تتأسس النزعة الجهادية على أربعة أقانيم أساسية. والأقنوم يعني مفهوماً استقر تصديقه لدرجة الإيمان به وربما تقديسه، وتوقفت جوهرياً كل محاولات مساءلته. ولعل هذا المصطلح يبقى هو الأكثر دقة، قياساً إلى مصطلح الأسطورة التي يصف به البعض مقولات الإسلام السياسي، رغم ما يتسم به مصطلح الأسطورة من قدرة تعبيرية فذة وسهولة تداولية واضحة؛ فالأقنوم، مهما كان متمتعاً بإيمان ساذج أو يقين مطلق، إنما ينبع من جذر أصلي، ويستند إلى تجربة واقعية، غالباً ما تكون لأسلاف تاريخيين، تمت بالفعل ولو في الماضي البعيد، وليس إلى حادثة خرافية كما هو الأمر في حال الأسطورة. فالأقنوم، على هذا النحو، وليد فكر تقليدي يعجز عن امتلاك الحس التاريخي، كما هو حال الوعي السلفي الجهادي، بينما الأسطورة وليدة فكر خرافي ينتمى إلى عالم سحري سابق بالمطلق على العالم العقلاني.
الأقنوم الأول «الخلافة الشرعية» يتأسس على مسلّمة أساسية هي أن الإمامة، قضية عقدية، لا يصح الدين دون إقامتها. ولأن دولة الإسلام الأولى التي قامت بعد وفاة الرسول الكريم (ص) قامت على هيئة «الخلافة» فقد ترتب على ذلك أن صارت الخلافة هي فقط الدولة الإسلامية «الشرعية»، وما عداها ليس إلا تنازلاً عن الحاكمية الإلهية «الربانية» لصالح حاكمية إنسانية «دنيوية».
هذا التيار، إذ تهيمن عليه أوهام الخلافة، يستعلي على الوطن فلا يعطيه تقديرنا ولا يمنحه احترامنا، لأنه لا ينظر إليه كما ننظر باعتباره «حاضنة لنا» بل باعتباره اختراعاً حديثاً، محض بدعة، ومن ثم ضلالة، لا تمت إلى الله بصلة. ولأن كل ضلالة في النار فمن المفترض في المؤمن الكيس الابتعاد عنها طلباً للسلامة. ورغم أن كثيراً من مفردات القرآن الكريم فضلاً عن روحه تتحدث عن حب العشيرة، وأهمية الانتماء لجماعة، من دون تعارض مع حب المؤمنين جميعاً، والانتماء لرسالة الإسلام الكونية، يتجاهل هذا التيار ذاك المغزى وما يرتبه من قيمة للوطن، معيراً كل جهده لشراكة الإيمان وحدها باعتبارها الرابطة الوحيدة «المقطوع بها نصاً» لصوغ جماعة المؤمنين وإن تمددت من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وإن تغير الزمن وتمايزت الأحوال على نحو يستحيل معه حصرها، والتحكم في تنظيمها، بينما يصير الوطن، الذي نعيش على أرضه ونتمتع بحمايته، أمراً عابراً، ربما فرضه الواقع باعتباره الحقيقة الكبرى، ولكنه يبقى الحقيقة «المرة» التي يقبلونها على مضض.
وإذا كان الوطن الغالي عندهم هو «الحقيقة المرة» فليس المواطن العادي لديهم سوى ذلك الكائن الغريب، الذين أجبروا على التعامل معه، أما المواطن الحقيقي فليس هو زميل العمل، أو صديق النادي أو حتى رفيق الحرب ضد الأعداء، بل هو فقط الشريك في العقيدة الدينية، الأخ في الله، الذي قد يبتعد كثيراً في الأرض وصولاً إلى أقصى الشرق في باكستان وماليزيا وربما الصين والهند، وإلى أقصى الغرب في قلب أميركا الفاجرة حيث كانت الغزوة الناجحة، وروسيا الملحدة حيث الشيشان الصامدة، وأوروبا الصليبية حيث البوسنة الشامخة، فجميع هؤلاء إخوان حقاً، مواطنون فعلا، شركاء في وطن متخيل، ولكن حضوره يفوق الوطن الواقعي. إنه الوطن الذي يُشتاق إليه فلا يزدري علمه أحد، ولا يتجاهل نشيده أحد، ولا يملك أياً من كان أن يقول له «طظ».
لا يحتفي هذا التيار حقيقة بالوطن، كونه من عمل الإنسان وهو لا يحتفي أصلاً بالإنسان، وكونه نتاجاً للعقل وهو لا يحتفي أصلاً بالعقل، وكونه خلاصة للتجربة التاريخية وهو لا يحترم لا التجربة ولا التاريخ باعتبارهما ليس إلا تجسيداً للـ«مدنس»، فيما لا يقدر هو سوى الإلهي الـ«مقدس»، متجاهلاً حقيقة أن العقل أيضاً، وليس فقط النص، يمثل عطاءً إلهياً، وأن اجتهاداتنا عبر التاريخ ليست إلا استثماراً لذلك العطاء واحتفاء به، ولذا كان احترامنا للوطن، محض احترام لجوهرنا العقلاني الذي خلقه الله فينا، أصلاً وضماناً لرسالة استخلافنا على الأرض، تلك التي لا تكون ولا تقوم من دون بناء الأوطان، مدخلاً لترقية الحضارة واعترافاً بقيمة الإنسان.
والأقنوم الثاني «الهوية المغلقة» يقوم على مسلمة نراها زائفة، وهي أن نقاء العقيدة الدينية يقتضى أو يفترض نقاء الهوية الحضارية، الأمر الذي يقود إلى اعتبار كل تفاعل ثقافي أو تداخل حضاري بين الحضارة العربية وغيرها من الحضارات إنما يمثل تشويهاً للإسلام، وانتقاصاً من خيرية المسلمين. هذه المسلمة تتأسس على مقدمة خاصة بها وتقود في الوقت ذاته إلى نتيجة مميزة لها: المقدمة هي عدم الثقة بالعقل الإنساني وقدرته على صنع تاريخه، ومن ثم ضرورة الارتهان الكامل للنص الديني/ النقل/ الوحي، حيث التوجيه الإلهي الكامل لحركة التاريخ والقصور شبه الكامل للعقل الإنساني. هذه الرؤية تقود إلى اعتبار أن كل حضارة هي فقط الدين الذي تقوم عليه، فالحضارة الآسيوية مثلاً هي الهندوسية والبوذية، أما الحضارة الغربية فهي المسيحية فقط، ولا قيمة هنا لعصور النهضة والتنوير والحداثة، التي مثلت نوعاً من القطيعة التاريخية مع الموروث المسيحي الأرثوذكسي، ومن ثم فلا اكتراث مثلاً بالنقد الرفيع للكتاب المقدس، ولا قيمة لعمل وجهد الفلاسفة الكبار، فرغم كل ما جرى عبر القرون الخمس الماضية يبقى الغرب هو المسيحية، وأوروبا هي الصليب، وهنا تصير الحضارة، كالدين، مسألة تقع في صميم الخصوصية الإنسانية/ الثقافية، وليست إرثاً عاماً للبشرية، أو تراثاً مشتركاً للإنسانية. أما النتيجة التي تترتب على تلك المقدمة فهي الانفصال الكامل عن تيار الحضارة الإنسانية حفاظاً على نقاء الهوية «الإسلامية»، وما يفرضه ذلك من تصور سلفي للتاريخ يعتقد أن عودة الجماعة المسلمة إلى أصالة الماضي كفيلة وحدها، أو بشكل رئيسي بإقالة الأمة من عثرتها دونما حاجة إلى النقل عن الآخرين أو الاقتباس منهم. الأمر الذي يخلق انشغالاً عبثياً بقضية الهوية بديلاً عن الانفتاح على العالم، والنزعة العدوانية إزاء الغير بديلاً عن التعاطي الإيجابي معه، والرغبة في التعلم منه.
بل ويصل الأمر أحياناً إلى تحويل الفهم الخاص للدين «التدين» إلى «إطار ثقافي» مغلق على نفسه داخل الحضارة نفسها، فلا يمتنع مثلاً، مجرد التفاعل مع الآخر الحضاري/ الغربي حرصاً على نقاء الدين، بل وكذلك التفاعل مع مختلف التيارات الفكرية التي تزخر بها مجتمعاتنا العربية حرصاً على نقاء «المذهب» أو حتى نقاء «التدين»، حيث يكون الليبراليون غريبي الأطوار، والعلمانيون زنادقة وربما ملحدين، أما اليساريون خصوصاً الشيوعيون فملاحدة ماديون على وجه اليقين، ناهيك طبعاً عن الشيعة الذين هم في الأقل منافقون وفي الأكثر خارجون على الملة.
والأقنوم الثالث «المؤامرة الغربية» يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأسطورة السابقة، أو لعله يمثل الاستخلاص النهائي لها أو المرحلة النهائية منها. فطالما كان الآخر غريباً على الذات بالضرورة، يتوجب التمايز الأبدي عنه، فإن كل محاولاته للتداخل مع الذات أو التأثير فيها لا بد وأن يكون عملاً معادياً، يهدف إلى إيذاء الذات والنيل منها، ومن ثم مؤامرة عليها. وإذ لا يسعى إلى التأثير ولا يقدر عليه سوى الأقوياء، القابعين في قلب مراكز التأثير والنفوذ العالمي، يصبح العالم الغربي المسيحي، الذي احتل موقعاً مركزياً في الجغرافيا السياسية والحضارية للعالم الحديث، هو المتآمر الأبدي، والكائن الشيطاني المعادي بإطلاق للعالم العربي الإسلامي، حتى احتل منه الموقع نفسه الذي يحتله إبليس من الإنسان في عقيدة الخلق التوحيدية.
لا يمثل مفهوم المؤامرة نظرية علمية على وجه الدقة، بل هو أقرب إلى أن يكون «عقدة حضارية»، ترتكز من ناحية إلى قرائن تاريخية وثقافية وسياسية تشي بالتحيز الغربي، ولكن جرى تأويلها، من ناحية أخرى، على نحو يخرجها من سياقها الموضوعي «الاستراتيجي» إلى سياق آخر أسطوري، يستحيل معه الغرب «المسيحي» كائناً شيطانياً لا معنى لوجوده سوى التآمر ضد عالم الإسلام الواسع. إنه اعتقاد ساذج، ليس لأنه كاذب تماماً ولكن لأنه تبسيطي، ناجم عن غياب العقلانية السياسية، وهو ما نفسره بغياب العقلانية العلمية عن المجال الثقافي العربي.. نعم توجد علوم تدرس كمحتوى، ولكن لا يوجد منهج للنظر ينتج عنها ليسود في المجال العام، ويصبغه برؤية منطقية وتفكير سببي، وهو ما نرجعه إلى غياب مفهوم السببية عن الفلسفة العربية الوسيطة، وممانعة التيار السلفي للعقلانية العلمية الحديثة، واستسلام النظام التعليمي العربي، في عمومه، لمنطق تلقيني، يقوم على مقدمات صورية وعمليات استنباط منطقي، تستهلك نفسها بنفسها. وإزاء غياب التفكير السببي سادت رؤية سحرية للعالم، وهي رؤية طفولية تكاد تشبه تصور الصغار عن الجان والعفاريت، تلك الكائنات التي لا هم لها سوى العدوان عليهم خصوصاً في عتمة الليل.
أما الأقنوم الرابع فهو «الجهاد المسلح» الذي يمنح للكفاح الجسدي والشجاعة النفسية الدور المركزي في صنع التاريخ، بذريعة تصور اختزالى وهو أن قيمة التضحية بالنفس لدى الأوائل تظل هي الآلية الوحيدة الممكنة لاستعادة نهضة الأمة وكبريائها في مواجهة أعداءها. وهنا فلا أهمية تذكر للقيم الكبرى المؤسسة لروح العصر كالعلم والحرية، ولا أهمية أصلاً للأبنية الحديثة، الحاضنة لهذه القيم والمنظمة لعملها. نعم يمكن القول بأن الشجاعة النفسية والرغبة في التضحية تمثلان جذراً مؤسساً لمفهوم الحرية نفسه، غير أن الأمر يتعلق هنا بطريقة عمل الإرادة التي لا تُمارس في الفراغ بل من خلال وسائط تزداد تركيباً بفعل حركة التقدم، التي لا يمكن فهمها إلا باعتبارها صيرورة تنظيم وتطوير هذه الوسائط التي يتعامل الإنسان من خلالها مع العالم، بما لا يجعل من سلوكياته مجرد نزوات طائشة يحركها الهوى، بل أفعال ناضجة تتأسس على قواعد، وتحتضنها مؤسسات تضمن استمرارها واستقلالها.
في هذا السياق تتبدى المفارقة الكبرى في دنيا الإسلام، فالكثيرون من المنتمين للعقل السلفي الجهادي، يعرفون كيف يموتون في سبيل الله، بحثاً عن «الشهادة»، حيث تقول أحد أدبياتهم مفاخرة: «نحن طلاب موت». ولكنهم، في المقابل، لا يعرفون كيف يحيون في سبيل الإسلام، ولا يدركون المعنى الحقيقي لرسالة الاستخلاف، التي تطالبنا بتحقيق التقدم وترسيخ العمران.. وهنا تحول الجهاد إلى ظاهرة دموية، ووسيلة وحيدة للرد على الأزمة الحضارية الشاملة التي يعيشها العالم العربي الإسلامي، حيث ارتبطت الظاهرة الجهادية بالخلافة الشرعية عبر الادعاء بـ«الحاكمية السياسية» وملازماتها السلبية من تطرف وإرهاب ضد كل نظم الحكم القائمة بدعوى أنها جاهلية، وضد كل القيم المؤسسة للحرية بدعوى إنها بدعة. كما ارتبطت بمفهوم الهوية المغلقة، بذريعة تصور واهم هو أن الانفتاح على الآخر يمثل، ليس فقط انسحاقاً حضارياً بل ودينياً ينال من الإسلام، ولا سبيل إلى تجاوزه إلا بالانغلاق على الذات، والعودة إلى الماضي القدسي، الذي يستحيل هنا إلى قبلة سرمدية تتبعثر معها أبعاد الزمن وتضطرب ديناميكية الحركة التاريخية. وارتبط أخيراً بأقنوم المؤامرة الغربية، حيث العالم المسيحي! يحتل من العالم الإسلامي ذلك الموقف الذي احتله الشيطان من الإنسان في عقيدة الخلق التوحيدية، وهو الموقف الذي يُختزل في آليتي الإغواء والإفساد الدائمين. وهكذا تمثل النزعة الجهادية، باعتبارها ذلك السلوك الاحتجاجي العنيف، الملتحف بالقداسة، بمثابة آلية الرد «الجهنمية» على الأقانيم الثلاثة الأولى، فجميعها تقود إليه؛ فيما يقود هو إلى تأميم حياة المسلم المعاصر، وسد الطريق على حركة الإسلام في العصر.
نقلا عن: الحياة