر وأعرب عن شكره للاتحاد السوفيتي لما قدمه من تصورات قيمة بخصوص التوتر القائم بالشرق الأوسط، وكذلك المعلومات التي أُبلغت في وقت سابق إلى وزير الحربية شمس بدران»،
https://youtu.be/hITXgFOT8nk
على كل يعرض سامي عمارة في الفصل السابع، الاتصالات السرية التي تمت بين الجانبين السوفييتي والمصري بالإضافة إلى اللقاءات المتلاحقة التي بدأت منذ 22 مايو 1967.. وهو ما سنشير إليه في الجزء القادم من عرض كتاب «القاهرة- موسكو».. وثائق وأسرار، للدكتور سامي عمارة.
يتبع…