لم يكن ظهور النجمين المصريين رامي مالك ومحمد صلاح على السجادة الحمراء في نيويورك، بعد اختيارهما في الاستفتاء الذي أجرته مجلة التايم الأمريكية، ضمن أكثر مائة شخصية مؤثرة عالميا، إلا حلقة ضمن سلسلة حلقات متصلة من المساهمة والتأثير الحضاري التي ارتبطت بمصر وشعبها على مدار تاريخ طويل، وهو ما يطلق عليه قوة مصر الناعمة التي منحتها التأثير والحضور في محيطها العربي والإسلامي.
صحيح أن هناك محاولات تجري عالميا وإقليميا لإشاعة أو تقديم صورة لمصر باعتبارها جزءا من الماضي أكثر من كونها جزءا مؤثرا في الحاضر أو المستقبل، وأن شعبها مريض بـ«شيفونية» أو شعبوية، وتعال غير مبررين.. إلا أن هذه الرؤية لا تخلو من قصر نظر، إذا فترضنا فيها حسن النوايا، واجتزاء وافتئات على حقائق التاريخ، ومحاولة لتعميم لحظة ضعف طبيعية في تاريخ الشعوب والحضارات على مجمل التاريخ المصري التليد. فالشعب الذي يرتكن على إرث كبير وعريق ومتنوع من المساهمة والإنجاز الحضاري لا يزال قادرا على العطاء والإدهاش على نحو يفاجىء العالم من حولنا، ويرد على حقد أولئك الذين ينتظرون إعلان لحظة نهايته أو خروجه من التاريخ.
صحيح أن البعض سيسارع إلى الادعاء بأن النجم رامي مالك الفائز بجائزة الأوسكار هذا العام، ومحمد صلاح نجم ليفربول الأول، ليسا سوى حالات فردية لا تحمل دلالة، وأن نجاحات صلاح ومالك هي نتاج لبيئة نجاح ما كان لها أن تتوفر في بلدهم الأصلي، إلا أن النظرة المتأنية العميقة والفاحصة ستكشف عن سر خاص في هذا الوطن وجينات أبنائه الذي يفاجئنا بقدرته على العطاء من حين لآخر على نحو يندر أن يتكرر في محيطنا العربي أو حتى الشرق الأوسطي. فمصر هي البلد العربي الوحيد والأولى افريقيا التي تأخذ مكانها في قائمة الفائزين بنوبل على الرغم مما يتوفر لدى بعض البلدان الاخرى من ثراء وإمكانات هائلة لم تملكه مصر يوما.
المنصفون يعرفون أن قوة مصر الحقيقية نابعة من شخصيتها الحضارية، تلك الشخصية التي تضافرت عدة عوامل عدة على تكوينها من بينها الأزهر الشريف الذي ضمن لها حضورا وامتدادا قويا في العديد من بلدان العالم الإسلامي شرقا وغربا.. إفريقيا وآسيويا، ومنها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية التي تمثل المرجعية الدينية لملايين من المسيحيين المشرقيين في إفريقيا وآسيا، ومنها الزعامات الوطنية التي مثلت ولا تزال أيقونات ملهمة للتحرر والاستقلال الوطني للعديد من الشعوب التي رزخت تحت نير الاستعمار والامبريالية الغربية.
قوة مصر الناعمة نابعة من تلاحم ما بين شخصية وطن وشخصية شعب، شخصية وطن يصنعها موقع جغرافي عبقري جعل مصر محركا اساسيا في كل ملفات وصراعات وأحداث الشرق الأوسط، وهو ما جعل مفكرا عظيما مثل (جمال حمدان) يكتب عن شخصية مصر..عبقرية المكان، وثقلا تاريخيا لسلسلة متصلة من حلقات الحضارة، فرعونيا وعروبيا. إسلاميا ومسيحيا.
وشخصية الشعب الأمة، كما يطلق البعض على المصريين، تلك الشخصية التي تأتي خلاصة عناصر وعوامل يصعب حصرها في بضع سطور. غير أنه تكوين نجح في أن يفرز أمثال سيد درويش، وأم كلثوم، وعبدالوهاب، والسنباطي، والقصبجي وعبد الحليم وعشرات مثلهم غنائيا وموسيقيا، وأن يفرز عبدالباسط عبدالصمد، ومصطفى اسماعيل، والمنشاوي، والحصري وعشرات مثلهم ملكوا أفئدة محبي القرآن الكريم على امتداد بقاع العالم. تكوين نجح في أن يجعل من السينما والتلفزيون المصري والمسرح المصري أحد أهم مؤثر ثقافي ساهم في تشكيل الوجدان الإنساني على المستوى العربي، فالنكتة والقفشة المصرية هي المزاح الذي تنطق به كل شفة عربية، واللهجة المصرية هي التي يحتكم إليها الجميع حين يحيط الغموض بمفردات فصحى الأطراف في المغرب والمشرق العربيين.
وفي ضوء كل ذلك فإن اختيار رامي مالك الأمريكي المصري الذي يعتز بجذور عائلته المصرية ذات الاصول الصعيدية، ومحمد صلاح الفتى الريفي، ضمن أكثر شخصيات العالم تأثيرا وفق استفتاء التايم لم يكن سوى تعبير أو ترجمة بصورة ما، لتلك العبقرية المصرية التي يعن لها أن تتوهج من حين لآخر فتبهر العالم.
ربما تتراجع أو تخبو أو تغفو قوة مصر الناعمة قليلا لكنها سرعان ما تعود عفية متوهجة يقظة لتضع بصمتها الحضارية في تاريخ محيطها الاقليمي والعالمي، فقوة مصر الناعمة ربما تمرض، لكنها أبدا لا تموت.