قرأت أحدث كتب الأستاذة صافي ناز كاظم «وما المسرح إلا دنيا صغيرة» الصادر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر، ثم سألت نفسي: لو عشتُ إلى الثمانين فكيف سأكون؟.. لم تجاملني نفسي فقالت: أغلب الظن أنك ستكون كومة من عظام مهدم. حمدت لنفسي صراحتها وبقي السؤال، كيف للأستاذة صافي ناز كاظم وهى المولودة في العام 1937 أن تحتفظ بكل هذه اللياقة؟
نعم هى حفظت شبابها، فصانتها شيخوختها، لكن هذه الفرحة التي تجعل كلماتها ترفرف كأنها فراشات الحقول تحتاج لتفسير آخر.. إنه الشغف، فقد جاء في الذكر الحكيم «قد شغفها حبًا».
يقول المفسرون: شَغَاف القلب هو حجابه وغلافه الذي هو فيه، ومعنى شغفها حباً أن حب امرأة العزيز ليوسف عليه السلام قد خرق حجاب قلبها ،فدخل تحته حتى غلب على قلبها. فإن أنا رفعت اسم يوسف عليه السلام ووضعت «النقد» فسيستقيم عندي أمر الأستاذة صافي ناز.
حصلت كاتبتنا الكبيرة على ليسانس الآداب قسم الصحافة من جامعة القاهرة قبل ستين سنة من عامنا هذا، ومن يومها وهى لا تكف عن النقد، صانعة بمفردها حالتين فريدتين، فمرة يكون نقدها «سبقًا» فتبشر بأصوات وتنشر كتابات لأسماء لم يكن مرحبًا بها (راجع كتابتها عن أمل دنقل في بداياته ونشرها لجرئ قصائده وكذا فعلت مع محمود درويش، وما ذكرها الدائم للعلامة وديع فلسطين إلا حلقة في هذا السياق). ثم بعد «التبشير» تسلط مصابيحها المضيئة على أسماء لم تحصل على ما تستحقه من تكريم رغم جدارتها وثراء عطائها. في الكتاب الذي بين يدي مقال عن الشاعر والمترجم والمسرحي يسري خميس، رحمه الله، رد للرجل حقه، بعد أن تجاهل كثيرون ذكره.
تلك كانت الحالة الأولى التي يصنعها نقد صافي ناز، أما الحالة الثانية فهي حالة عصا موسى عليه السلام: «وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ».
وتلك حالة صعبة جدًا وعصية، ولا يستطيعها سوى الشجاع المبصر، الذي يراهن على الخير والحق والجمال، فكأن الأستاذة صافي ناز في حالتها تلك قد نظرت إلى قول الصادق الأمين عليه صلوات الله: «أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ». فقد علمت كاتبتنا الكبيرة أن سمًا زعافًا يجري في عروق الأوبرا الشهيرة «عايدة» فلم تمنعها هيبة الناس أن تكتب مرة واثنتين وثلاث مرات، محذرة كاشفة عن مرامي العمل البعيدة.
وستعرف أن ما فعلته صافي ناز هو من أعمال الشجاعة المبصرة عندما تعلم أن الدولة (وهذا عجيب جدًا) لا يكمل لها احتفال إلا بعرض هذه الأوبرا، وأن الدولة هى الجهة الوحيدة القادرة على الإنفاق على عرض كهذا، ولأن الدولة هى الراعية فلا يجرؤ سوى صافي ناز كاظم على كشف عورات العمل.
في فصل من فصول الكتاب حمل عنوان «وعادوا بأوبرا عايدة لنعود ونذكّر» تُشرّح صافي ناز بمشرط جراح ماهر قصة الأوبرا فتقول: «مثل الحمى الموسمية تعود أخبار تلك التي يصرون على تسميتها أوبرا «عايدة» وهي في حقيقتها أوبرا «آييدا» غير العربية وغير المصرية وغير الفرعونية».
مقال صافي ناز كان بمناسبة تبني الدولة للعرض احتفالًا بنصر رمضان أكتوبر العظيم والخالد. فما علاقة جسارة واستشهاد أولاد الدلتا الخصبة والصعيد المقاوم الذين حطموا كبرياء العدو بأوبرا من شغل الخواجات؟
كأن سؤالي هذا، كان هو سؤال كاتبتنا الكبيرة، وعنه تجيب فتقول: «يقول مخرج العرض ومدير الأوبرا عبد المنعم كامل: «إن أوبرا عايدة تعد إحدى العلامات الفنية المصرية أمام العالم». وترد عليه صافي ناز: «مؤلف الحكاية الفرنسي أجستو مارييت والموسيقي فيردي، وقائد أوركسترا العرض المزمع إقامته هو المايسترو الإيطالي مارشيللو موتاديللي وكورال أكابيلا بقيادة ألدو مانياتو ومايا جيفينيريا».
https://youtu.be/-uSKf3fWVqU
أقول أنا: شاركونا البحث عن مصرية الأوبرا.
أما عن قصة الأوبرا فتقول كاتبتنا الكبيرة: «دعوني أنعش ذاكرتكم وأحكي لكم بكل أمانة محتوى هذه الأوبرا التي تم تقديمها لأول مرة على خشبة مبنى الأوبرا الخديوية بالقاهرة 24/12/1871.. آييدا بنت ملك إثيوبيا، وحكايتها تبدأ بوقوعها في أسر المصريين، الذين كانوا في تلك المرحلة التاريخية في حالة عداء وحرب مستمرة مع الإثيوبيين، تأخذها ابنة فرعون مصر إمنريس في خدمتها بين عبيدها. يقع الجندي المصري الشاب راداميس في غرام آييدا، كيف؟ ولماذا؟ لا نعرف، وتبادله آييدا الحب في الوقت الذي نعرف فيه حب إمنريس، ابنة فرعون له.
يقوم الكهنة بتكليف راداميس بقيادة جيش الدفاع عن الأراضي المصرية، التي تم الاعتداء عليها من قبل الإثيوبيين. تغني له ابنة فرعون المحبة «عد منتصرا»، وتعرف آييدا أن والدها، ملك إثيوبيا، قادم على رأس الجيش الذي سيواجهه حبيبها راداميس فتغلب حبها لبلادها وأبيها، على حبها لـراداميس وتكرر أغنية «عد منتصرا» وفي نيتها نصر والدها ملك إثيوبيا، ونصرة بلادها التي تشتاق إليها.. تكتشف ابنة الفرعون علاقة الحب بين خادمتها آييدا وبين حبيبها راداميس، ومثل كل العاشقين تدب الغيرة في قلبها وتناصب غريمتها آييدا العداء، ولكن ليس لدرجة الإيذاء.
وحين يعود راداميس محققا النصر لمصر يقرر فرعون مصر إكرامه بتزويجه ابنته، لكن راداميس قلبه متعلق بـآييدا التي تتعرف على والدها ملك إثيوبيا، بين الأسرى الذين جلبهم راداميس حبيبها. يطلب ملك أثيوبيا الأسير من ابنته آييدا عدم الإعلان عن حقيقته الملكية، ويؤكد لها أن المعركة مع المصريين لم تنته، وأن حشودا إثيوبية مستعدة للتحرك، ويحثها على الهرب معه بعد أن تعرف من القائد المصري خط سير القوات المصرية.
تخضع آييدا لمطلب والدها وتنجح في استدراج حبيبها، إلى فخ الإدلاء بالسر العسكري، ويتم تقديمه للمحاكمة بتهمة الخيانة ـ طبعا ـ ويحكم عليه الكهنة بالدفن حيا حتى الموت. يأسف راداميس حين يعرف أن آييدا هربت مع والدها ملك الإثيوبيين من دون أن يراها ويودعها ـ (لاحظ منتهى الخسة والنذالة من قائد يفضل غرامه على حب البلاد التي مجدته وحملته الأمانة) ـ تتضرع ابنة فرعون إلى راداميس ليتزوجها لأنها تحبه وهي كفيلة بإنقاذ حياته، لكنه يؤكد أن الموت عنده أفضل من خيانة آييدا.
ويهبط القائد الخائن الخسيس إلى قبو الموت، وإذا به يجد آييدا تنتظره لتموت معه، بعد مقتل أبيها الذي كان ينوي إذا نجح في الهرب إعادة الاعتداء على مصر في معركة جديدة. وتنتهي الأوبرا بلقاء العاشقين مرحبين بالموت معا، بينما تكون ابنة فرعون فوق القبر تبكي الحبيب بلا طائل، ونجد النهاية الدرامية تمجد القائد المصرى الخائن وتوحده مع ابنة الأعداء آييدا، (فهل هذه هي القيمة المناسبة لتتزامن مع الاحتفالات بنصر أكتوبر؟).
هذا المقال لن تجد له نظيرًا في النقد المصري لأوبرا عايدة أو «آييدا»، فالذين يعرفون الأوبرا هم، بين واقع في غرام كل ما تقذفنا به أوربا، أو مجامل للدولة التي ترعى العرض وتحتفي به، أما صافي ناز كاظم فتقوم وحدها مؤدية حق الشغف وحق الفطنة.