ثقافة

الصراع العربي الصهيوني.. مآلات التسوية المُجحفة ترفع أسهم المقاومة

كيف تجمع المشتتون في بقعة واحدة مؤسسين دولة لهم؟!

بدأت الدولة كحُلم بعيد المنال، ولكن مع السعي والمثابرة والإصرار تحول الحُلم إلى واقع، وبدأ جني ثمار ما تم زرعه على مدار عقودٍ طويلة، فلم تَحُلْ الفرحة بالنجاح دون الاستمرار في تقوية البنيان أو السعي من أجل ازدهاره وحمايته، بل توالت الأفراح بالنجاحات المتلاحقة، واستمر التخطيط لنصر تلو الآخر دون اكتفاء.

فالحُلم الذي أصبح الآن واقعًا، تشكل بقوة في مخيلة مؤسسي الحركة الصهيونية، خلال القرن التاسع عشر الميلادي، فلم تلبث موجات الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين؛ إلَا أن بدأت. وقبل أن ينتصف القرن العشرون أُعلِن ميلاد دولة إسرائيل، فور انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وذلك قبل أن ينتصف شهر مايو عام 1948، لتبدأ نكبة أرض لا يتوقف الصراع عليها، ولتستمر معاناة شعب ما زال يراوده حُلم التحرر من أسر الاحتلال، وحُلم العودة إلى وطنه، بعدما هُجِّر مئات الألوف منهم قهرًا أو طوعًا.

ولأن مأساة اللاجئين داخل فلسطين وخارجها؛ لا يمكن أن يكون لها حل، سوى عودة أرض فلسطين لأهلها الفلسطينيين؛ فإن ذات المنظمة التي اعترفت بوجود دولة ليس لها الحق في الوجود، من الممكن أن تمد يد العون للاجئي فلسطين، ولكنها لن توقف مأساة ذلك الشعب، الذي وافقت ضمنيًّا على تشريده من قبل.

فمنظمة الأمم المتحدة التي تأسست قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبدأت عملها عقب انتهاء الحرب مباشرة في أكتوبر عام 1945، كان عليها أن تمد يد العون لأرض الزيتون؛ خاصة مع بداية كتابة صفحة جديدة من تاريخ العالم، ولم لا؟! وهي التي اتخذت من أغصان الزيتون جزءًا من شعارها ومن عَلَمها! ففي عام 1947، اعتمدت الأمم المتحدة خطة تقسيم فلسطين، التي توصي بإنشاء دولة يهودية وأخرى عربية، على أن تكون القدس تحت وصاية دولية، ليبدأ احتضان اليهود المشتتين في وطن واحد، ويبدأ أيضًا تهجير الفلسطينيين من وطنهم؛ ليتحول الملايين منهم إلى لاجئين داخل وخارج فلسطين، فلم تتركهم تلك المنظمة الدولية دون أن تغيثهم عن طريق وكالة الإغاثة الدولية “الأونروا” التي بدأت عملها الميداني في إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1950، ولكن الشعب الذي هُجِّر من أرضه فاقدًا وطنه، لن تُحل مشاكله ما بقي لاجئًا، ولذلك فإن معاناة الشعب الفلسطيني ما زالت مستمرة حتى اليوم، لأن وطنهم ما زال مسلوبًا منهم إلى الآن، فلم تقدم منظمة الأمم المتحدة حلًّا عادلًا لقضيتهم، بل أيدت سرقة وطنهم منهم بالتدريج عن طريق اتفاقيات لن تعيد لهم حقوقهم بقدر ما سيستفيد منها أعداؤهم.

اتفاقيات التسوية السلمية.. معاهدات للتقسيم وليس للتحرير:

إن الثورات والحروب هي السبيل لاسترداد ما تم سلبه بالقوة عن طريق القوة، أما اتفاقيات التسوية فهي مجرد معاهدات لإدارة ما تم تقسيمه، والذي لن يتم تحريره بتوقيع اتفاقية سلمية، يكون فيها المحتل هو الطرف الأقوى. فعلى سبيل المثال بعد ما يقرب من تسعين عامًا على استيلاء القوات الصليبية على بيت المقدس، كانت معركة حطين هي التي مكنت صلاح الدين الأيوبي من استرداد المسلمين للقدس عام 1187م ولولا سقوط المدن والحصون والإمارات الصليبية الواحدة تلو الأخرى بعد ذلك لما تم تمويل الحملة الصليبية الثالثة عام 1189م من أجل إيقاف تقدم جيش صلاح الدين ومواجهة قوته العسكرية. وفي هذه الحملة تم حصار عكا وحاميتها الأيوبية لما يقرب من عامين حتى سقطت عام 1191م ثم هُزم جيش صلاح الدين في نفس العام في معركة “أرسوف” التي وقعت بدورها مرة أخرى في أيدي الصليبيين، إلى أن تم تحريرها على يد السلطان المملوكي “الظاهر بيبرس” عام 1265م.

وفي عام 1192م وعلى إثر معركة “أرسوف” تم توقيع معاهدة الرملة بين صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد، إذ كان الطرفان غير قادريْن على مواصلة القتال، وكلاهما بحاجة إلى هدنة تسمح بإعادة ترتيب البيت من الداخل، وتقوية عتاد الجيوش من جديد، ومن ثم نصت بنود الصلح على توقف الحرب لمدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر.

وهكذا لم يتم تحرير القدس من أيدي الصليبيين في الماضي؛ إلا بعد قتالهم والانتصار عليهم، وعندما أبرم الصلح بين الطرفين المتحاربين، كان من أجل الاستعداد من جديد لمواصلة القتال، وليس لإعلان الانسحاب من ساحة القتال للأبد. وإذا ما قمنا بإلقاء نظرة سريعة على تاريخ مشاريع التسوية السلمية الخاصة بفلسطين؛ فسنجد أنها معاهدات بين دولة غاصبة وشعب احتلت أرضه وانتزعت منه رغمًا عنه؛ ومن ثم فإنها دائمًا تنتقص جزءًا من أرض وطنهم، وجزءًا من حريتهم في تقرير مصيرهم، وجزءًا من سيادتهم التامة على دولتهم، لذلك لا مناص من استكمال الحركات التحررية الوطنية لكفاحها ونضالها من أجل نيل الاستقلال والحرية.

وها هو النزاع بين شعب فلسطين والمنظمات الصهيونية المحتلة لأرض فلسطين، بات منذ عدة عقود يُعرف بالقضية الفلسطينية، التي توقع العديد من اتفاقيات التسوية السلمية من أجل حسمه، ولكنه لن ينتهي ما دامت تلك التسويات غير عادلة. وكيف يمكن لمثل تلك التسويات أن تكون عادلة، وهي لا تعكس سوى مدى تأثير سلطة القوى المهيمنة على العالم، صاحبة القرار غير المسموح بالاعتراض عليه؟ وما دامت موازين القوى العالمية لم تتغير، وما دامت السلطة المهيمنة على العالم لم يقف في مواجهتها بعد من يجبرها على تغيير حساباتها، فكيف يمكن فرض تسويات جديدة عادلة تعيد للشعب الفلسطيني حقوقه المسلوبة وأرض وطنه المنهوب؟ لذلك فإن اتفاقيات التسوية السلمية لن تكون مجدية ما دامت لن تعيد للفلسطينيين كامل حقوقهم في أرضهم بأكملها، وسيادتهم الشاملة عليها، ومن ثم خروج المحتل منها نهائيًّا.

الصراع بين البقاء والاحتلال أو الرحيل والتحرر:

إن التضاؤل الذي لحق بمساحة دولة فلسطين، منذ إعلان قيام دولة إسرائيل، والتقزم الذي أصاب الدول التي تم اقتسامها بعد سقوط الخلافة العثمانية؛ ليس غريبًا أن يصاحبه الفصل العنصري على أرض فلسطين، وإقامة الحواجز العازلة في جنبات مدنها وداخل أبنيتها المقدسة، والذي لا يختلف كثيرًا عن ترسيم الحدود المصطنعة بين الدول المجاورة لها بل وبين كل دول العالم. ففكرة التقسيم واحدة، والهدف منها هو التقزم والتشرذم وعدم التوحد، والصراع بين إسرائيل المزروعة قهرًا في قلب العالم العربي، وبين العرب هو صراع وجودي للإبقاء على كيان مصطنع لم يكن له وجود، في مقابل القضاء على شعوب ذات حضارة عريقة، استطاعت أن تتعايش سويًّا على مدار قرون طويلة. وبداية التحرر تتمثل في الاكتفاء الذي به لا تكون المنطقة العربية مُصدِّرة لموادها الخام ومستوردة للسلع الاستهلاكية؛ بل مصنعة لموادها الخام ومصدرة لما تُصنعه، والذي به يُستغنى عن القروض وتسديد الديون دون أية ذيول، عندئذٍ ستكون كلمة العرب مسموعة ولها وزن، وسيبدأ طريق الحرية والتقدم الحقيقي والقرار المستقل.. لذلك فإن الواقع الحالي لا يفرض سوى استمرار الصراع بين الصهاينة المستندين على عقيدتهم في وطن للشعب اليهودي في أرض الميعاد، وتدعمهم القوى الاستعمارية في العالم من أجل أطماعهم في المنطقة العربية، وبين من لم يتنازل من العرب عن استعادة كل شبر في أرضهم، وتحرير كل الأراضي المحتلة دون أية تنازلات، وبالقطع ذلك النوع من الصراع لن تحله التسويات والمماطلات من أجل إعطاء الشرعية، لما اغتصب، بل عن طريق القوة وبذل الدماء من أجل تحرير ما استولِيَ عليه.

ولذلك عندما تأسست منظمة التحرير الفلسطينية، ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، في المحافل الدولية.. كانت هي الهيئة التي تطالب بحقوق الشعب الفلسطيني، وأهمها حقه في تقرير مصيره، فكانت تعبر عن إرادة ذلك الشعب، إذ كان الهدف من إنشائها هو تحرير فلسطين عبر الكفاح المسلح، ولكنها تبنت فيما بعد فكرة إنشاء دولة ديمقراطية مؤقتًا في جزء من فلسطين، بعدما كان نص تأسيسها الذي صدر في القدس في الثامن والعشرين من شهر مايو/أيَّار عام 1964، يؤيد حق الشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين، ويؤكد على حتمية معركة تحرير الجزء المغتصب منه، ويصر على إبراز الكيان الثوري الفعال، وتعبئة طاقاته وإمكانياته وقواه المادية والعسكرية والروحية.

ومع تأسيس الحكم الذاتي الفلسطيني، أو ما يُعرَف بالسلطة الوطنية الفلسطينية، التي تشكلت عام 1994، بموجب اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية، وحكومة إسرائيل كهيئة مؤقتة مدتها خمس سنوات؛ تغيرت لغة المفاوضات وتضاءل سقف الأحلام؛ فاكتفي بالتفاوض حول ما آلت إليه فلسطين من مساحة محصورة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتالي يظل الكيان الصهيوني يمتلك المساحة الأكبر التي لا يمكن النقاش بشأنها، ولتظل القدس محل نزاع لا ينتهي وتظل مقدساتها الإسلامية تُنتهك وتُدنس كل يوم على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي، دون أن يحرك ساكنًا. ومع انتخاب ياسر عرفات في عام 1996، رئيسًا لمناطق الحكم الذاتي الفلسطيني؛ غيرت منظمة التحرير الفلسطينية بصورة رسمية الجمل والعبارات التي كانت موجودة في ميثاقها والداعية إلى القضاء على دولة إسرائيل، واكتفى رئيس السلطة الفلسطينية بالتعهد بمحاربة “الإرهاب”! ومنذ ذلك الحين لم تتوقف المحادثات من أجل التوصل إلى تسوية سلمية نهائية، مثلما لم تتوقف انتفاضات الشعب الفلسطيني الثائر من أجل انتزاع حريته وتحرير أرض وطنه.

وإذا الآن بالمعارضين للسلطة الفلسطينية يضطهدون أو يعتقلون أو يغتالون مثلما حدث منذ عام مع شهيد الخليل، نزار خليل بنات.. في قمعٍ واضحٍ للحريات، وإهدارٍ بيِّن للكرامة الإنسانية، وإفلاتٍ بالتدريج من العقاب ليُكتَب سطرٌ حزين في صفحة النضال الفلسطيني كنتيجة طبيعية لبروتوكول الخليل عام 1997، بين السلطة الفلسطينية وحكومة الاحتلال الصهيوني، ولكن شمس العدالة ستسطع قريبًا على الأرض التي آن لها أن تنعم بحريتها.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock