عرفت مصر والبلاد العربية لسنوات طوال، ظاهرة الشعراء النجوم والأدباء النجوم (أعني الذين طاولت شهرتهم شهرة الممثلين الراسخين والمغنين الآسرين ولاعبي الكرة العمالقة).. ففي شعر العامية المصرية بلغ عبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم قمة الجبل على الرغم من سيرهما في اتجاهين مختلفين.. الأبنودي لا يوالي السلطة لكنه لا يعاديها أيضا ويحيي مناسباتها الوطنية ويلتقي برجالها ويشيد بهم ويستضاف بإعلامها وإن بقيت قصيدته مناوشة للسلطة ومتحفظة على كثير من تصرفاتها وناقدة لأوضاع إنسانية بائسة حتى لو رآها السياسيون الموالون للأنظمة عظيمة.. وكانت لهجته الصعيدية الحميمة سببا من أسباب ارتباط الجماهير به وترديدهم لأعماله بطريقته اللسانية نفسها. ويبدو أنه أدرك الأمر مبكرا فتمسك بهذه اللهجة وحرص عليها، ولم يفرط فيها.
في المقابل كان فؤاد نجم على يسار السلطة دائما، وكانت تجربته الغنائية الطويلة مع الشيخ إمام عيسى عنوانا كبيرا للمعارضة الحادة، كالمنشورات السرية، وكانت قصائده أكثر مباشرة ووضوحا في اجترائها على أصحاب الصولجان والأثرياء، وعلى الرغم من منعه الرسمي من الظهور، على عكس الأبنودي إلا أنه كان منتظرا بقوة في الاحتفاليات الشعرية وفي الشارع مع الغليان الشعبي المعبر عن غضب الجماهير من الحكومة والقيادات. وكان له كلامه الذي ككلام العوام الساخرين منفلتي الألسنة من أبناء الأزقة والحارات، ولم يغيره هو الآخر، ولم يغير جلبابه البسيط قط، إذ ربما وجد نفسه هكذا أكثر اتساقا مع النفس والتصاقا بالقطاع العريض من الناس.
وبنسب أقل من هذين القديرين (يرحمهما الله) كانت نجومية أساتذتهما من الرواد كعبد الله النديم وفؤاد حداد وصلاح جاهين، وبينهم الرائعان سيد حجاب وفؤاد قاعود وغيرهما من الرموز الخالدة في تاريخ شعر العامية المصرية.
في شعر الفصحى لم ينل شاعر ما ناله من النجومية شاعرا القضية الفلسطينية محمود درويش وسميح القاسم، سيما الأول، ولم ينل شاعر ما ناله من النجومية شاعر سوريا الكبير نزار قباني، ويكفي أنه كان يسير وسط حرس خاص وله مدير أعمال ومسؤولون عن حركته في العالم، وكذلك الشاعران العراقيان الفريدان المحبذان لدى المعارضين العرب: مظفر النواب وأحمد مطر وشاعر اليمن العمودي عبد الله البردوني وشاعر السودان محمد الفيتوري. وبنسب أقل كانت نجومية أمل دنقل وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وفاروق جويدة وفاروق شوشة في مصر.
في عالمي الفكر والأدب فاقت نجومية العظيمين طه حسين وعباس العقاد أضواء كافة النجوم في عصرهما، وعرفهما عوام الناس كما عرفهما أهل الاختصاص، وكانت المنافسة بينهما محل اهتمام الجميع وطبيعة علاقتهما موضع انشغال الصحافة والشارع.
وفي الرواية والقصة سبق العالمي نجيب محفوظ كل الأسماء، واستولى يوسف إدريس على عقول القراء، وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي على وجدانهم، وكلهم كانوا ضيوفا دائمين على الإعلام المرئي والمسموع المتاح بأوقاتهم، وكانوا في استقرار وظيفي وأسري، وكان الناس يعرفون ملامحهم كما يعرفون مشاهير الفن والرياضة.. وفي البلاد العربية كانت أسماء عديدة كالطيب صالح في السودان وواسيني الأعرج في الجزائر وحنا مينه في سوريا وعبد الرحمن منيف في السعودية.. وبنسب أقل، عبر الأجيال، كانت أسماء يحيى الطاهر عبد الله ورضوى عاشور وعبد الحكيم قاسم وإبراهيم أصلان وأحمد خالد توفيق في مصر (مثالا لا حصرا) وكانت أسماء غادة السمان في سوريا وأحلام مستغانمي في الجزائر وإميلي نصر الله في لبنان.
ظاهرة إيجابية
ظاهرة نجومية الشعراء والأدباء، من الظواهر الإيجابية للغاية؛ فهي سهم يشير إلى البعد الأعمق في الحياة منبها إلى قيمته المخفية.. غير أن تلك الظاهرة اضمحلت، بفعل الموت والتقوقع ،وطغيان إعلام جديد التوجهات، لا يعتد بالكتابة وأهلها، وغلبة مادية زمنية مفرطة تفتتت بموجبها الكتل الكبرى وتآكلت الأشياء الأنفس والأثمن.
ما زال بين الحاليين من يمكن وصفهم بالنجوم في الشعر والأدب لكنهم عدد نادر للأمانة؛ ولعل سبب ندرة هؤلاء، بالإضافة إلى شيء مما ذكرناه آنفا، يرجع إلى كثرة الجديد ومن ثم ضياع معظمه في زحام الإنتاج الشعري والأدبي المتصارع، مع ضعف الحركة النقدية واضمحلالها، وهي التي كانت تنوه عن الأسماء الجديرة بالنجومية وتتابعها إلى أن ترتفع بها إلى العلو الشاهق المستحق بموضوعية وبلا مصلحة.
أسباب الأفول
ومن بين الأسباب الاخرى أيضا التي أفلت بموجبها نجومية الشعراء والأدباء، حركة الاقتصاد المتقلبة التي أحدثت فجوات هائلة في الكيان الاجتماعي؛ فقدمت الأدنى على الأعلى في اهتمامات المجتمع، وتركته ظامئا متخبطا لا يعنيه حرف لامع ولا صاحبه، بل قد يرى العملية الإبداعية برمتها كأنها الفراغ والأكاذيب، فلا صلاح للأحوال من ورائها فيما هو ظاهر، وما يعني الفرد حقا أن يوفر لبيته الغذاء والدواء، ولأطفاله الكساء واللعب، وهو ما يناقض شراءه للكتب مجنونة الأسعار، والتي يبشر معظمها بالعمران والواقع من حولها خرب.
وقد يظل النجم الواقعي، في اليقين المجتمعي، هو الممثل والمغني ولاعب الكرة، لا لشيء إلا لأنهم يسلونه ويخففون عناءه وينصرونه نفسيا، وأما الكتابة عموما فلا تكاد تخلو من الهموم، والمطالعة صارت عملية شاقة مع يسر مشاهدة المواد المصورة ووفرة متعها..
كي نستعيد ما فات من تلك النجومية الغابرة، ونعزز النادر الذي بقي منها؛ علينا أن نفرز العطاءات الشعرية والأدبية الجمة بمعيار الصدق وحده، ونحدد الأجود والأبلغ، ثم نفتح للمبدعين الحقيقيين الفارقين آفاقا أحدث وأرحب، ونجعل لهم رعاة، وندعم حضورهم ونتفقد غيبتهم، ونعلم الجماهير كيفية الفصل بين الحاصل والمأمول كي لا يتهموا المبدعين الأفذاذ ببيع الوهم وجموح الخيال، ونعلي، من البداية كأننا لم نكن سرنا أميالا، معنى الشعر والأدب في بلادنا.